في خضم أزمة الناشطة الصحراوية أمنتو حيدر التي شهدها المغرب قبل عام، عندما منعت سلطاته هذه المدافعة عن الحقوق المدنية والسياسية للصحراويين من العودة إلى بيتها بمدينة العيون (كبرى حواضر الصحراء المتنازع حول سيادتها بين المغرب والبوليساريو)، طرح المغرب فكرة "الجهوية الموسعة" أو ما يطلق عليه أيضا بنظام الأقاليم، أي منح مناطق من البلدصلاحيات كبيرة في تدبير شؤونها العامة، كمفتاح لحل القضية وللمشاكل التي أصبحت تتعاظم في بلد يتعدى سكانه 35 مليون نسمة. ومنذ ذلك التاريخ والخطاب الرسمي المغربي، بل وحتى الأكاديمي والإعلامي بتأثير من الجهات الرسمية، يقدم هذا المفهوم كحل سحري لكل مشاكل البلد. ولبناء تصور لهذا المفهوم يتماهى مع التجربة المغربية تم إسناد مهمة صياغة مشروع "الجهوية الموسعة" أو "الجهوية المتقدمة"، حسب تعابير الإعلام الرسمي المغربي، إلى لجنة استشارية ملكية عهد إليها بوضع تصور متكامل لما يريده المغرب من هذا المفهوم وحسب ما يناسب قوانينه وخصوصياته. وينتظر أن يتم الإعلان عن هذا المشرع قبل نهاية العام الحالي بعدما تم تمديد عمل اللجنة لعدة شهور أخرى. جهوية "مغربية مغربية" وفي انتظار أن تعلن اللجنة الملكية عن تصورها الذي سيقدم إلى الملك لتزكيته، وليس إلى البرلمان أو الحكومة بما أن هاتين المؤسستين تم تغييبهما في كل مراحل اقتراح وبلورة هذا المشروع، يمكن من الآن خاصة مع اقتراب خروج هذا التصور إلى العلن، طرح العديد من الأسئلة التي قد تساعد على تصور حدود المشروع المغربي في بناء "جهوية موسعة" قد تكون الأولى من نوعها في العالم العربي. ففي خطابه الذي أعلن عن اقتراح جهوية موسعة، حدد العاهل المغربي الملك محمد السادس ملامح الجهوية التي يتصورها لبلاده عندما دعا إلى احترام الخصوصية المغربية في وضع أي تصور لجهوية قال إنها يجب أن تكون ذات خصائص "مغربية مغربية". وعلى هذا النحو يكون العاهل المغربي قد رسم الملامح الأساسية لمفهوم نظام الجهوية الذي يتخذ أشكالا متنوعة ومتعددة حسب تجارب الدول التي اعتمدته كنظام محلي لتدبير شؤون مواطنيها العامة. فالتصور المغربي كما تريده "الإرادة الملكية" سيختلف حتما عن التجربة الإسبانية، باعتبارها الأقرب تاريخيا وجغرافيا إلى المغرب، والتي بنيت على أنقاض الديكتاتورية معتمدة على مفهوم الدولة الجهوية التي تقوم على مجموعات مستقلة تتمتع بالاستقلال الذاتي في تسيير شؤونها المحلية وفقا لقانونها الأساسي التي تسهر بنفسها على تشريعه. كما ستختلف "الجهوية المغربية"عن تجربة الولايات الألمانية القائمة في إطار نظام فيدرالي، وقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن أشاد بها كنموذج يمكن أن تجد فيه بلاده مخرجا لقضية الصحراء الغربية. لكن التجربة الألمانية جاءت كاختيار من قبل الألمان للحد من سلطة المركز ولمنع قيام الدولة الاستبدادية التي قادتهم إلى حربين عالميتين مدمرتين. نفس الشيء يكاد ينطبق على التجربة الإيطالية التي جاءت كاستجابة لمطلب تحديث وتقوية الدولة والحفاظ على سيادتها مع تعميق التعددية السياسية والثقافية التي حاول النظام الشمولي محوها. لقد ضربنا المثل بهذه التجارب الثلاث، الإسبانية والألمانية والإيطالية، لكونها خرجت من رحم دول عانت من المركزية الشديدة في التسيير والحكم ونجحت في تبني أرقى أشكال الجهوية العصرية. لكن المقارنة هنا قد تبدو ظالمة وغير موضوعية لاختلاف السياقات التاريخية للتجارب الثلاث فيما بينها من جهة ومع التجربة المغربية من جهة أخرى،مع الملاحظة بأنالتجارب الأوروبية الثلاث تشترك في خاصية واحدة وهي أنها قامت على أنقاض النظام الذي سرع بمجيئها، في حين أن النظام السياسي المغربي الحالي، الذي يقوم على مركزية شديدة تركز كل السلطات في يد الملك، هو الذي يقترحها ويضع لها حدودها وآفاقها. الجهوية والحكم الذاتي كما يأتي طرح المغرب لمفهوم الجهوية في سياق البحث عن مخرج كفيل بوضع نهاية لنزاع الصحراء الغربية الذي عمر أكثر من 35 سنة، فهو يأتي بالتزامن مع اقتراح المغرب منح أقاليم الصحراء حكما ذاتيا موسعا تحت السيادة المغربية، ولإستباق المشاكل الذي قد يطرحها هذا الحل في حالة تبنيه سارع المغرب إلى طرح مفهوم "الجهوية الموسعة" لكامل جهات ومناطق المملكة لمنع أي تقابل بين دولة مركزية وجهة واحدة تتمتع بالحكم الذاتي، مما قد يثير نعرات جهوية المغرب اليوم في غنى عنها. لكن طرح المغرب في نفس الآن لمفهومين متعارضين هما، الحكم الذاتي لأقاليم الصحراء، كحل سياسي لقضية الصحراء الغربية والجهوية الموسعة كحل سياسي لمشاكل الديمقراطية المحلية والتنمية الجهوية، يطرح أكثر من سؤال حول الغايات السياسية من كلا الطرحين، خاصة مع انعدام وجود ديمقراطية حقيقية وفي ظل تشبث النظام السياسي المغربي بصلاحيات واسعة يستمدها من شرعية تاريخية ودينية غير قابلة للنقاش. لقد اعتمدت نظم الجهوية في تجارب الدول الغربية كمدخل لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة من خلال إعادة النظر في البناء المؤسساتي للدولة وإعادة توزيع الاختصاصات بين المركزي والمحلي وإشراك واسع للنخب المحلية في تدبير شؤون السكان وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. ففي التجارب العالمية الناجحة تم اعتماد الديمقراطية كآلية للوصول إلى الأهداف المتمثلة في التنمية، أما في التجربة المغربية فيتم تقديم الأهداف على الآليات، أي تحقيق التنمية كهدف مستعجل على حساب الديمقراطية التي يمكنها أن تنتظر، وقد نجح هذا النموذج في سياقات تاريخية محدودة في بعض دول شرق آسيا التي لم تكن تدعي قط بأنها ديمقراطية، وفشلت حتى الآن العديد من التجارب العربية بما فيها المغربية في إعادة استنباته في تربتها لأنها تريد أن تجمع مابين التمنية والديمقراطية والاستبداد بكل ألوانه. * كاتب صحافي مغربي المصدر : موقع " دويتشه فيله " الألماني