التاريخ الإنساني هو تاريخ إنتاج المعنى، ويتجلى ذلك في الصراعات والحروب ونشوء الدول والأديان والإتجاهات الفكرية، فالإنسان كائن ثقافي خاضع لإشارات ورموز وعلامات تتجلى في مجمل إنتاجه المادي والمعنوي، ولا يمكن تصور أي إنسان خلو من أي محمول معنوي، وإلا فإنه جثة فاقدة لكل استجابة وتبادل مع العالم والمحيط والذات، فالإنسان يستقبل المعنى ويفسره ويؤوله ويتطبع به، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش ويموت من أجل فكرة، وهو منغمر في الوجود وغارق فيه حد النسيان والتواري،الإنسان منفعل وسلبي ومحجوب تحت ركام من الأقنعة، الإنسان كائن نمطي ويعيش الماضي ويكرره بصورة اجترارية دائمة، فثمة قوالب جاهزة وأدوار سابقة نصب ذواتنا فيها ونتقمصها بشكل حرفي .. لذلك فنحن أمام حالة اختفاء للإنسان، الإنسان باعتباره ذاتا فردية تملك ملامحها الخاصة وهويتها الفارقة والمميزة، وتفعل وتتفاعل إنطلاقا من رغباتها الآنية والطارئة، فصور اختفاء الإنسان تتجلى في الضمير الجمعي الذي يتكلم ويتصرف ويسلك نيابة عنه، وتتجلى في صور التعصب والتشيع لهذا المذهب أوالدين أوالفكرة أوالقبيلة، فليس هناك إنسان فرد أحد مميز مفارق مختلف، بل نحن أمام أفكار تتناسل وتتوالد وتجمع الأنصار وتخلق الأعداء وتبني البيوت والحدود، الإنسان يعيش في عوالم افتراضية ومفارقة يسير فيها مسرنما ومخدرا، فالأفكار وما تحمله من رموز وإشارات وما تتطلبه من تفسيرات وتأويلات هي الفاعل الوحيد والأوحد، بينما الإنسان مجرد تابع وخاضع ومناصر، فالإنسان هو ذلك (الجندي المجهول) الذي لا نعرف عن ملامحه وخصوصيته شيئا، بينما نعرف كل شيء عن المعركة التي قضى فيها.. فالإرادة والحرية والوعي والإبداع تصبح مجرد تسميات لمسمى مغترب ومنفصل عنها، وهذا المسمى هو الإنسان،فالكشوفات العلمية من ماركسية وداروينية وبنيوية وفرودية حطمت مركزية الإنسان وغروره عندما كشفت عن الشروط التاريخية والمادية واللاشعورية واللغوية والبيولوجية المتحكمة في سلوكه وطريقة وعيه والراسمة لمصيره ومستقبله، وقبلها كان الإنسان ينظر إلى ذاته باعتباره قوة فاعلة ومغيرة ومبدعة وخالقة وتحتل مركز الكون، وقام باستبطان أقوال وسلوكات وعادات على أنها الحقيقة المطلقة وأكثر من ذلك أرجعها إلى قوى غيبية ومتعالية غارقا بذلك في طمأنينة خادعة ونسيان شاسع، إلى أن عرى عن جرحه وانتبه إلى ضآلته واستيقظ في قلقه،لذلك فالإنسان عبارة عن فكرة قابلة للدحض والفناء في كل لحظة وحين . فتصعيد النزعة الإنسانية المفعمة بالحماس وبالنوايا الطيبة في رسم صورة مثالية للإنسان لا يمكنه أن ينتج لنا سوى الكثير من الكوارث التي تتجلى على شكل سوء فهم للآخر والتموقع ضده وربما الانقلاب على ما كنا نعتقد فيه ونؤمن به، فمثلا مشكل الخلافة الاسلامية كشف عن أن صلاح الخليفة وورعه وتقواه لا يمكن أن ينتج لنا بالضرورة حكما عادلا وتسييرا حكيما مثلما هو الشأن مع الخليفة عثمان بن عفان، هذه الفترة التي أنتجت لنا من العنف والحروب والقتلى والطوائف والتيارات ما لم يعرفه النظام القبلي الذي أتى الإسلام بغاية إزاحته وتوحيد الناس على أساس ديني بدل الأساس الدموي والعرقي، فإذا به يكرس ما كان سائدا ويعمقه ويشعبه، من خلال إنتاج معان جديدة مثل التكفير والردة والجهاد.. مع ما يمكن أن تعرفه هذه المعاني الجديدة من توظيف واستغلال وتأويل بما يخدم صراع كل جماعة ضد الأخرى.