إذا كانت سحابة صغيرة قادرة على حجب الشمس فإن بمقدور شعاع صغير أن يطرد العتمة الدالاي لاما أمر طبيعي أن يحتار الإنسان و يتساءل أمام الجديد، أمام كل شيء غير مرتقب، لكن ما هو غير طبيعي أن تنحو الكيانات السياسية (وعلى رأسها الدول ) منحى الغريزة و يتم استبدال العقل الدبلوماسي بالهورمونات العسكرية و الأمنية... السؤال سهل بقدر ما هو ضارب في التعقيد و هذا الأخير متأصل في الكون كما في الإنسان -كجزء من هذا الكون- وموغل في وجود المجموعات البشرية باختلاف مللها و نحلها و اختلاف أو ائتلاف مصالحها ورغباتها: ما هي أسباب قلق الجارة إسبانيا؟ هل نزعجها بصخب الألعاب النارية في عز الصيف أم بالامتداد الجديد للضوء أم بغسيلنا اللامنتهية حباله؟ أم لأننا بدأنا في كنس المنزل و استرجاع ثقافة الزهر و تفتح الموانئ؟ حين لا تراوح العقيدة مكانها تزداد المخاوف تجاه الآخر و حيال أسئلته الجديدة، وعقيدة النظام السياسي الإسباني تجاه المغرب لم تتحرر بعد في العمق من وصايا إيزابيل "لا كاطوليكا" حتى و لم تم تطعيمها في العقود الأخيرة بتوابل التعاون الذي على أهميته وبعده الإنساني الرفيع لم يستطع تخليص العقيدة من عقدتها الرئيسية الغارقة في تلك الجملة النمطية التي أثثت و أسست لثقافة الحرب HOMO HOMINI LUPUS -لا حاجة للتعريف بمن يكون الذئب في ذاكرة نفر هام من العسكريين الإسبان و عدد لا بأس به من السياسيين الذين يمنعهم تفكيرهم القصير النظر من الارتقاء إلى رجال دولة.... وكأن الزمن لم يتغير منذ EL BARRANCO DEL LOBO، و كأن الجسر لم يستقبل مياه وودع أخرى.... حين تريد السياسة الخارجية الإسبانية أن تجدد عقيدتها والمرور من شعار "المغرب بلد يهمنا استقراره سياسيا و لا يهمنا تطوره اقتصاديا" و هو الشعار الذي صاحب مرحلة الثمانينيات إلى الشعار المتقدم الذي يتلخص في "إقامة فراش مصالح مع المغرب" يستند أساسا على ما هو اقتصادي، نلاحظ أن هذا المنحى تنقصه المصداقية كما ينقصه الانسجام لأن المناوشات المستمرة المفتعلة ضد المغرب في السنين الأخيرة وراءها هدف واحد: أن يظل التقدم الاقتصادي المغرب محدودا و تحت السيطرة حتى لا يتعارض مع مصالح إسبانيا الكبرى. -وهذه المصالح تقتضي –حسب أصدقاءنا الإسبان-الضغط المنهجي على المغرب حتى لا يجد الوقت للتفكير الاستراتيجي، و هذا ما رفع عنه القلم في زمن الملك محمد السادس محدثا ارتباكا واضحا لدى الفاعلين الاقتصاديين الكبار في إسبانيا الذين أوكلوا لبعض خدامهم السياسيين و العسكريين و الإعلاميين مهمة الشروع في الزحف... 1-سياسيا: بالتلويح بتراجع أو فتور الخارجية الإسبانية عن دعم مشروع الحكم الذاتي في الصحراء و إطلاق الرسائل المشفرة حول عدم رضاها عن السفير المغربي الجديد بمدريد و أن ذلك سيزيد في تعقيد مشكل الصحراء -بينما الإشكال الحقيقي هو المأزق الذي وضع فيه المغرب السياسيين الإسبان إذ كيف بإمكانهم أن يشرحوا لرأيهم العام الذين شحنوه لعقود طوال بالفكرة المعاكسة بأن السفير المغربي الجديد هو عنصر قيادي بارز سابق في جبهة البوليزاريو؟ 2-أمنيا: بتسليط الحرس المدني (الذي يحتفظ له أغلب الإسبان بذكريات سيئة تنتمي لمرحلة سوداء في التاريخ السياسي الحديث) للقيام باعتداءات جسدية متكررة في حق مواطنين مغاربة ضاربة بعرض الحائط أقدس مقدسات مبادئ حقوق الإنسان.. إعلاميا: إصدار الأوامر إلى وسائل الإعلام الإسبانية لعدم تغطية الاعتداءات المتكررة على المغاربة في مليلية و لا مجرد ذكرها كخبر عابر، إعطاء التعليمات للصحفيين المعتمدين في الرباط بمقاطعة الندوة الصحفية التي خص بها ولد سلمى القيادي الأمني في مخيمات تندوف وسائل الإعلام و دعمه الصريح لمشروع الحكم الذاتي في حين أنها جندت كل صحفييها المعتمدين في الرباط و آخرين من إسبانيا لمتابعة DE AMINATU HAIDAR LA TELENOVELA. وإذا كنا نتفهم قلق صديقتنا إسبانيا بفعل تضرر مصالحها بسبب مشاريع المغرب المتوسطية فإننا نهمس في أذنها بأن نوعية الرسائل التي توجهها لتعبر عن استياءها غير مناسبة و سيكون مفعولها عكسيا إذ ستجعل الرأي العام المغربي يمر من الإحساس بالتماهي و التضامن و المحبة الذي تجسد بخروج آلاف المغاربة يهتفون باسم الفريق الوطني الإسباني لكرة القدم (وحاملين العلم الإسباني؟) إلى إحساس نقيض مشوب بالإحباط و الغضب... إسبانيا ترى أن نجاح المغرب في مشروعه السلمي الديموقراطي الداخلي و في مشروع الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المسترجعة ستجعل مطالبه تطال مجالات جغرافية أخرى... في هذا السياق، تلقيت في الأسبوع الأخير مكالمات من طرف بعض الصحفيين الإسبان المعتمدين في الرباط يستفسرون فيه عن رأيي كممثل لجمعية تعنى بالعلاقات المغربية الإسبانية في الأحداث الأخيرة التي طفت على سطح هذه العلاقات...جميع الأسئلة التي تم طرحها علي كانت استدراجية للوصول إلى السؤال المفتاح: موضوع سبتة و مليلية... وكان الجواب، كما قلته في العديد من المناسبات وما زلت أدافع عنه: شخصيا، أعتقد أن أي مطلب مهما كانت شرعيته لا يجب أن يستند فقط على مبدأ العدالة بل عليه أن يتجاوزه للتأسيس لمشروع مبني على ثقافة السلم، مشروع يقوم على تحقيق استفادة طرفي النزاع من الموارد الاقتصادية التي توفرها المنطقة المتنازع عليها و تحقيق التنمية البشرية، مشروع يعترف بالمعطى الجغرافي و أيضا بالحقوق الثقافية، مشروع يعتمد مقاربة ترى الحدود بكثير من منظور الجغرافيين و قليل من منظور المختصين في القانون الدولي، حدود تمحوها حركية التبادل المتكافئ و المتكامل و تجعلها دون أهمية. لأن الحدود أصلا توجد في العقول....و لأن الحدود الحالية في سبتة و مليلية بقدر ما تمنح فرص شغل مؤقتة لبعض الآلاف من المغاربة بقدر ما تدمر اقتصاده وهذه الوضعية غير قابلة للاستمرار في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها العالم و تعرفها المنطقة، وضعية لا مكان لها في المغرب القادم المنخرط بثبات في المنظومة الإقليمية و الدولية... ترى عن أية حدود نتكلم في زمن العولمة؟ في زمن الاتحاد الأوروبي؟ في زمن أصبح فيه المغرب شريكا متقدما لهذا القطب الاقتصادي و السياسي؟ ترى عن أية حدود نتحدث في وقت تتهاوى فيه الحدود من جراء الضغط المتزايد الذي تمارسه البنيات الاقتصادية و السياسية للعولمة على الدولة الوطنية بمفهومها التقليدي القائم على الحدود؟ إنها دعوة للتفكير المتأني في الحاضر و التفكير المستقبلي في وضعية متحولة باستمرار... لا يمكن بتاتا أن تتطور العلاقات المغربية الإسبانية إلى المستوى المفترض و تتم تسويات الملفات العالقة بين البلدين حاليا بعقليات ماضوية و موازين قوى أقربها ينهل من القرنين الثامن و التاسع عشر. العلاقات المغربية الإسبانية ليست اليوم مسألة تتعلق بتمويل النبش في القبور بقدر ما تهم تجديد العقيدة... حتى نكون بالفعل صناعا للسلم بين الشعبين و البلدين. المغرب مستعد MARRUECOS ESTA PREPARADO كما يقول الإعلان الذي تبثه القنوات التلفزية الإسبانية والارتقاء بالعلاقات المغربية الإسبانية يحتاج إلى رجال دولة في إسبانيا مقتنعين بضرورة تقدم هذه العلاقات بدل الاكتفاء بالمناوشات التي لا تسعى إلا إلى الحفاظ على الحالة كما هي عليه STATUS QUO حتى ولو كان ذلك على حساب حقوق الإنسان و مشاعر المغاربة... و هذا التقدم لن يكون إلا عبر تجديد العقيدة، تحرير العقول و تحطيم الأوثان... إننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى ذلك الشعاع الصغير الذي يطرد العتمة. *رئيس جمعية القنطرة المغرب-إسبانيا [email protected]