عندما قدم الزعيم الليبي معمر القذافي للعالم خطابه السياسي الأول، بعد قيام ثورة شعبه عليه، نموذجا متقدما للهلوسة والهذيان السياسي، حاول أن يقنع الناس أن سبب ما يحدث هو تعاطي الليبيين حبوب الهلوسة التي وزعها عليهم تنظيم القاعدة. تلقى العالم هذا التفسير بضحك وشفقة وسخرية على قدرة الرجل على التلون لآخر لحظة، ولكن يبدو أنه وجد من «اشترى» الكذبة وصدقها! فها هو تقرير لصحيفة ال«نيويورك تايمز» العريقة يقول إن إسرائيل «متخوفة» من التحول الديمقراطي في العالم العربي، وإن هذا التحول الشعبي سيأتي بالتنظيمات الإسلامية المتطرفة التي ستكون معادية لإسرائيل، وبالتالي هي ترى أن بقاء القذافي أقل خطرا من إزالته (وهي نفس الرسالة التي قالها القذافي ضمنا في أحد لقاءاته الصحافية الأخيرة حينما قال إن إزالة نظامه سيكون خطرا على أوروبا وإسرائيل!). إذا كان الغرب يحاسب العالم العربي (مصر والبحرين واليمن مثالا) عن مخالفات أجهزة الأمن باستخدامها العنف، فإنه يبدي «ميوعة» غير مقبولة أخلاقيا في الحسم السياسي والعسكري للمذبحة التي يرتكبها النظام الليبي بحق مواطنيه بلا رحمة ولا وعي، مستعينا بأعتى الأسلحة والقدرات والعتاد من دبابات وطائرات وصواريخ، متسببا في سقوط ضحايا بالآلاف ما بين قتلى وجرحى في مشهد مروع. العرب مطالبون بمعاملة الوضع في ليبيا كوضع يستوجب التدخل العسكري من قبلهم في ظل التقاعس العسكري والسياسي من قبل المجتمع الدولي، والمبادرة بالتحرك كما فعلوا ذات يوم مع لبنان حينما أرسلوا قوات الردع، واليوم مطلوب تحرك «محدود» وضرب طائرات القذافي ومواقع الصواريخ الدفاعية لديه درءا للدماء البريئة التي يقدم على سفكها، ومع الأسف الشديد بات الآن معروفا أن هناك نظامين عربيين يساعدان نظام القذافي بالطيارين والتسهيلات العسكرية، وهذا جرم كبير في حق الشعب الليبي، وحسنا فعلت دول مجلس التعاون الخليجي بإرسال قوات مساندة «لحفظ الأمن» في مملكة البحرين بعد أن تحولت المظاهرات والتهديدات إلى تخريب كامل، وخرجت عن «السلمية» التي نادت بها، وخصوصا أن هناك دعوة صريحة وواضحة للحوار أقدم عليها ولي العهد البحريني، وقدم فيها قائمة من التحولات السياسية تلبي معظم طلبات المعارضة، وهي بالمناسبة لا تتحدث نيابة عن كل الشعب البحريني، ولا حتى بلسان كل الطائفة الشيعية هناك. هناك فرق بين مطالب بلا سقف، وسقف بلا مطالب، واليوم المعارضة تواصل رفع السقف حتى إزالته، وهي تطالب الحكومة بالمزيد، وهو ما أدركه النصف الثاني من المجتمع البحريني فخرج في معارضات واضحة لما يحدث، ويصر على حفظ النظام، ولكن يصر على أهمية إحداث الإصلاح الفوري فيه، وإزالة عناصر التفرقة والعنصرية، ومحاربة الفساد المستشري، وإتاحة فرص التوظيف، وفتح المجال للسكن، وتعزيز قيمة المجتمع المدني، والبعد عن القبلية والطائفية ممزقة الأمم. ليبيا اختارت الرجوع إلى الجاهلية، والاعتماد على القبلية والهمجية على حساب نصرة الحق والمظلوم والمضطهد، وهذا دون تدخل حاسم سيمزق البلاد إلى مجتمعات متشردة بدلا من إخراج القذافي الذي يحكمها وعياله، أما البحرين فحماية الدولة «لتحقيق» الإصلاح هو الذي سيحمي البلاد، فالبحرين غير ليبيا، والوضع مختلف تماما، ولكن التحرك مطلوب في الحالتين لأسباب مختلفة.