مضى على الشاب ياسين (21 سنة) أكثر من ثلاثة أشهر لم تطأ قدماه خلالها أرض الجامعة التي يدرس فيها، فهو من الصنف الذي يعاني من رهاب اجتماعي، تتمثل أعراضه الكبرى في احمرار طاغ على صفحة الوجه، وخوف مقيم في قلب يخشى مواجهة الآخرين. فلم يجد ياسين، هذا الشاب البيضاوي الذي بلغ بشق الأنفس سنته الثانية بشعبة الحقوق، بدا من اعتزال الناس والانطواء على نفسه، بعدما قرر التوقف عن الدراسة هذا العام، وأقسم جهد يمينه أن لا يعود إليها إلا بعد أن يجد علاجا يمنع تدفق الدم إلى وجهه بغزارة، ويكسر حاجز الرهبة والخوف الذي يعتريه في كل مرة يقف فيها بالمدرج، لتقديم مداخلة أمام الأستاذ والطلبة الحاضرين. تعرف موسوعات الطب الحالة التي يعاني منه ياسين ب"الإيروتوفوبيا"، وهي كلمة يونانية الأصل تعني الرهاب أو الخوف من احمرار الوجه أمام الناس. + الإيروتوفوبيا... باب ما جاء في تشخيص الداء + ويعزي الدكتور المهدي بايص، وهو طبيب اختصاصي في الأمراض العصبية والعقلية والنفسية وطبيب رئيس سابق بالمستشفى الجامعي (الرازي) بسلا، هذا النوع من الرهاب إلى عاملين رئيسيين، هما العامل الوراثي والعامل الاجتماعي التربوي، موضحا أنه غالبا ما تغيب عند المصابين به، ملكة التواصل مع الآخر ويجدون صعوبة في تحقيق هذا الأمر، بسبب خلل على مستوى البيئة الاجتماعية التي نشأوا وفيها، والتربية التي تلقوها. وأكد الدكتور بايص، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن حمرة الوجه تصبح أمرا مرَضيا، عندما تتجاوز حدتها الحد الطبيعي وتفوق حالة الخجل العادية، ويرافقها خوف من مواجهة الآخر، مبرزا أن الايروتوفوبيا ليست داء في حد ذاتها، بقدر ما هي عرض من أعراض مرض الرهاب الاجتماعي، الذي يقدِّر البحث الوطني الأول عن الصحة النفسية عدد المصابين به بالمغرب بمليون شخص. وأوضح أن هذه الحمرة، التي غالبا ما تمس شريحتي الأطفال والمراهقين باعتبارهما فئتين تتسم الحالة العاطفية عندهما بنوع من الهشاشة والحساسية، تمثل رد فعل وانعكاسا بيولوجيا للقلق الذي يشعر به المصاب بهذا الداء، في كل مرة يجد نفسه فيها في مواجهة الآخرين، بحيث يعتقد، وهو جالس في مطعم على سبيل المثال، أن جميع الناس ينظرون إليه، وأنهم بصدد إصدار أحكام عليه. وعلى الرغم من أن هذا الأمر غير حقيقي، ولا أساس له من الصحة، يضيف الدكتور بايص، فإن رهاب احمرار الوجه يتسبب لأصحابه في معاناة كبيرة، كونه يعرقل اندماجهم في المجتمع بشكل طبيعي، ويزيد من ميلهم نحو العزلة وتجنب الدخول في وضعيات محرجة. + مرضى الإيروتوفوبيا... وفصول من واقع المعاناة + وبالفعل، لم يُخْف ياسين، في تصريح مماثل، ما يجوس في نفسه بين الحين والآخر من "رغبة في الموت" من أجل وضع حد لما يعيشه من "جحيم لا يطاق"، فلا هو قادر على إخفاء حمرة الوجه وتحقيق اندماج طبيعي وسط المجتمع، ولا هو مطيق سخرية أصدقائه والمحيطين به حين تسري في وجهه تلاوين الحمرة ويصير أمامهم "كالطماطم الحمراء". ينقل ياسين بدوره جانبا من الصعوبات التي تعترض المصابين بهذا الرهاب، مستحضرا نموذج طالبة فرنسية أعدت، بعد طول عناء، أطروحتها للدكتوراه.. حتى إذا اقترب يوم مناقشتها، وكانت قاب قوسين من نيل شهادتها، خجلت ووجلت، وارتعدت منها الفرائص، وسيطرت عليها الهواجس، وطلبت التأجيل إلى تاريخ لاحق.. وفي هذا يسطر ياسين، بغير قليل من الحزن، أن "لحظات الفرح عندنا نحن مرضى الرهاب الاجتماعي مؤجلة على الدوام". لطيفة (24 سنة) مجازة في العلوم الاقتصادية وحاصلة على دبلوم في الإعلاميات، كانت بدورها تمني النفس بواحدة من لحظات الفرح هذه، وهي في الطريق إلى اجتياز مقابلة شفوية، هي الثالثة من نوعها، للحصول على منصب شغل، إلا أن داءها يكون له، دائما، موقف آخر حين يعلو الدم سحنات وجهها بمجرد أن تقف أمام لجنة الاختبار، فتتوجس خيفة من هذا الموقف، فتنسحب خائبة يلهج لسانها بالاستعاذة بالله من الجبن والخوف الثقيل، ويطرح قلبها السؤال: هل إلى علاج ووظيفة من سبيل. + الإيروتوفوبيا.. هل إلى علاج من سبيل + ولأن لكل داء دواء يستطب به، فإن الشفاء من الرهاب الاجتماعي الذي يعد رهاب احمرار الوجه أبرز تمظهراته، يستدعي، حسب الدكتور بايص، اللجوء إلى نوعين من العلاج، هما العلاجي النفساني والعلاج الدوائي، الذين يتم اعتماد أحدهما أو المزاوجة بينها حسب كل حالة على حدة. ويوضح أستاذ الطب النفسي، أن العلاج النفساني، أو العلاج السلوكي والمعرفي، يقوم على تعزيز ثقة المريض في نفسه وتهييئه وتدريبه على مواجهة الوضعيات التي يشعر بالارتباك والقلق إزاءها، وذلك بشكل تدريجي وعلى مدى جلسات مع الطبيب المختص، تتراوح في المتوسط ما بين 15 و30 جلسة، فيما يقوم العلاج الدوائي على تناول أدوية خاصة بعلاج الرهاب الاجتماعي، لمدة تصل إلى 6 أشهر، ويصفها الطبيب، حسب كل حالة. وعكس ما تروج له بعض الأوساط من إمكانية القضاء على حمرة الوجه المفرطة عبر إجراء عملية جراحية على مستوى العصب الودي، فإن الدكتور بايص يحذر بشكل قاطع من خطورة إجراء هذا النوع من العمليات بحكم المضاعفات الخطيرة التي تنتج عنها، والتي تفوق المعاناة التي تسببها بأضعاف مضاعفة، المعاناة التي يتسبب فيها رهاب احمرار الوجه. وإلى أن يجد المريض سبيله للعلاج، تبقى أمامه بدائل تكنولوجية للتعبير عن الذات وتطلق دعوات من هنا وهناك إلى تأسيس جمعية تعنى بمرضى الإيروتوفوبيا، تقدم لهم الدعم والرعاية اللازمين. + الشبكة العنكبوتية.. ملاذ للتعبير عن الذات ولو "من وراء حجاب" + يقول السيد خالد إحرشين مؤسس موقع إلكتروني مغربي مختص في الحديث عن هذا الداء (دوبلفي دوبلفي دوبلفي.إيروتوفوبي.ويبهوستينغ-فور-فري.كوم)، إنه يتوخى بالأساس التعريف بمرض الرهاب الاجتماعي لدى جمهور المواطنين والمصابين بالمرض، خصوصا وأن الداء يندرج في قائمة الأمراض المسكوت عنها، وكذلك نظرا إلى النقص السائد في هذا المجال. ويتوزع الموقع على ثلاثة محاور كبرى، يقوم أولها على "فهم المرض" من خلال التعريف به وتقديم لمحة تاريخية عنه، والحديث عن العوامل التي تدخل في بروزه وتأثيره على حياة المريض، فيما يتطرق المحور الثاني إلى شق "العلاج" بأصنافه النفسية والدوائية والحلول التجميلية. أما المحور الثالث فهو عبارة عن أرضية ومنتدى للنقاش يمكن للمصابين بالمرض من خلالها تقديم شهاداتهم والتحدث عن تجاربهم في هذا المجال. ويوضح السيد إحرشين، وهو فاعل جمعوي وطالب بجامعة (باريس 8) بفرنسا بتخصص علم النفس، أن فائدة هذا الموقع بصفة خاصة، والشبكة الإلكترونية على وجه العموم، تكمن في كونها تتيح للمريض فرصة التعبير عن نفسه والإدلاء بآرائه ومداخلاته، "من وراء حجاب" ودونما حاجة إلى التفكير في هاجس احمرار الوجه، وهو ما يعتبر، إلى حد ما، حلا ناجعا يغنيه عن مواجهة الآخرين ولو إلى حين. وحسب السيد إحرشين، فإن هذا الموقع يسعى أيضا لأن يكون ملتقى افتراضيا يتواصل فيه مرضى رهاب احمرار الوجه، ويشكل أولى الخطوات للتلاقي على المستوى الواقعي، داعيا في هذا الصدد الأطباء المختصين وأسر وذوي المرضى إلى التفكير في تأسيس جمعية تؤطرهم وتوفر لهم الدعم النفسي وتسهل لهم سبل العلاج. ولا شك أن مجرد إقدام مرضى الإيروتوفوبيا على الانتظام في سلك جمعية من هذا القبيل، يعد في حد ذاته خطوة في مسار العلاج والتخلص من هذا الداء، ويفتح أمامهم سبلا لمجابهة الحياة بما تفرضه من تحديات دون الانكفاء على الذات، والرجوع إلى الوراء، والتسليم - في كل لحظة وحين- بمضمون مقولة مفادها أن "الآخرين هم الجحيم".