mhairane.wordpress.com/ http://mhairane.wordpress.com/ حروب الدسائس والوشايات في بلاط محمد السادس 4/3 تنويه أنجزتُ خلال منتصف شهر فبراير من سنة 2009 ملفا حول « وشايات البلاط الملكي » وذلك بناء على مُعطيات كانت حينها قيد التداول في الصالونات السياسية بالعاصمة، عكستها بعض الصحف في شكل أخبار مقتضبة.. ولأسباب ما زلتُ أجهلها لم يتم نشر الملف في الأسبوعية التي كنت أعمل بها حينها (المشعل).. وفي زحمة انشغالات آنئذ سهوتُ عنه (الملف) وظل في أرشيفي ثاويا.. واليوم أضعه في دائرة النشر هنا بمدونتي، توخيا لتعميم قد يكون مُفيدا، ونظرا لطول سطور وصفحات الملف ارتأيتُ تقسيمه إلى أربعة أجزاء.. هنا الجزء الثالث منه **************** حاشية الملك: « العاقبة للصابرين « مَن يعرف جيدا دار المخزن، يعلم أنه ليس هناك تجزيئا للسلطة، ذلك لأن طبيعة العلاقات في الدار المذكورة، مبنية على قانون مخزني هو البيعة، التي يحتفظ بها الملك كاملة » هكذا يقول أحد العارفين بمجال اشتغال آليات الحكم، وطبيعة العلاقات داخل مربعه، مضيفا في نفس السياق: « وبالتالي، فإنه ليس هناك رجل ثان للسلطة في المغرب، غير أنه قد يكون هناك في بعض المراحل، أحد رجال المخزن قويا، ثم يُصبح لا شيء بشكل مُفاجىء ». الإشارة واضحة إلى نموذج وزير الداخلية القوي سابقا، إدريس البصري، خلال فترة طويلة من حكم الملك الحسن الثاني (1961 – 1999) وبالتالي كان طبيعيا، أن يتصارع أكثر من طرف، ضمن مربع الحكم الضيق، عقب وفاة الحسن الثاني، والتخلي عن خدمات البصري، على موقع الرجل القوي، في النظام المخزني، بعد الملك، وبدا في السنوات العشر الأخيرة، التي أمضاها محمد السادس في الحكم، أنه من الصعب جدا، بروز رجل قوي في النظام، من عيار البصري، ذلك ربما – حسب بعض التحليلات – لتجنب عدم تكرار التجربة بعينها، في استفراد أحد خدام المخزن، المُحيطين بالملك محمد السادس، بمناطق النفوذ المُؤثرة في النظام، على غرار ما كانه إدريس البصري، على مدى فترة طويلة. بالمقابل فإن هذا الحذر، إذا كان صحيحا، فإنه لا يمنع من تبلور قوى نفوذ، في أعلى هرم السلطة، باعتبار طبيعة ونوع الحكم في المغرب، الذي يجعل كل السلطات التنفيذية والتشريعية، مُتجمعة لدى القصر. ومن هذا المُنطلق يذهب البعض، إلى أن مركز النفوذ يذهب شيئا فشيئا، إلى المدير العام للدراسات والمُستندات المعروفة، اختصارا ب « لادجيد » السيد محمد ياسين المنصوري، فهذا الأخير، حسب وجهة النظر هذه يتوفر على « خصلة » الهدوء والصبر، وترك الأمور تنضج على مهل. بمعنى أنه لم يسع إلى الخوض في الصراعات الضيقة، للمحيطين بالملك، والتركيز على الأداء المهني، وذلك من خلال الإعتماد على المعلومة الموثقة والمسنودة، لتقديم خدمة أفضل، وفي هذا المجال لا يخفى، أمر التدخلات الكثيفة، لياسين المنصوري، بما يتجاوز مجال عمل جهاز « لادجيد » المنذور منذ تأسيسه، للاستخبارات الخارجية، ليطال المُعطيات المرتبطة بحقل الإرهاب، والميدان الإقتصادي والمجال الإعلامي. يقول أحد العارفين بتحولات هذا الأداء الجديد ل « لادجيد » أن عاملين محسوبين على الجهاز الاستخباراتي المذكور، أصبحوا أكثر حضورا في مجال تجميع المعلومات والمعطيات، بل وصنع البعض منها، في مجالات الاقتصاد والأمن والإعلام.. ولا يخفى أن نتائج التقارير النهائية لهذه المهام، توضع على مكتب الملك محمد السادس. وبالتالي ما يفسر بعض القرارات التي اتُْخذت، في أكثر من ملف اقتصادي وإعلامي. فهل يُمكن القول أن محمد ياسين المنصوري » ربح رهان الصراع، داخل مربع الحكم الضيق؟ على عكس هذا الرأي، يقول زميل صحافي مُخضرم، اشتغل لبضع سنوات إلى جانب أحد أقرب مُساعدي الملك محمد السادس: « ياسين المنصوري ليس بالرجل الذي لم يرتكب هفوات وأخطاء لا تُغتفر، فإدارته الاستخباراتية، في أهم دول أوروبا الغربية، كانت عبارة عن فضيحة، سارت بذكرها الركبان » مضيفا: « دون أن ننسى التداعيات الإعلامية، والسياسية، للصورة التي التُقِطت له هو ووزير الخارجية الفاسي الفهري، مع وزيرة خارجية إسرائيل منذ بضعة أشهر ». وزارة الداخلية: منجم طاقات الوشاية يُسِرُّ بعض اللذين عبروا ردهات وزارة الداخلية، من مكانها العالي، جغرافيا، بالعاصمة، فهي تطل على نهر أبي رقراق، وترنو إلى مبنى القصر الملكي في الرباط، من موقع انحداري.. (يُسِرُّونَ) أنه لم يكن عبثا، أن يجتاز، كل الذين يُشكلون المحيط المباشر للملك محمد السادس، وزارة الداخلية في مهام متعددة، فالهمة والمنصوري ورشدي الشرايبي وأوريد... كلهم مروا من هناك، لفترات طويلة أو قصيرة، أيام « عرابها » ادريس البصري، وبطبيعة الحال اكتسبوا خبرات في « المنجم الحقيقي » للمغرب السياسي والسلطوي، ففي وزارة الداخلية يتم دائما إعداد الملفات، الكبرى والصغرى، لتجد طريقها إلى التنفيذ. وما دمنا في مجال الوشاية والوشاة، فإنه في ردهات الوزارة المذكورة، تجري الصفة المذكورة، مجرى الدم في الشرايين. كيف ذلك؟ « هناك في أبهاء وزارة الداخلية – يقول أحد الذين اشتغلوا في بعض مصالحها، لفترة طويلة – تُصنع التحالفات والمصالح، والمسارات الناجحة والفاشلة، على السواء، في التراتبية السلطوية بالمغرب، وبطبيعة الحال، يوجد هناك دائما مَن يعرف أكثر من غيره، كيف ينسب لنفسه منجزات الآخرين، منهم مثلا ذاك الذي استطاع أن يتسنم مسؤولية كبيرة على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني، بفضل حسن استعماله لتقنية الإيقاع بخصومه، وهو ما تسنى له بعد سنوات طويلة من الدس لزملائه، رؤساء بعض المصالح الأساسية في وزارة الداخلية نظير مديرية الشؤون العامة ». « إنها مدرسة الدس بامتياز » يستخلص نفس المصدر، مضيفا: « وهي التي تُمد كل مؤسسات الدولة تقريبا بأطر التسيير، ويجب أن نذكر هنا مثلا، حقل الإعلام العمومي، الذي شهد أكبر عملية اجتياح له من طرف أطر الداخلية أيام إدريس البصري » مستطردا: « ويجب ألا نعتقد أن ذلك الاجتياح انتهى بمجرد ذهاب البصري، ذلك أن نفس النهج ما زال مُستمرا، وإلا ماذا يُمكن ان نسمي انقال ياسين المنصوري، من الإشراف على مديرية الشؤون العامة « دي آ جي » إلى رئاسة وكالة المغرب العربي للأنباء، قبل أن يرسو في مديرية الوثائق والمستندات « لا دجيد »؟ » مسترسلا: « وكيف يُمكن أن نشرح أيضا انتقال كاتب الدولة السابق، في الداخلية، فؤاد علي الهمة، من منصبه هذا، إلى تأسيس جمعية سياسية فحزب سياسي، باسم الأصالة والمعاصرة؟ كل هذا وغيره يبين الأهمية التي ما زالت تستأثر بها وزارة الداخلية، في تسيير الشأن العام بالمغرب عبر مختلف مجالاته ». نماذج من صراعات الكواليس في محيط الحسن الثاني ذكر مستشار الحسن الثاني « عبد الهادي بوطالب » في كتابه « نصف قرن من السياسة » بعض المعطيات عن طبيعة التنافس الذي كان دائرا في بلاط الملك السابق، وحكى عن مشاكل وقعت له شخصيا، بسبب « سعي » وزير الدولة القوي في الداخلية « ادريس البصري ».. وهو ما أسفر عن مرحلة جفاف من طرف الحسن الثاني اتجاه عبد الهادي بوطالب، بدأ كل شيء مع خبر نُشِر في جريدة الشرق الأوسط، في أحد أيام بداية الثمانينيات مُؤداه أن « بوطالب » سيُعين وزيرا أول، ونظرا للعلاقات الوثيقة التي كانت للرجل – أي بوطالب – بالقائمين على الجريدة السعودية المذكورة، فقد سعى إدريس البصري بنميم، ليُؤكد للحسن الثاني أن « بوطالب » هو الذي سرب الخبر ل « الشرق الأوسط » ونتج عن ذلك أن غضب الحسن الثاني من مستشاره، وعدل عن تعيينه وزيرا أول (هذا فيما إذا كان فعلا الخبر الذي نشرته الشرق الأوسط صحيحا). تشي هذه الواقعة بطبيعة العلاقات المُعقدة/الصراعية، التي كانت تجمع بين المُحيطين بالحسن الثاني، من رجال حاشيته، ومستشاريه، ووزراء حكوماته المُتعاقبة. « حيث كان يكفي – كما يقول أحد الذين كانوا يغشون مجالس الحسن الثاني – أن يهمس أحد رجال ثقته، وكانوا قلائل، بنميمة مُعينة، في حق أحدهم، ليتم عزله من منصبه، أو تجريده من كل الامتيازات المادية والاجتماعية، التي جمعها لسنوات، بفضل قربه من الملك » مضيفا: « لقد حدث يوما أن أحمد العلوي، وزير الدولة بدون حقيبة، على مدى حكومات مغرب ما بعد الاستقلال، طلب رؤية الحسن الثاني، فقيل له أن مزاجه متعكر، ولا يُريد استقبال أحد، غير أن الرجل ألح أشد الإلحاح، بدعوى أن الأمر، في غاية الأهمية، ولا بد من تبليغه للملك، فأذن هذا الأخير له، حيث كان في مجلس خاص، يتداول مع بعض المقربين منه، في أحد الأمور التي عكرت مزاجه، فاقترب أحمد العلوي من الحسن الثاني، حتى حاذى أذنه وهمس له بشيء، وحدث أمام دهشة الحاضرين، أن الملك انفجر ضاحكا، مباشرة بعد ذلك، وحينما سُئل أحمد العلوي من بعض الفضوليين، من رجال البلاط، أجابهم: قلت له (الباراكا فراسك آمولاي أمين الشواذ في الرباط مات). هذه الواقعة الطريفة تبين إلى أي حد كان الملك الراحل، يعير الكثير من الاهتمام للأشياء التي كانت تُنقل إليه فما لأذن، فضلا عن تقنية التقارير التي كانت شائعة بين أقرب مُساعديه، ورجال حاشيته، للإيقاع ببعضهم البعض لديه – أي الملك – وهنا يجب ذكر واقعة من نفس عيار السابقة، حدثت بين اثنين من كبار رجال الدولة، هما الجنرالين، حسني ابن سليمان وحميدو لعنيكَري، يقول مصدر كان قريبا من الواقعة: » كان الجنرال لعنيكَري في مرحلة طويلة من حياته المهنية، مسؤولا عن حرس الشيخ زايد بن سلطان، في الإمارات العربية المتحدة، وبالتالي كان يضطلع بتنظيم عمليات اختيار أفواج رجال الجيش والدرك، الذين كانوا يذهبون لأداء مهام أمنية وعسكرية، لا تخرج عن حراسة قصور الأمراء، وكبار القوم في ذلك البلد الخليجي البترولي الثري، غير أن لعنيكَري، عمل على التلاعب في المُخصصات المالية الضخمة، لرجال الدرك والجنود، وهو ما دفع حسني بنسليمان الى إعداد تقرير ضاف في الموضوع، قدمه للحسن الثاني » ويستطرد نفس المصدر: » وعندما انتهت مهمة لعنيكَري لدى شيوخ الإمارات، وتأهب للعودة إلى المغرب بشكل نهائي، كان الجنرال حسني بن سليمان يُعد العدة لالتهامه، ورد بعض الدين الذي كان لديه، بصدد ما لحقه منه، من أذى من نفس العيار، في بلاط الحسن الثاني، غير أن لعنيكَري، فطن للمقلب الذي كان يُعد له، لذا استنجد بمخدوميه، من علية القوم الإماراتيين، فسعى هؤلاء إلى تخليصه من الورطة، غير أنه ظل لفترة طويلة، بعد عودته، إلى المغرب، مُجمدا وظيفيا، حيث كان يضطلع فقط، باستقبال بعض ضيوف المغرب من مستويات دنيا، من أصدقاء الأمراء والأميرات، وبعض شخصيات الدولة، في مطار الدارالبيضاء، حيث كان يربض جالسا الساعات الطوال، في قاعة الانتظار ». الوشاية والوُشاة في بلاط السلطان « ما أشبه اليوم بالبارحة ».. هذا ما يسع المُطلع على بعض تفاصيل صحبة الملوك والسلاطين قديما، قوله، عما يقع في نفس المجال، في الوقت الراهن، في هذا الإطار، ثمة كتابات، ضافية في الوضوع، حديثة الصدور للباحث المغربي « عز الدين العلام »، منها كتاب « الآداب السلطانية » الصادر سنة 2006 عن سلسلة « عالم المعرفة » الكويتية، الذي تضمن فصلا بعنوان « في صحبة السلطان » اقتبسنا منه فقرة (بعد استئذان المُؤلف) تلتقي مع ملفنا في موضوع « الوشاية في بلاط الملك *** « إذا كان بعض الفقهاء لم يبارحوا التساؤل عن جواز أو عدم جواز صحبة السلاطين، فإن الأدباء السلطانيين « العاملين أو الراغبين في العمل مع السلطان، يُفكرون خاصة في « طرق » سلامة لهذا النوع من الصحبة. وإذا كانوا يُجمعون على جواز العمل مع السلطان، بل ضرورة « صحبته » وعللوها ب « واجب » النصيحة » وإصلاح ما يُمكن إصلاحه من فساد، فإنهم يُحذرون صاحبهم داخل البلاط السلطاني، من كل الاحتمالات المُمكنة: فهو قد ينجح في الامتحان السلطاني، وقد يسقط، وما بين النجاح والسقوط، عليه أولا وقبل كل شيء، أن يُفكر في الافلات بجلده... ولربما بسبب من طبيعة وضعية « صاحب السلطان » هذه يعيش المؤلف السياسي السلطاني « مفارقة » عجيبة ويُعبر عنها، فهو في الآن نفسه الذي يتحدث فيه عن « مخاطر » صحبة السلطان نراه يلهث ويلهث لولوج بلاطه. تبدو حكاية « الغواص – العالم » مع الأسد – الملك » أكثر دلالة في هذا المجال، إذ تتحدث عن « مضرة التبرع بالنصائح » و »ضرورة التلطف في عرض النصائح على الملوك » و « حاجة أصحاب المُلك إلى بعض المُقاربة واللطف، في إيراد النصيحة ». كما تُحدر حكاية « كليلة ودمنة » من المصير المجهول، الذي قد يكون جزاء، لصحبة شخص، مثله مثل « الزمان » و « البحر »، لا مأمن ولا ثقة فيه، على حد قول « الماوردي » الذي يستشهد بحكماء الهند، الذين شبهوا « السلطان في قلة وفائه للأصحاب وسخاء نفسه عنهم، بالبغي المُكتسب، كلما ذهب واحد جاء آخر ». من أجل تليين المفارقة، بين الخوف من السلطان والرغبة فيه، بين التحذير من صحبته والدعوة للعمل معه، تخصص الأدبيات السياسية السلطانية، المشرقية منها والمغربية، صفحات كثيرة، تسعى من خلالها إلى تقنين السلوك الناجح، في صحبة الملوك والسلاطين، وطرح ما يجب أن يكون عليه « الصاحب » في كلامه وصمته، ودخوله المجلس السلطاني، وخروجه منه، وحركاته وانضباط جسده، وامتثاله وتغافله، وحذره من سعي زملائه داخل الحاشية السلطانية... هكذا نجد مثلا ابن الأزرق، وهو خديم السلاطين، يدافع عن السلطان والعمل معه، سواء تمثل ذلك في نصحه له، أو تولي خطة شرعية أو وظيفة سلطانية، كما يبدو واضحا في عقده لفصول حول « المشورة » و « النصيحة » و « البطانة » و « الخاصة »... بل إن كتاب « البدائع » برمته يدخل في هذا الإطار. ومع ذلك، وهنا تكمن « المُفارقة » (ظاهريا على الأقل)، نجده يُخصص فصلا بكامله، لموضوع « سياسة » سائر الخواص والبطانة في صحبة السلطان وخدمته » لا يتحدث فيه إلا عن « الترهيب من مخالطته » و « التحذير من صحبته ». يُشير ابن الزرق باجتناب « مخالطة » السلطان حفاظا على « السلامة والنجاة » ولأن التجربة أبانت أن من سعوا لإصلاحه فسدوا به، كما ينهى عن صحبته، لنذرة إخلاصه، وتواتر تقلباته، مشبها إياه بالبحر والصبي. ومع كل هذه المحاذير، يجيز المؤلف الدخول لمجلس السلطان، والعمل معه لأسباب متعددة، منها أن يكون العمل معه، أو حتى الحضور لمجلسه على وجه « الالتزام » وخوفا على النفس في حال الامتناع، ومنها أن يكون العمل معه، أو الحضور لمجلسه، من أجل « استجلاب مصلحة ». من أجل حل هذه « المُعادلة » وتليين المُفارقة، بين الخوف من السلطان والرغبة فيه، يُخصص ابن الأزرق، والأدب السلطاني عامة، صفحات كثيرة يسعى من خلالها – وقد رأى « صحبة السلطان » لا مفر منها – إلى تقنين السلوك الناجح في صحبة الملوك والسلاطين، هكذا يقول ابن الأزرق « وإذا تقرر معذور هذا الأمر عاجلا، وموعوده ما هو أدهى منه آجلا، فلصحبة السلطان على كثرة غِررها ( أي مساوئها – المحرر-) وتقصير نفعها عن ضررها آداب كثيرة ». وهي نوعان: آداب يجب الالتزام بها، وأخرى يجب تركها. أما الأولى، فخمسة أنواع وتشمل: « التلطف له عند الخطاب » و « الإصغاء لكلامه » و « استشعار الصبر في خدمته » و « مصاحبته بالهيبة والوقار » و « الرضا بجرايته » أما ما يجب تركه في مُصاحبته فيتمثل في « مناداته باسمه ورفع الصوت بحضرته، وابتداء الحديث بمجلسه، إذا كان هو المتكلم، والضحك من حديثه وإظهار التعجب منه (...) ورفع الرأس إلى حرمه... والانقباض منه والتهالك عليه (...) والمبادرة بالجواب إذا سأل غيره... والإكثار من غشيانه أو الصعود عنده... (وطبعا دون أن ننسى أن هناك مزيدا من النصائح المثيلة عند الحديث عن « الحاشية السلطانية » ومراتبها، خاصة ما يتعلق بموضوع « السعاية » أو الوشاية لدى السلطان، التي يذهب ضحيتها العديد من خدام السلاطين، والتي شكلت على الدوام العدو اللذود لكل موظف سلطاني). ومن جهته، يُصور أبو بكر الطرطوشي، الوضعية غير المُريحة لصاحب السلطان، حين يصفه على لسان الحكماء « كراكب الأسد يخافه الناس وهو لمركبه أخوف » ولتجاوز هذه الازدواجية المُدوخة، التي تجمع في الآن نفسه، بين ممارسة السلطة، والخضوع لها، ينصح الكاتب بالابتعاد عن نار السلطة، متى أمكن ذلك، وفي حال تعذر ذلك، يبقى لزاما على خديم السلطان، استحضار البديهة والتبصر ودوام الطاعة، والبذل درءا لكل غضب سلطاني مفاجىء. يجمع البلاط السلطاني بين عشرات الأعوان والجلساء المجندين لخدمة السلطان. وكل واحد منهم، يعتقد في أهميته، ويتطلع إلى « القرب » من حضرته، فيحتدم الصراع بين « رجال البلاط »: هذا يسعى للإيقاع بوزير، وذلك « وال يشي » بقاض... وقد يعي السلطان هذه « الصراعات » ويُحافظ عليها، إن لم يغذها أحيانا بشكل يُحافظ على قوته، ضاربا هذا بذاك. في هذا السياق، يقدم لنا مسار حياة، كل من ابن رضوان صاحب « الشهب اللامعة » وخديم المرينيين، وابن الخطيب صاحب « الإشارة إلى آداب الوزارة » وخديم النصريين بغرناطة، صورتين مُتعارضتين لما يُمكن أن ينجم عن « صحبة السلاطين ». قضى ابن رضوان اثنين وأربعين سنة، في خدمة المرينيين، واشتغل مع ثمانية سلاطين، وهي مدة كافية جدا، لإصابته ب « مكروه سلطاني » أو الإيقاع به في دسيسة من دسائس الحاشية السلطانية، لكنه ظل على الدوام حيا يُرزق، والسر في ذلك، كما يقول الباحث إحسان عباس، كامن في طبيعة شخصيته، وقد كان على ما استقر في نفسه من طموح، يعرف متى يقف بطموحه عند حد، لا ينفذ إليه منه الأذى. ويرى سامي النشار أن ابن رضوان وصل إلى ما يصبو إليه لكونه « رجل دين وخلق، لم يذكر أحد من المُؤرخين أنه اشترك في مؤامرة، أو سعي لأحد بوشاية، إنه من الأفراد القلائل، في هذا العهد المضطرب القاتم المليء بالدسائس، الذي توصل إلى مكانته الكبرى عن جدارة واستحقاق ». مقابل ذلك، نجد ابن الخطيب الذي تدرج من « الكتابة » إلى « الوزارة » مع ما لا يقل عن ثلاثة سلاطين، والذي اختبر « صحبة السلاطين » في أحلك أيامها، يُعاني الأمَرَّيْنِ من سعاية حساده ضده، وتعرَض لأكثر من « نكبة ». بل اتُْهم بالخروج عن الدين، واستغلال النفوذ، والاستبداد بالأمر دون السلطان... إلخ. ليس زائدا إذن، أن ينبه ابن الخطيب « الوزير » ويقول: « واعلم أنه قلما يخلو من حل نحلك (أي مَن اختار نهجك – المحرر-) من علو القدر وعزة الأمر، من قرين يعانده، أو حاسد يُكابده، أو مُتطلع يمُتُّ للملك بقربى... » كما أنه يخصص ركنا من الأركان الستة، التي تتكون منها الإشارة ل « سيرة الوزير مع من يتطلع لهضبته ويحسده على مرتبته »، وعموما يمكن الحديث عن نوعين من السلوك، لمواجهة هؤلاء « الحساد »: الأول وقائي والثاني عملي. يتمثل السلوك « الوقائي » في اجتناب الوزير « الزيادة في الاستكثار من الضِّياع (جمع ضيعة) والعقار والجواهر النفيسة والأحجار (الألماس)... » لأنها تقدم الفرصة لمن في قلبه ضغينة » يُحصي عليه ما جلبه الحظ إليه. واجتناب الاستكثار من الولد والحشم (...) فإن الحاسد يراهم بذخا ونعمة. ويتمثل السلوك العملي في أن يُجاهد الوزير هذه الجماعة، ويقمع منها الطماعة، وذلك باستمالتهم أولا ب »فضائله الذاتية »، ومقابلة « حسدهم » بالإنعام عليهم، ثم اصطناع أضدادهم، وخاصة بعدم الركون لأحد، وحسن اختيار من « يصطنعه لخدمته ». غير أن مختلف هذه النصائح لن تُجدي كاتبها نفسه، الذي صدر في حقه أمر سلطاني بالقبض عليه، وفتوى تقضي بإعدامه، فقُتِل خنقا في محبسه... (يُتبع