ما يزال العامل المشترك في ردود الفعل الرسمية في غالبية الدول التي تشهد ثورات أو احتجاجات شعبية هو اتهام جهات خارجية. فالشعوب، كما يبدو، لا يفترض أن تغضب أو تحتج ناهيك عن أن تثور أو تطالب بالتغيير. كيف يمكن لها أن تفعل ذلك وهي التي دجنت منذ زمن بعيد، ولم يعد يتوقع منها أي حراك إلا الخروج في مظاهرات التأييد للزعيم المحبوب، ولرغبته في البقاء على رأس السلطة مدى الحياة، وبأي ثمن. لذلك كانت ردود فعل الزعماء الذين خرجت مظاهرات الاحتجاج ضدهم هي الدهشة الشديدة وعدم التصديق وبالتالي اتهام جهات خارجية بأنها هي التي تدير وتوجه الأحداث وتحرك المظاهرات. ها هو القذافي بعد أن أتحفنا بخطاب «زنقة زنقة»، الذي تحول إلى أغنية صرعت الناس على «يوتيوب»، يؤكد لثلاثة مراسلين أجانب متمرسين ومتابعين للأحداث أن شعبه يحبه ومستعد للموت من أجله. ولتأكيد هذا الحب فإن القذافي أمر قواته بسحق «الجرذان» و«الحشاشين» وتعهد بالقتال «شبر شبر.. دار دار». وبينما أوكل هذه المهمة إلى أبنائه والكتائب العسكرية التي سميت بأسمائهم، تفرغ هو لإلقاء الخطابات وللمقابلات التلفزيونية مع كل مايكروفون يظهر أمامه، لكي يؤكد للعالم أن نظامه متماسك وأن الشعب الليبي كله مع القائد ومع ثورة الفاتح، وأن الصور المنقولة من ليبيا كلها أكاذيب من تضخيم وسائل الإعلام. العقيد فاق الجميع حتى الآن في استعداده لسفك الدماء والقتال «حتى آخر طفل، وآخر امرأة، وآخر رجل»، من أجل التشبث بموقع أدبي ومعنوي حسب قوله لأنه ليس رئيسا ولا منصب لديه لكي يتنحى عنه. وإمعانا في الإصرار على التشبث بهذا الموقع نراه يستخدم كل براعته وقدراته على المراوغة التي مكنته من الاحتفاظ بخيمة السلطة أزيد من 41 عاما. فتارة نسمعه يقول إن هذه مؤامرة تشارك فيها الفضائيات، وتارة أخرى يحاول تخويف العالم بأن خلايا «القاعدة» النائمة في بلاده استيقظت وهي التي تقود المعارك ضد نظامه، أو أن البحر الأبيض المتوسط سيشهد قرصنة مثل الصومال، وأن ليبيا تحت قيادته شريك مهم للعالم في محاربة «القاعدة»، وأنها تحمي أوروبا من الهجرة غير الشرعية «ومن ملايين السود الذين يمكن أن يزحفوا عبر البحر المتوسط». بل إن العقيد لم يتوان عن القول لتلفزيون «فرانس 24» هذا الأسبوع «إن العالم الآن في ورطة لأنه اتخذ موقفا ثم تبين له أن الموقف ليس هكذا، لذلك فهو سينسحب تدريجيا من موقفه». على الضفة الأخرى من العالم العربي نرى الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي يواجه انتفاضة تتسع وتتمدد، يلقي سلسلة من الخطابات ليؤكد اكتشافه أنه سئم الرئاسة، وأنه بعد 32 سنة في السلطة فإن «هناك أناسا سئموا منا.. وهكذا الحياة». ورغم هذا السأم فإنه لن يرحل «عن طريق الفوضى» وسيكمل فترة رئاسته وبعدها «لا تمديد ولا توريث». فكل الاحتجاجات الشعبية الراهنة هي «موجة حماقة»، أو هي فوضى تدار حسب ما قال من «غرفة عمليات في تل أبيب توجهها واشنطن»، قبل أن يعود ويعتذر، لا لشعبه وإنما لواشنطن بعد احتجاجها على كلامه. وفقا لهذا التفسير فإنه على المحتجين أن يوقفوا مطالباتهم بأي حقوق أو حريات، وبتحسين الأوضاع أو بالتغيير، وإلا أصبحوا جزءا من «المؤامرة» الخارجية التي تريد تدمير هنائهم وحرمانهم من قيادتهم المخضرمة والحكيمة التي لن يستطيعوا تعويضها. وخوفا من الفوضى، على الجماهير التي تخرج للشوارع من اليمن إلى ليبيا ومن مصر إلى تونس أن تفهم أن المطلوب منها هو الإحجام عن التظاهر ، والعمل في المكاتب أو في المصانع والأسواق، ثم العودة إلى البيوت ومشاهدة الفضائيات عندما تبث لنا المسلسلات والمسابقات وأخبارنا المفرحة، وأخبار المشكلات والأزمات في الأماكن البعيدة خارج حدودنا السعيدة. لكننا لا يجب أن نصدق الفضائيات والصحف والإذاعات عندما تنقل لنا أخبار أي مظاهرات واحتجاجات عندنا، لأن هذه من أفعال «الحشاشين» أو المتآمرين مع إسرائيل وأميركا. عندما تنقل الفضائيات العربية هذه الأشياء تصبح غير عربية ويستحق مراسلوها الضرب، وتغلق مكاتبها، ويشوش على إرسالها. أما «فيس بوك» فهو اختراع يهودي، و«تويتر» فكرة أميركية، وكلاهما وجد لكي يتم التغلغل إلى شبابنا وشحنهم بأفكار شاذة منها الدعوة إلى التظاهر والاحتجاج. حالة الإنكار السائدة، والنظر إلى انتفاضة الشعوب هنا وهناك على أنها نتاج مؤامرات خارجية وليس بسبب مطالب حقيقية، أو نتاج مظالم متراكمة، أمر لا يبشر بحدوث انفراجات، بل ينذر بالمزيد من المواجهات وإراقة الدماء. فلو أن الحاكم، بدلا من محاولة إقناع الناس بمؤامرة خارجية، استمع لهم وفهم ما يريدونه لما وصل الأمر إلى ما وصل إليه من انفجار للغضب المكبوت، ولما كنا نرى زعماء يجبرون على الرحيل أو الهروب بدلا من أن نراهم يتقاعدون ويعيشون مكرمين معززين في ديارهم لأنهم حكموا فعدلوا، وردوا الأمانة قبل أن يسأموا أو تسأم منهم شعوبهم.