بين أيدينا كتاب "العولمة والعلمانية من منظور علم الاجتماع" وألفه الباحث المصري حسين عبد الحميد أحمد رشوان، والذي يُعَرِّف نفسه في غلاف الكتاب بأنه "كبير مدرسي علم الاجتماع بدرجة مدير عام، أستاذ جامعة الإسكندرية، سابقا". ونعتقد أن الكتاب يصلح للتدريس في المناهج التدريسية التي تشتغل على عقد مقارنات بين القراءات/النماذج التفسيرية المُرَكَّبة والاختزالية للظواهر الاجتماعية، ومنها ظاهرة العولمة ومعها العلمانية كما نقرأ في عنوان المبحث. نحن بصدد قراءة تفسيرية اختزالية نوعا ما، مع أن موضوع العولمة ومعه منظومة العلمانية لا يحتملان البتة السقوط في مأزق القرارات التفسيرية. ثمة مأزق آخر يكمن في سيادة نزعة معرفية تكاد تكون مركزية، وتتضح جليا في ثنايا خطاب ومراجع الكتاب (والصادر عن "مركز السكندرية للكتاب")، وحتى في المقدمة ونقتبس منها فيها بالحرف، أن الكتاب يُعدُّ "إسهاما جوهريا في فهم العلاقات الاجتماعية العالمية، حيث تطرق إلى مصطلحات العلمانية، والعولمة أو الكونية، أو الكوكبة، وما يتصل بها من إشارات متكررة إلى المتغيرات الدولية، أو العالم المتغير، وركز على هذه المصطلحات التي شاع استخدامها".. "وتبدو أهمية هذا الكتاب في أنه يلقى الضوء على قضايا العلمانية والعولمة، من منظور علم الاجتماع والنظريات الاجتماعية والثقافية". تستهدف هذه الدراسة "إدراك مفاهيم هذه المصطلحات التي تختلف في تعريفها باختلاف المفكرين والحكماء. كما تستهدف الكشف عن العولمة من جميع جوانبها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وما يبغيه المؤيدون لها من تبعية الدول النامية للدول المتقدمة". لجأ الكاتب إلى سبعة بعد المائة مرجع، ومنها أربع عشرة مجلة عربية، وأربع عشرة جريدة عربية، وثمانية مراجع عربية مترجمة، وستة مراجع أجنبية، إضافة إلى ستين مرجعا عربيا، بيت القصيد، ومعلوم أن الإنتاج العربي (المفهومي والنقدي في التعاطي مع الظاهرة) لا يمكن أن يخرج عن طبيعة الإنتاج المعرفي العربي إجمالا، ويندرج أغلبه ضمن خانة القراءات والنماذج التفسيرية المتواضعة في القدرة التفسيرية، في حين تقل القراءات التفسيرية المُرَكِّبة والرصينة (ونذكر منها على سبيل المثال فيما يتعلق بقراءة ظاهرة العولمة، ما يصدر عن المفكر المصري الكبير جلال أمين أو الباحث المغربي يحيى اليحياوي). هناك مجهود تجميعي كبير في العمل، حتى لا نبخس قيمة العمل، فهو يحفل بشهادات وقراءات الغير، ويكاد يصبح تجميعا لهذه القراءات وأحيانا قراءات في قراءات، فمثلا، نطلع على قراءات لنعوم تشومسكي الأمريكي وعبد الوهاب المسيري المصري حول هذه النقطة أو تلك، دون أن نجد لهما أثرا في مراجع الكتاب، لولا أن الأمر يتعلق بقراءات نقدية لتشومسكي والمسيري جاءت في معرض استشهادات لباحثين استشهد بهما الكاتب، وهكذا دواليك، وفي أحيان كثيرة، ننتقل من رؤية هذا الباحث لوجهة نظر ذلك الكاتب، مع اكتفاء المؤلف بتمرير تعليق أو وجهة نظر عابرة! فمثلا، يستشهد الكاتب بما حرره الباحث محمد البهي عن العلمانية، من كونها "اعتقاد بأن الدين والشؤون الإكليريكية اللاهوتية والكنيسة، والرهبنة لا ينبغي أن تدخل في أعمال الدولة، وبالأخص في التعليم العام. ومن ثم يكون الهدف من التحول إلى العلمانية هو التخلص من الرهبنة والعهد الرهبني"، ليستشهد مباشرة بالذي حرره المسيري من أن الرهبنة هي فصل للدين عن الدولة هو تعريف قاصر وساذج، لأنه يحصر العولمة في إطار ما يسمى بالحياة العامة، وفي المجالات السياسية والاقتصادية فحسب، وكأن حياة الناس خاصة وأحلامه وأسلوب حياته تظل بمعزل عن عمليات العلمنة. لكن المعروف أن مؤسسات الدولة وصناعة الترفيه واللذة في المجتمعات الحديثة قد تغلغلت في حياة الإنسان الخاصة دون أن ندري ما إن كان الأمر يتعلق باستشهاد من إحدى أعمال هذا الأخير، ونحن لا نطلع على أثر لأي عمل لمؤلف "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" في مراجع الكتاب، أو أن شهادة المسيري اللاحقة جاءت ضمن شهادة محمد البهي السابقة! في معرض تقييم منظومة العَلمانية، يرى المؤلف أنها تُنسّبُ إلى العالم، "وهي تعني الدنيوية واللادينية، والعلماني عند الغربيين المسيحيين: من يعنى بشؤون الدنيا، نسبة إلى العلم بمعنى العالم، وهو على خلاف الكهنوتي، أي استبعاد الدين والكهنوتية في توجيه شؤون الحياة الدنيا في السياسة والاقتصاد والعلم والأخلاق والتربية، ورفض كل صورة من صور الإيمان أو العبادة الدينية، واعتبارها من الأمور التي لا ينبغي أن تدخل في أعمال الدولة". وكان من الأولى، ما دام الكتاب مليء بقراءات حول العولمة والعلمانية، أن يستسهد بالذي حررته العديد من الأقلام العربية في هذه الجزئية بالذات، ولسنا في حاجة إلى التوقف عند إبداعات العديد من هذه الأسماء الوازنة في هذا المقام. نختتم هذه الملاحظات بالذي حرره المؤلف عن مصطلح العولمة، واصفا إياه بأنه "جديد في طرحه، انتشر في أوائل التسعينات في القرن العشرين في كتابات سياسية واقتصادية".. والعولمة "ظاهرة ما زالت غير واضحة المعالم، لا من حيث تحديد المفهوم، ولا من حيث اختبارها على أرض الواقع".. "وعيب العولمة أنها توجه اهتمامها للجوانب المادية، وذلك على حساب الإشباعات الروحية. وقد أخل ذلك بالتوازن الإنساني، وعطل قوى الإنسان الخيرة، وساعد على شراسة قواه الشريرة، وليس بمستغرب ارتفاع نسبة الجريمة والعنف والاغتصاب الجنسي في ظل إباحية جنسية، وزيادة معدلات الاكتئاب وزيادة الأمراض النفسية، والرفض الاجتماعي للمجتمع، والذي تمثل في جماعات الهيبز والبتلز وعبدة الشيطان وغيرها كعلامة رفض للمجتمع وأوضاعه الراهنة". يرى المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري أن نحت النماذج المُرَكَّبَة (بما تتضمنه عملية التجريد والتفكيك والتركيب) تبقى عملية صعبة للغاية تتطلب جهدا إبداعيا واجتهادا خاصا. ففي كثير من الأحيان، يقوم الناس أثناء عملية التفسير بعملية تجريد تفكيكية اختزالية أبعد ما تكون عن التركيب وتتسم بالتبسيط والوضوح. فيستبعدون بعض العناصر ذات القيمة الأساسية في عملية الفهم والتفسير، وتصبح النتائج التي يتوصل لها الباحث يقينية الأمر الذي يولد لدى الإنسان وهم التحكم الكامل في واقعه والتفاؤل الشديد البسيط. نعتقد أن هذا التفكيك الصادر عن معلمة فكرية عربية، في حاجة إلى إسقاطه على أي عمل يرغب في التعرض لظواهر مجتمعية معقدة ومركبة.