تعرف اللعبة السياسية عادة باعتبارها مجالا للربح أو الخسارة، ويقال ان اللعب الشاطر هو من يتمكن بدقة من تغليب ربحه السياسي و تجنب أقصى ما يمكن من الخسارة.و هذا أمر بَدَهي. كما يتم التمييز بين مستويين من الربح و الخسارة في مجال التدافع السياسي. فهناك ربح أو خسارة على المستوى الاستراتيجي وكذلك على المستوى التكتيكي. وبهذا يقيس الخبراء و الاستراتيجيون مستوى الربح الحقيقي أو الخسارة القاتلة. ويتحكم هذا المنطق في السلوكات و المواقف وصياغة الأهداف كما يوجه الصراعات السياسية ويحدد طبيعة العلاقات مع الأعداء والخصوم ويضبط إيقاعاتها ومسارها. ولعل هذا ما حدى بالكثيرين إلى القول بأن في مجال السياسة ليس هناك خصوم أوأعداء دائمون ولا موالون أو مناصرون ثابثون، بل تقاس مسألة الولاء و العداء بنسبة الربح و الخسارة وتدور مع المصلحة الشخصية أو الفئوية حيث دارت. وهذا هو ما يطلق عليه بالواقعية السياسية. وإذا كانت هذه هي القاعدة المعمول بها في مجال العلاقات السياسية ،فإن الاستثناء قائم دائما، خاصة حين يتأسس الصراع على خلاف ديني او مذهبي أو إيديلوجي. والراصد لعلاقة النظام المغربي مع جماعة "العدل و الإحسان" يسهل عليه أن يستنتج أنها طبعت بالصراع منذ الوهلة الأولى لانبثاق هذه الدعوة. ثم عرف الصراع بعد ذلك مراحل من المد و الجزر طيلة ما ينيف عن ثلاثين سنة. إلا أن استهداف المخزن للجماعة سيتصاعد في السنين الأربع الأخيرة بوثيرة ووسائل غير مسبوقة كان آخر تجلياتها إقدام الأجهزة المخزنية على اختطاف وتعذيب سبعة من قيادات وأعضاء الجماعة بمدينة فاس ثم متابعتهم بعد ذلك بتهم من العيار الثقيل في محاكمة تشير طلائعها على أنها مسيسة بامتياز. وقد اختلفت الغايات التي وجهت التحركات المخزنية ضد جماعة "العدل والإحسان" منذ البدء إلى الآن. فقد انطلقت الحرب المخزنية من غاية واضحة هي السعي لإقبار الدعوة ووأدها في مهدها لأجل ذلك استُهدف مؤسس الدعوة ومرشدهاالأستاذ "عبد السلام ياسين" بشكل مباشر اعتقالا ثم حصارا. وبعد إدراك المخزن لفشل مسعاه ووعيه بتنامي الرصيد البشري والسياسي والاجتماعي لدعوة "العدل والاحسان" وجه جهوده وصَوب معاركه لأجل غاية جديدة حددها في العمل على تطويق هذه الدعوة ومنع انتشارها واكتساحها لمساحات اجتماعية ووظيفية جديدة ومهمة. فتم بناء على المخطط الجديد شن حرب دعائية وإعلامية واسعة ضد دعوة "العدل والاحسان" وُظفت خلالها كل الخطابات المخالفة بقوة من يسارية وإسلامية وغيرها كما تم استهداف الفصيل الطلابي للجماعة واعتقال مجلس الارشاد فضلا عن فئات عريضة من أعضاء الجماعة. ثم خاب أمل النظام المخزني بعد ذلك وهو يرصد بوسائله المتعددة كيف تحولت جماعة "العدل والإحسان" إلى ملاذ أخلاقي وسياسي بالنسبة لشرائح واسعة من المغاربة، وكيف اكتسى خطابها مصداقية أكبر وصار قوة استقطابية مهمة كما اكتسب فعلها الميداني دربة ومراسا واضحين للعيان،كما أنها تمكنت من بناء العديد من المؤسسات التخصصية وتأهيل كفاءاتها ثم انفتحت دعوتها على الجمهور الواسع. هنا سيجن جنون المخزن ليفتح واجهات جديدة لحربه على "العدل والاحسان" في محاولة يائسة للتعمية على إشعاعها والتشويش على حضورها المجتمعي ووزنها السياسي وإقامة سد بينها وبين عموم الناس بالترهيب أساسا أوالاغراء أحيانا أخرى. وهكذا انطلقت جحافل الأجهزة المخزنية لتقتحم المئات من بيوت أعضاء الجماعة وتشمع بعضها وتعتقل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال واعتماد أساليب غاية في الدناءة والانحطاط..إلخ. و قد ازداد حنق المخزن و إصراره على استهداف جماعة "العدل والاحسان" خاصة مع تنامي التردي العام في مجالات الحياة بالمغرب وتوالي إخفاق السياسات والسلوكات المخزنية، في كل الميادين، الأمر الذي يفاقم من عزلة النظام ويدفع إلى تآكل هيبته وتهافت مشروعيته وانفتاحه على المجهول. وما يزيد الطين بلة الهزال الشديد الذي تعاني منه النخب الرسمية وعدم قدرتها على لعب دور الوساطة بين السلطة والشعب الذي عاف الاستبداد والفساد ومل من خطابات التخدير و التدجين. لا يمكن أن ننكر أن كل هذه المعارك ،المستمرة منذ ثلاثين سنة ونيف، قد حققت للمخزن بعضا من أهدافه بنسبة من النسب وراكم جراءها أرباحا، بشكل من الأشكال، أو على الأقل هذا ما يحاول أن يقنع به نفسه ليستمد النَفَس للاستمرار في الحرب على "العدل والاحسان". فالحرب سجال. إلا أنه يحق لنا، ونحن نتتبع ماجريات هذه الحرب، أن نتسائل عن طبيعة المكاسب المخزنية منها وعن حقيقتها: هل هي مكاسب استراتيجية بحجم الغايات التي سطرت لها والامكانات الضخمة التي رصدت لها وصرفت عليها؟ أم أنها مكاسب تكتيكية ناتجة أكثر عن حكمة الجماعة وتبصرها بقواعد الصراع وإدراكها لغايات المخزن منه وتؤدتها حين تجنبت دائما المواجهة المباشرة معه واختارت تفويت الفرص عليه وإيهامه بتحقيق أهدافه ثم إبداع أساليب جديدة لحماية الدعوة وضمان انسيابها داخل المجتمع بمرونة ورفق مع تحمل و جَلَد؟ لقد فات المخزن،بخبراءه ومستشاريه، أن يدرك أن "العدل والاحسان" دعوة راشدة تتحرك وفق مسارها الذي يتوافق مع سنة الله في التدافع بين الحق والباطل. فاستأصالها أو إخراجها عن مسارها مهمة مستحيلة والشاهد على ذلك تاريخها وواقعها. وما يصيبها من أذى لا يزيدها إلا قوة ومنعة ويكسبها مراسا وخبرة في التعاطي مع الواقع وإصرارا على الإستعداد لما تستشرفه وتتهيئ له وهو إمامة الأمة وقيادتها لاستعادة مجدها وعزتها بعد تطهيرها من عوامل التخلف والانحطاط وعلى رأسها الاستبداد و الفساد. إذا فليس من التجني أو التسرع الحكم بأن حرب المخزن على جماعة "العدل والاحسان" هي في الحقيقة حرب الحسابات الخاطئة بامتياز، والخسارة الاستراتيجية للمخزن جراء هذه الحرب محققة و مؤكدة. وأن هذه الخسارة ،فيما يبدو، غير قابلة للتعويض خاصة مع ما يظهر من شعور المخزن بنوع من تضخم الأنا بعد استفراده بالساحة السياسية وإخضاعه لمعظم النخب وتوظيفها لصالحه فضلا عن وجود مظلة غربية أورو أمريكية لتصرفاته. و لعل هذا ما يشجعه على التمادي في ارتكاب الانتهاكات الفظيعة في حق خصومه وفي مقدمتهم جماعة "العدل والاحسان". إذن فالمكاسب التكتيكية التي يجنيها المخزن من معاركه هنا أو هناك مهما صغر حجمها أو قلت قيمتها تصيب أصحاب القرار في دار المخزن بعمى الألوان فلا يبصر الحقائق رغم نصاعتها ووضوحها."فإنها لاتعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور".صدق الله العظيم.