تجارب الانتقال الديموقراطي -تونس أي مسار؟" ذلك هو شعار الندوة الدولية التي نظمتها جمعية البحوث حول الديموقراطية والتنمية التي اراد لها مؤسسها الاستاذ الجامعي عزام محجوب ان تكون بالاشتراك مع مركز الدراسات والبحوث والعلوم الاجتماعية بالرباط ومعهد الدراسات الاستراتيجية الدولية بلشبونة والمعهد البرتغالي لدعم التنمية كحلقة اولى في اطار البحث والاطلاع على تجارب الشعوب الاخرى على طريق الخلاص من الدكتاتورية والبناء الديموقراطي. وقد كان واضحا منذ البداية ان الحوار في هذه الندوة التي تنتهي اشغالها اليوم لن يكون عاديا ذلك ان مستوى الحضور الذي جمع العديد من الوجوه الوطنية من مختلف المجالات السياسية والاقتصادية وممثلين عن ابرز احزاب المعارضة للنظام المخلوع الى جانب بعض من الشباب وممثلين عن المجتمع المدني لن يكون عاديا ولن يخلو من الاثارة نتيجة الاختلاف في الاراء والمواقف وهو اختلاف لا يمكن الا ان يكون بناء ومثمرا .فعندما يجتمع عياض بن عاشور والصادق بلعيد ومصطفى الفيلالي واحمد ونيس ومصطفى بن جعفر واحمد ابراهيم وزينب الشارني الى جانب الفارو دي فاسكونسالوس عن المعهد الاوروبي للدراسات الاستراتيجية وانطونيو فيتورينوعن مؤسسة ريبوبليكا البلغارية وغيرهم ايضا فان الاكيد ان الحديث لن يكون في اتجاه الخطاب الواحد او بعيدا عن مقتضيات لعبة الديموقراطية وحق الاختلاف في الراي. من تحديات الانتقال الديموقراطي في تونس الى المجلس التاسيسي و الاصلاح و منه الى اصلاح منظومة الامن و اعادة صياغة القوانبن المنظمة للحياة العامة، تمحورت مداخلات اليوم الاول من الندوة الدولية حول تجارب تحت عنوان الانتقال الديموقراطي تونس الى اين؟ تحديات بالجملة وقد حدد الاستاذ عياض بن عاشور في مداخلته التحديات التي تواجهها تونس في هذه المرحلة الانتقالية وقال ان الثورة نجحت ليس لانها اسقطت نظاما كان له كل اسباب البقاء من القوة والمال والامن ولكن لانها اعادت التونسيين الى ما وصفه بالوعي السياسي وما كان توفيق الحكيم وصفه بعودة الوعي واشار الى انه في ديسمبر 2010 لا احد كان يتوقع هذا الزلزال واوضح ان هذه الصحوة و هذا الضمير اذا وجد مكانه نهائيا لدى الشعب فانه سيكون الضامن بعدم التراجع واشار الى ان كل التونسيين كانوا يتحدثون قبل الثورة عن مخططات لتوريث السلطة بما في ذلك بين الاب والابن وحدد ثلاثة تحديات لمنع العودة الى الماضي واولها ما اطلق عليه الشياطين القدامى الذين مازالوا يتواجدون برغم الحرب المعلنة عليهم وكل المحاولات لاقتلاعهم قانونيا واعتبر ان هذا هو التحدي الاكبر. واعتبرالاستاذ عياض بن عاشور ان التحدي الثاني في المرحلة الانتقالية يتمثل فيما وصفه بالتحدي الكوني defi cosmologique موضحا ان تونس والعالم العربي عاشا انفجارا اشبه بما عاشه العالم قبل ملايين السنين وقال لم يكن هناك شيء فقد كنا نعيش غيابا في الفكر وفي الحرية وغياب للجامعة التي شهدت تراجعا خطيرا وسقوطا رهيبا بعد ان بات الامن ينقل محاضرات الاساتذة الجامعيين ويدعونهم للاستجواب وتساءل بن عاشور عن كيفية الخروج من وضع الفراغ الى وضع الوجود .واوضح بن عاشور ان الانفجار ولد موجة اشبه بالصدمات المتواترة التي يمكن ان تعود وتهز المجتمع وتهدد الاستقرار وخلص الى ان الانضباط السياسي والاخلاقي يمكن ان يساعد على بناء الديموقراطية الحقيقية وقال انه لا بد من التشدد حول المبادئ الاساسية التي لا مجال للتراجع عنها مقابل الليونة في اعتماد الاساليب. وشدد بن عاشور على عنصر الزمن في تحقيق الانتقال الديموقراطي و اعتمد على المثال الايطالي الذي استوجب قرونا طويلة للوصول الى الديموقراطية انطلاقا من الابداع الفني ثم الابداع العلمي واعتبر ان الخلق والابداع يستوجب القطع مع الموجود وفرض الجديد قبل ان يتحقق التطور السياسي بداية من القرن الثامن عشر. الا انه اعتبر ان عملية الانتقال البطيء زمنيا في اوروبا قد لا تبدو قابلة للتكرار في تونس في زمن ثورة التكنولوجيا وتسارع الاحداث وشدد بن عاشور على التحديات التي يفرضها موعد 24 جويلية والحال ان البلاد لم تعرف يوما انتخابات حقيقية حرة وشفافة وقال ان الخبراء الاكثر تفاؤلا يعتبرون انه من الصعب اجراء انتخابات في غضون اسابيع .واشار الى ضرورة العمل على تكوين المراقبين والاستعداد للاستحقاق القادم .الاستاذ احمد ونيس السفير السابق ووزير الخارجية المستقيل اعترض على موقف بن عاشور معتبرا ان تونس لها تاريخها ومكانتها ومكاسبها ولا يمكن بالتالي الحديث عن فراغ مطلق . وهو ايضا ما ذهب اليه السيد احمد ابراهيم وزير التعليم المستقيل في الحكومة الانتقالية الثانية والذي شدد على الحاجة الى عقد سياسي رافضا فكرة اننا ولدنا من فراغ مضيفا ان تونس كان لها ثورة اولى حررت البلاد وثورة ثانية حررت العباد ..اما السيد مصطفى بن جعفر فقد اعتبر اننا امام ثورة بلا راس وان الثورة لم تكتمل واستغرب رد فعل التونسيين الذين يقولون الملك مات ولنمنح ثقتنا للملك وشدد بن جعفر على ان بن علي رحل ولكن نظامه لا يزال قائما وخلص بن حعفر الى ان اوروبا لم تستخلص الدرس وانه لا بد في هذا الاطار من التمييز بين اوروبا الرسمية وبين البرلمانيين والحقوقيين والمجتمع المدني الذي ساند الثورة وحذر بن جعفر من قوى الردة التي لا تزال قائمة. السيد مصطفى الفيلالي كان المفاجاة خلال هذه الندوة اذ ان مداخلته لم تكن مبرمجة وقد تحدث عن ظروف وملابسات نشاة أول مجلس تاسيسي في تونس والذي قال المتحدث انه وضع خلال 34 شهرا بلغة ابن خلدون وكان وريثه لسنة 1861التي وضعها خير الدين وتحدث عنها ابن ابي الضياف في اقوم المسالك .و قال السيد مصطفى الفيلالي على ان الظروف التي حفت باقامة المجلس التاسيسي و مداولاته طيلة 34 شهرا من افريل 1956 الى جوان 1959 كانت ظروفا عصيبة ليس فيها استقرار لاسباب متعددة بينها الحرب على الحدود مع الجزائر والفتنة داخل الحزب الحاكم بين بن صالح وبن يوسف والتي وصفها بانها كانت فتنة سياسية اجتماعية وكان الاضطلاع لمسؤولية جديدة في ظروف عصيبة .وكشف الفيلالي ان الاشهر الاولى من الاستقلال شهدت استخراج عدد من المسؤولين الاجانب كميات كبيرة من الاموال من البنوك التونسية قدرت حسب الشاذلي العياري انذاك بعشرات المليارات من الخزينة التونسية، وقال الفيلالي ان المجلس التاسيسي قام على اساس جبهة وطنية بين القوى الوطنية الموجودة حول الحزب الحر الدستوري والاتحاد التونسي للشغل واتحاد الصناعة واتحاد الزراعة والصيد البحري وخلص الى غياب المشاركة النسائية في المجلس التاسيسي وقال لم يكن للمراة في ذلك الحين اتحاد يشارك في المجلس فكان غياب المراة فيه .واوضح الفيلالي ان الخريطة السياسية كانت متعددة الجوانب والمقاصد وان المداولات كانت تجري بين قوة تنتمي للاتحاد العام التونسي للشغل وبعض المشاركين في الحزب الحر الدستوري الذي كان له جناحان حسب المتحدث محافظين متشددين وجناح التقدميين .واعتبر ان المداولات قامت على ثنائية من يريد ان يخفظ للسلطة التنفيذية سلطة مطلقة على السلطتين التشريعية والقضائية واضاف ان البلد كان في حالة توتر الامر الذي دفع الى كثير من الاختيارات الكبرى بشان السلطة التنفيذية وبذلك جاءت الحريات الاساسية المعترف بها كحرية الراي والعمل والاجتماع وحرية المعتقد كانت دوما مرتبطة بلفظ في نطاق القانون بما يجعله مرتبطا بالسلطة التنفيذية ووزارة الداخلية وانعكست هذه الخيارات بذلك على الاختيارات الكبرى وبالتالي اختيار النظام الرئاسي واردف الفيلالي بان تلك المرحلة كانت تحت تاثير رجل له طاقة عملاقة وهو بورقيبة الذي جمع الشرعية التاريخية والكفاحية وبين الشرعية السياسية ,وخلص الفيلالي الى انه تم الحسم بين نظام رئاسي ونظام برلماني ودفع الى ذلك الحذر من النظام البرلماني والاضطراب الحاصل في الحياة السياسية في فرنسا في عهد الجمهورية الرابعة .واختتم الفيلالي بقوله ان جيله لم يحظ بما يحظى به جيل اليوم من مقارنة بتجارب الاخرين. الاستاذ الصادق بلعيد شدد في مداخلته على التأزم الحاصل مع اوروبا ودعا الاتحاد الاوروبي الى اعادة مراجعة حساباته وقال نقول للاوروبيين اتركونا نصنع ثورتنا بانفسنا معتبرا في ذات الوقت انه من المهم ان نتعلم من تجارب الاخرين ولكنه اعتبر ان الوضع في تونس لا علاقة له بالتجارب الاوروبية واوضح انه ليس في هذا معاداة لاوروبا ولكن اهدافنا كما احتياجاتنا مختلفة عن اوروبا ودعا الى الاستفادة من الاخطاء التي وقعت فيها وقال الاستاذ بلعيد لا نريد ان يزداد الفقراء فقرا في هذا المجتمع . وقد شدد الاستاذ عزام محجوب في افتتاحه اشغال الندوة على ان الهدف يبقى الاستفادة من تجارب اسبانيا والبرتغال وبولونيا في مرحلة الانتقال الديموقراطي وربما تفادي بعض الاخطاء التي قد تعرقل او تشوه المسار الانتقالي .وفي المقابل فقد اعتبر الفارودي فاسكونسيلوس ان الكل يتذكر ان نفس التساؤلات التي تطرح اليوم في تونس في هذه المرحلة الانتقالية كانت تطرح ايضا في اسبانيا وبلغاريا رغم ان الاجوبة تختلف من بلد الى اخر ومن تجربة الى اخرى واوضح ان تجربته في عديد الدول بينها جنوب افريقيا تؤكد ان الحل لا يمكن الا ان يكون تونسيا وان ما عاشت تونس على وقعه حتى الان كان له اثره في مصر وربما في ليبيا التي تواصل ثورتها في مواجهة دكتاتور لا يستهان به. الديموقراطية لا تستورد... عن التجربة البرتغالية على طريق الديموقراطية تحدث انطونيو فيتورينو من المعهد البرتغالي لدعم التنمية وقد لاحظ المتحدث انه لا وجود لمثال يمكن استيراده لبناء الديموقراطية وان لكل شعب طريقه الوطني وعقليته لتحقيق الديموقراطية وهو ما اكتسبه من خلال تجارب متعددة لمعايشة الديموقراطيات الناشئة في عدد من دول اوروبا الشرقية الى جانب دول افريقية مثل جنوب افريقيا وناميبيا وزامبيا واثيوبيا وكذلك الجزائر في مرحلة سابقة واعتبر ان ضمان الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية ضروري معتبرا ان هناك دوما خطر التراجع وخطر الثورة المضادة .واوضح ان الاستقرار اساسي لضمان الطريق الى الديموقراطية وكذلك تخفيف مخاوف المواطن العادي من المستقبل على اعتبار ان عنصر الراحة النفسية مهم وتساءل عن كيفية التصرف مع المسؤولين السابقين واعتبر ان بعض الدول اختارت القطيعة الدموية كما كان الحال في اسبانيا فيما فرض البرتغال على المسؤولين السابقين مقاطعة انتخابية وشدد على ضرورة ضمان استقلالية المحاكم المعنية بمحاكمة المسؤولين السابقين واستعرض فيتورينو ان تجارب بعض الدول التي اختارت القطع مع كوادر الاحزاب الرسمية قبل ان تتراجع عن ذلك بعد ان وجدت انها باتجاه الافلاس من كل الاطارات في البلاد على اعتبار ان المرور عبر الحزب الحاكم كان ضروريا من اجل الحصول على عمل اداري اوغيره. ولاحظ ان مدة اربعة اشهر ستشكل تحد كبير بالنسبة للتونسيين الا ان المهمة ستكون خطوة اولى مصيرية حتى تكتسب السلطة وشدد على ضرورة الانتباه للاختيار القانون الانتخابي الذي يمكن ان يكون له تداعياته على الخيار السياسي مستقبلا كما اعتبر ان عمليات التزوير في الانتخابات غالبا ما تقع في مراكز الاقتراع التي تستوجب الكثير من الفطنة...بالامس فسحت الجمعية التونسية للبحوث حول الديموقراطية والتنمية التي تاسست بعد الثورة المجال لحوار مثمر يفسح المجال امام المفكرين التونسيين والاجانب المجال للحوار والمساهمة في البناء الديموقراطي فعسى ان تكون هذه الحلقة بداية لتجربة جديدة من اجل الافضل.