إني أتهم... المثقف : كلب الحراسة الجديد تحيل هذه الجملة التي اقترحتها عنوانا لهذا المقال إلى قضية الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الفريد دريفوس الذي أُتهم لأسباب سياسية بتسريب معلومات سرية إلى ألمانيا سنة 1894 ،وتم نفيه إلى إحدى الجزر دونما إثبات التهمة بأدلة ملموسة،فخلقت هذه القضية حراكا سياسيا واجتماعيا حتمت على رجل الثقافة أن يخرج من شرنقته ليعانق رحابة الفضاء العمومي،وكتب الروائي الفرنسي "إميل زولا "كتابه الشهير"إني اتهم..."إلى رئيس الجمهورية يشرح فيها حيثيات إدانة دريفوس و الكشف عن تهافت الأدلة التي جعلت منه مجرما يستحق العقاب في حين كانت القضية وما فيها مجرد فبركة لملف أُريد له أن يُستغل سياسياً لأهداف معينة.. وتُؤرخ هذهالقضية من جهة أخرى- وهو ما يُهِمّنا نحن- لما يمكن تسميته بالتزام المثقف تجاه قضايا المعيش اليومي؟كيف يتعامل المثقف مع قضايا وإشكالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟هل عليه أن يخوض في هذه الموضوعات ويكشف عن موقفه تجاهها أم عليه أن يبتعد عنها،باعتبارها موضوعات زمنية ومؤقتة،في حين المثقف ينشد خلود آثره وتلميع صورته لترقيتها إلى درجة الأيقونة.لكن يبقى السؤال المطروح:هل انخراط المثقف في معترك قضايا شعبه يجعله يخسر صورته بوصفه مالكا لرأسمال رمزي يتيح له وضعا اعتباريا داخل المجتمع،أم أن هذا هو جوهر مهمة المثقف أساسا؟ في الحقيقة إن تحديد الموقف من مهام المثقف داخل مجتمعه،لا يمكن أن يكون مرتبطا بمزاج ثقافي معين أو اختيارات فنية وتقنية خالصة،بل هو في آخر المطاف تحديد للموقع الاجتماعي لمثقف ما داخل مجتمعه،فمحاولة عزل الفكر والأدب والفن عن بيئته الاجتماعية،مهما تفننا فيها لن ننتج إلا محاولات دونكيشوتية،تستند إلى سلاح ورقي سيذوب لا محالة بمجرد وصول أولى قطرات غيوم الصراع الاجتماعي. إن الواقع السياسي والثقافي الذي تحاول تكريسه الآلية الإعلامية المسيطرة،ومن ورائها طبعا الإيديولوجية المسيطرة لا يكتفي - كما كان في زمن ما- بتحييد المثقف وإبعاده عن التدخل في الحياة السياسية والاجتماعية،بل صار المثقف ملزما بأن يتحول إلى "كلب حراسة جديد"كما لاحظ ذلك بيير بورديو عن حق في كتابه"التلفزيون والية التلاعب بالعقول"،إذ لم تعد الطبقة المسيطرة تراهن على شراء صمت المثقف والدفع به إلى هامش الحياة السياسية والاجتماعية، بل صار مطلوباً منه أن يتحول إلى كلب حراسة يحرس هياكل المعبد القديم،تماماً مثلكلب احمد مطر:يعقر بالجملة/يسبق ظله/يلمح حتى اللأشياء/يسمع ضحكة النملة.... أكيد"أن ثمة شيء ما فاسد في الدانمارك " كما قال شكسبير ذات مسرحية ،وهو ما يستدعي في نظرنا إعادة صياغة بيان على شاكلة بيان زولا "إني اتهم"، لكنه بيان لن يكشف صمت المثقف بل عليه أن يكشف تورط المثقف،ومساهمته المباشرة في تأبيد وضع الاستغلال وإهدار إنسانية الإنسان. إن مهام المثقف العضوي كما صاغها غرامشي في حاجة إلى تطعيم حتى تتوافق والمرحلة،فالمثقف التقليدي[الذي هو نقيض المثقف العضوي عند غرامشي] توارى إلى الوراء و"احتل" مكانه على خشبة المسرح مثقف جديد يتميز بكونه بلور رأسماله الرمزي وشكل اسمه في سياق مغاير،ويتبنى خطابا يساريا تقدميا في المظهر غارق في الرجعية في الجوهر،فهو يؤجر خدماته لأكثر المؤسسات رجعية ،بدءاً بمؤسسات القرون الوسطى [ المؤسسة الملكية مثلا...]،وليس انتهاءً بمؤسسات الامبريالية كالاتحاد الأوربي .كما يحيط نفسه ببطانة فاسدة لا تتقن إلا النباح والحرص على تلميع صورته في أعين الجماهير كلما اهتزت. لذلك فالكشف عن تورط المثقف "المرتزق"هي مهمة متكاملة مع المهام التي سبق لغرامشي أن صاغها بداية القرن العشريين.خصوصا أن أغلب هؤلاء" المثقفون المرتزقة" سلكوا طريق ما يسمى بالمجتمع المدني لتأدية أغلب المهام القذرة التي كُلفوا بها،فلا غرابة أن نجد احدهم "يجتهد" كي يحدثنا عن" الرفيق" هابرماس، وعن الفعل التواصلي و الفعل الاداتي والفضاء العمومي،بعد أن ظل لسنوات يحدثنا عن غرامشي و المثقف العضوي ومفهوم الهيمنة والسيطرة والكتلة التاريخية،فالتواصل والتفاهم طردا الصراع الطبقي وحلا محله،فهل الواقع هو هكذا أم هو شيء من سخرية التاريخ؟ أم ليس هذا و ذاك،وإنما بكل بساطة ذاك هو الفرق بين مقال كُتِب في السجن وأخر كُتِبَ في باحة البار...