المؤسسة أصبحت ترسم حدودا للكتابة، مضيقة من مجالها ومؤطرة لتناهيها عندما تحصر الكتابةفي أسماء بعينها، لذلك على المؤسسة أن تغرق في شساعة الكتابة، ليس باعتبار الكتابة قناعا للمؤسسةتقوم باخفائها والتستر عليها ،بل باعتبار الكتابة هي الأصل والحقيقة الوحيدة التي نأتيها بدون واسطة، وباعتبار الكتابة غريزة وشهوةيجب اشباعها دون مأسستها في إطار علاقات تقوم بوظيفة الاعتراف أوالالغاء والتوزيع غير العادل للخيرات المادية والرمزية.. فالكتابة هي طاقة فنية اختلافية تشكيلية بعيدة عن التمركز والاستئثار فهي مبذولة بسخاء .. لذلك فالمؤسسة الثقافية يخيفها ويربكها فائض الكتابة، لذلك تعمل على مركزتها في أسماء معينة وتمثيلها في فئة دون أخرى، كشكل من أشكال الاحتماء من فوضى الكتابة وفيضها، لذلك توظف المؤسسة بعض أدواتها للجم جموح الكتابة وانتشارها مثل الانطولوجيات وبطائق العضوية والجوائز والنشر.. فهي أدوات للتسييج والتشذيب والتقنين، تبرز فيهامجموعة من السلط مثل الاعتراف والإلغاء والإبراز والحجب والتقديم والتأخير، فتلك الأدوات ليست بريئة تماما إلا إذا افترضنا أن الموكل بها هو إله منزه عن الهوى والخطأ، فتلك الأدوات هي أدوات تصويب وتخطيء وفرز وعزل ودحض وإثبات وكأنها تشتغل أمام منظومة أخلاقية أودينية قطعية وليست أمام نصوص كتابية إبداعية نسبية، لذلك لا نستغرب من بعض المؤسسات أوالجهات التي تشترطفي التقدم لنيل جائزة من جوائزها (سيرة إبداعية) للمشارك ، فتلك (السيرة الإبداعية ) تعفي لجنة التحكيم من (الخطأ) ، والخطأ هنا هو في إجازة اسم مغمور على حساب اسم مشهور، وربما تعفي تلك (السيرة الإبداعية ) اللجنة حتى من قراءة الأعمال المقدمة، لذلكيتم تكريس نفس الأسماء وتثبيتها، ومعها تكريس وتثبيت نفس النصوص مما لا يسمح بانسلالنصوص مختلفة ومغايرة، وبالتالي مصادرة الاختلاف وخنق الكتابة من خلال تنميطها وتوحيدها، والرمي بالنص في موجة من الاستلاب مادام النص غير دال إلا على أسماء بعينها ، وهذه (السيرة الإبداعية) قد لا تكون دائما معلنة في ورقة الشروط، بل مخفية وفي نفس الوقت فاعلة عندما يتم توظيف معيار خفي من لدن الفارز والمحكم وهذا المعيار هو ( أعرف هذا الاسم، أولا أعرفه ).. وكل هذه الأدوات تعمل على الحد من تسامح الكتابة ومشاعيتها وانفتاحها، فتصبح تلك الأسماء التي تتمركز فيها الكتابة لا تختلف في وظيفتها وحضورها عن طائفة الكهان وحراس الدين والحقيقة الواحدة، فهم وحدهم من يمتلك سلطة القول وأدوات تصريفه وتداوله بين طائفة مسلمة ومستسلمة لسطلة الاسم ، فيصبح النص عندهم شبيها (بالفتوى) التي تستقبلها جماعة (المؤمنين)، وأي تشكيك فيه يعرض صاحبه ( للتكفير)، وهذا كله يحيلنا إلى القاريء المستلب المخدر والتابع، رغم أن صفة (غير القاريء ) هي الأنسب، لكننا سنسمه بالقاريء انسجاما مع الفرضية التي تستدعي النتيجة والحصيلة، لذلك كيف يتم إنتاج القاريء بالمغرب؟ ماهي مواصفات القاريء المغربي ومؤهلاته؟ القاريء المغربي يتم إنتاجه داخل أسوار المؤسسة التعليمية وخصوصا داخل الجامعة، هذه الجامعة المفرطة في تقليديتها وانغلاقها وتعصبها لصورة قاريء جاهز ومحدد ونمطي، فشعبة الأدب مثلا تدرس ما يحيط بالنص ( سيرة كاتبه، سياقه التاريخي، علوم آلته..) لكنها لا تدرس النص، وبالتالي فهي تكرس خارجية النص باعتبار هذا الخارج هو الأهم، مما يجعل النص يمر في ذهن الطالب مثل طيف أوشبح أوظلال، ويتجلى النص للطالب مثل هامش، وهذا هو ما يجعلنا نحتفي بالسيرة أكثر من احتفائنا بالنص، لذلك تجد الطالب (وربما الإنسان العامي) يعرف الكثير عن شخص أبي نواس مثلا، من كونه شاذا ولوطيا وسكيرا عظيما، لكنه لا يعرف أي شيء يذكر حول نصوصه إلا ما يدعم تلك السيرة والسمعة التي كونها حول الشاعر، فتختفي صورة (الشاعر) وتبرز أكثر صورة (السكير)، لأن النص الذي صنع شاعرية الشاعر مهمش ومنسي ومؤجل، بينما السيرة الحياتية التي صنعت صورة السكير هي في مركز الاهتمام وبؤرته.. هكذا تربي الجامعة الطالب على تهميش النص وكرهه وازدرائه والخوف منه، خصوصا عندما تعلمه (كيف يفهم النص) ويحلله دون السقوط في (الخطأ)، فالطالب عليه أن يتمثل طريقة تحليل أستاذه ويتماهى معها، وحتى اختيار النص المحلل فالطالب ليس حرا فيه، وغالبا ما يحلل الطالب نصا من إنتاج الأستاذ/المبدع! ، فيصبح الأستاذ عندئذ هو المحلل وهو موضوع التحليل في نفس الوقت، مما يسحق ذات الطالب ويغيبها وينفيها خارج أي مبادرة أوفعل، مما يعجل بضمور القدرات القرائية للطالب، ويلجم فيه روح المغامرة والمخاطرة، لأن هاجسه هو استبعاد (الخطأ) في قراءة النص، ونفي (سوء الفهم)،وبالتالي نصبح أمام مشروع تكوين (غير القاريء) بدل مشروع تكوين (القاريء)، فتصبح الجامعة فضاء للاقراءة ، وفضاء للتلاخيص والشروحات أي القراءة التي تغيب النص وراء سلطة الأستاذ أوالمؤلف والشارح والمفسر،والذي ينوب عن الطالب في القراءة، ويعفيه من بذل الجهد وخوض المغامرة لكي يحميه من (الخطأ ) و (سوء الفهم ) للنص موضوع الدراسة، لذلك لا نستغرب حالة الانفصال والطلاق التي بين الطالب والنص الإبداعي، مادمنا نعيش حالة من تمركز الكتابة والقراءة في أسماء بعينها وفي ذوات بنفس الصفة والوظيفة والحضور والسلطة.. ختاما علينا تجديد علاقتنا بالأدب، بالقفز على تلك التصورات والتمثلات التي أطرت علاقتنا معه سابقا، مما سيعجل بتحرير طاقات كتابية وقرائية جديدة، وقبل ذلك علينا ممارسة تفكيك وهدم لتلك العلاقات السابقة الذكر، للوعي بشراكها والأزمات التي تنتجها. [email protected]