غريب أمر العقيد القذافي. فهو تصدى منذ اليوم الأول للمظاهرات ضده بالرصاص، وشن حربا شرسة على كل المدن التي انضمت للانتفاضة، وقتل الآلاف من أبناء شعبه مستخدما الطائرات والدبابات وقاذفات الصواريخ والبوارج البحرية. وبعد أن ارتكب كل هذه الفظائع، نراه اليوم يصرخ بأن الغارات التي شنت على قواته بعد قرار مجلس الأمن «همجية وتؤدي لقتل المدنيين». كيف يمكن للناس أن يصدقوا أنه حريص على حياة المدنيين بعد أن رآه العالم وسمعه وهو يأمر كتائبه ب«شد الجرذان» وبملاحقتهم وقتلهم «بلا رحمة أو شفقة»، حسب تهديده لسكان بنغازي، حتى وهو يرى التحركات وقتها لصدور قرار مجلس الأمن بالتدخل عسكريا لحماية المدنيين. إن تصريحات القذافي ليست خوفا على المدنيين، بل على نظامه. وهو من يتحمل مسؤولية ما يحدث اليوم، لأن تصرفاته في البطش بشعبه هي التي جرت هذا التدخل الدولي. بل إنه أول من قام بتدويل الأزمة عندما جند المرتزقة من كل حدب وصوب لقمع شعبه والتنكيل به وممارسة القتل بلا رحمة أو هوادة. وهو لم يتورع في ذلك عن الاستعانة بشركات أمن أجنبية، وهناك تقارير تقول إن من بينها شركة إسرائيلية، لكي تجند له المرتزقة. كما أنه وظف شركات علاقات عامة لكي تساعده في إدارة الحملة الإعلامية والسياسية التي يخوضها دفاعا عن سلطته، وليس دفاعا عن شعبه. الرجل يتخبط اليوم مثلما أن نظامه يترنح. فهو كان ينفي للمراسلين الأجانب أن هناك مظاهرات ضده لأن كل الشعب يحبه، وأنه حتى لو وجدت مظاهرات فهي لتأييده. هذا بينما كان العالم يشاهد المدن الليبية تتظاهر ضد النظام وتدعو لسقوطه وتمزق كتابه الأخضر. والعقيد كان قبل أيام يحاول استمالة الغرب بالقول إنه يحارب «القاعدة» والإرهابيين، وما إن رأى بوادر التحركات العسكرية ضد قواته بقرار التدخل من مجلس الأمن حتى بدأ يهدد بأنه سيتحالف مع «القاعدة». وهو تارة يعد بأنه سيصبح شرطيا لحماية أمن المتوسط وأوروبا وحتى إسرائيل، ثم يلوح تارة أخرى بأن كل منطقة المتوسط أصبحت ساحة حرب مفتوحة وأنه قد يقوم بعمليات عسكرية انتقامية فيها. كما أنه يتباهى حينا بأنه ملك ملوك أفريقيا، ثم يأتي ليقول إنه يحمي أوروبا من الهجرة، وإنه لو رفع يده عن هذا الملف فإن القارة الأوروبية ستصبح كلها سوداء. وهو يحذر من سيطرة الغرب على نفط ليبيا وسلب ثرواتها، بينما يلوح باستخدام عقود النفط كجوائز للدول التي لا تقف ضد نظامه ولا تؤيد قرار مجلس الأمن بالتحرك العسكري ضد قواته. بل هو ينسى أنه وضع أموال الشعب الليبي من عائداته النفطية في حسابات المصارف الغربية، وأن عمليات تجميد الأموال في الخارج كشفت عن حسابات وعقارات بمليارات الدولارات قيل إنها تعود له أو لأبنائه. لا أدري كم مرة كرر العقيد القذافي في خطاباته الأخيرة أنه ليس لديه منصب وأنه سلم السلطة للشعب منذ سبعينات القرن الماضي، وأنه لو كان لديه منصب أو كان رئيسا لرمى باستقالته على وجوه المحتجين. لكن رغم ذلك نراه يستميت مع أبنائه في التشبث بالسلطة والقتال من أجلها حتى آخر طفل وآخر امرأة، وأوامره كانت واضحة لكتائبه العسكرية التي يقودها أبناؤه وهي ملاحقة وقتل من وصفهم بالجرذان بلا رحمة. كل هذا دفاعا عن سلطته التي يقول إنها «معنوية» فقط، على الرغم من أننا سمعناه ورأيناه يصدر كل الأوامر والتوجيهات العلنية لشن الحرب ضد المعارضين، ودخول البيوت (دار دار)، وقتل أبناء شعبه الذين لا يراهم أكثر من «كلاب ضالة» لأنهم تعبوا من نظامه الذي جثم على صدورهم أزيد من واحد وأربعين عاما. وإذا كنا قد سمعنا عن عمليات القتل التي حدثت بالقصف العشوائي أو برصاص وقذائف كتائب القذافي بعد اقتحامها لبعض المدن أو محاولتها لاقتحام بنغازي ومصراتة، فإن كثيرين يتخوفون من مذبحة قد تتكشف في مدينة الزاوية التي اقتحمتها هذه الكتائب بعد حصار طويل وقتال عنيف ثم عزلتها عن العالم بحيث لم يعد أحد يعرف ما يدور فيها. ليس هناك من عاقل يتمنى أن يرى تدخلا أجنبيا في بلد عربي، حتى وإن كان هذا التدخل بقرار من مجلس الأمن، لكن العقيد القذافي هو الذي جر هذا التدخل على بلاده. وكم هو محزن أن نرى العقيد يحاول حتى اللحظة تدمير شعبه وإشعال حرب أهلية بدعوته للقبائل للانطلاق في مسيرة خضراء «تحمل أغصان الزيتون» والتوجه إلى بنغازي لحل المشكلات «بطريقة سلمية وتفويت الفرصة على الأعداء». ألم يكن القذافي يدعو قبل ذلك بساعات إلى فتح مخازن السلاح وتوزيعه على المواطنين، للتصدي لمن وصفهم بالخونة؟ بل لماذا لم يقم منذ البداية بمواجهة المظاهرات السلمية بأغصان الزيتون بدلا من الرصاص والقصف؟ لقد فقد نظام القذافي شرعيته بعدما قتل الآلاف من أبناء شعبه، وبسبب الويلات والمصائب التي يجرها على بلده اليوم. وهو إن تمكن من الحفاظ على السلطة سينتقم لاحقا من شعبه، وسيثير المشكلات لدول الجوار، وسيعود لمغامراته التي بدد فيها ثروات الشعب الليبي، وللإرهاب الجنوني الذي عرض به بلده للحصار ثم دفع المليارات من الدولارات كتعويضات لأسر الضحايا أو لضمان عدم ملاحقته. إن نظام العقيد، يجب أن يرحل، فالشعب الليبي الطيب يستحق - بلا شك - زعامة أفضل، وحياة أحسن.