أخشى من تكرار محنة الجزائر في تونس، بعد الاغتيال الجبان الذي تعرّض له المحامي والسياسي شكري بلعيد. وأخشى أن يتم سحب كامل رصيد التغيير الشعبي في تونس، لينقل من حساب النضال في سبيل إقامة دولة مؤسسات وقانون إلى حساب الحكم الشمولي، بحجة الحفاظ على الاستقرار وعلى الأمن. لا نقاش أن الدولة بحاجة إلى الاستقرار أولا، لكن ما يجب مناقشته والبحث فيه هو لماذا هذا الاقتران بين الفتنة وبين التغيير؟ ما حصل للجزائر بعد أكتوبر 1988 أنها كانت ضحية أطماع أرادت نهش جسدها، أطراف لا تريد التفريط في الحكم، وبأي ثمن، وأطراف تريده لنفسها، وبأي ثمن، ومحيط دولي يراقب ويسهر على تفادي إطفاء نار الفتنة. كيف تتوصل نظريات الفوضى إلى قلب وجهة المجتمعات، من سكة البناء إلى طريق تغطيه الدماء؟ كان يفترض أن تكون التجربة الجزائرية مصدر إلهام، لنا نحن الجزائريون وأيضا للشعوب العربية وحكوماتها. لكن، وعلى ما يبدو، فإن أصحاب الطرح القائل بأن التغيير يؤدي إلى الفوضى، لهم الكلمة العليا، والتأثير الفعلي ، فقد قسموا المجتمعات إلى فريقين، الأول لا يؤمن إلا بالعنف للتغيير، والثاني يخاف الأول، وما قد يتسبّب فيه من خراب للوطن. فالصورة الغالبة، الآن، هي أن التغيير مرادف للفوضى. وما يجري في شمال إفريقيا هو تنظيم في توزيع الفوضى بشكل متواصل، جغرافيا، واجتماعيا واقتصاديا وتعليميا.. فالجغرافيا تمكّننا من قراءة الصورة على أن دول المنطقة منكمشة على نفسها، ومنغلقة على مشاكلها، موفرة بذلك أسباب تفاقم مشاكلها.. واجتماعيا، من خلال تسجيل انخراط شبه تام، وفي أشكال غير منسقة، لجميع الطبقات في التعبير عن الغضب، وبشكل عنيف، اتجاه الدولة، أو ضد بعضها البعض.. واقتصاديا، وجود تشابه بين عجز هذه الدول في ''العمل والنمو''، فهي تعتمد على غيرها. أما التعليم والتكوين والبحث، فقد أبرزت حقائق الميدان بأن البلاد العربية أبدعت في صرف المال في كل شيء، إلا على الإنسان، باعتباره هو الرأسمال الحقيقي. نعم، إنها نفس الملاحظات التي تتكرّر. ولكنها، للأسف، هي ما يكسو جسدا أغبر، وتوجها أعور، لا يدري إلى أين يسير. فالأنظمة ترفع شعارات وتحدّيات، من سطر إلى سطر، ومن ورقة إلى ورقة، ومن خطاب إلى خطاب، من دون أن يكون لها طموح فعلي لمدّ البصر نحو آفاق جديدة، تعيد للإنسان ''قدسيته''. وعندما نقلّب أبصارنا بين الجمهوريات العربية وملكياتها، وبين الأنظمة الدينية والعلمانية، نجدها تتشابه في القمع، وتتقاسم التخلف.. فلا تخدعنا ''لحية''، ولا ''حجة'' ولا ''عمرة''، ولا تخدعنا مظاهر التظاهر بالديمقراطية، والتمدن والتحضر لدى المحسوبين على التيار الجمهوري، أو الديمقراطي، أو الوطني. فهؤلاء وأولئك تخاصموا، فتشابكوا وتحالفوا عندما لزم الأمر، من أجل حماية ''مكتسبات''.. وللأسف، فالاغتيالات التي تستهدف مناضلي التغيير، وجدت لتكون خنجرا يحرّك ويلهب ما سكن من فتن في لحظة من اللحظات. ولتزيد من الشك في الآخر. هل نحن أغبياء بالفطرة لأننا نقرأ التاريخ من دون عبرة؟ لقد أضحى الانكسار ثقافة، تبرز من ملامح عدم الثقة في أنفسنا، وفي محيطنا وفي وسطنا، وأيضا من خلال مظاهر التشاؤم في المستقبل، والكفر بالممكن.. ولهذه الأسباب، أصبحت مشاريع التقسيم أقل نفورا، وأكثر إلهاما. إن عناصر التجزئة والتشتيت تتربص بكل محاولة جادة تهدف إلى إعادة ترتيب الأولويات، كأن الوقت لم يحن بعد لاستيعاب محاولات الاختراق وزرع الفتنة وسط المجتمع، في تونسوالجزائر أو مصر.. فالهدف هو جعلهم يركزون دائما على ''الاستقرار''، بدلا من التكفل بالأسباب التي تقف وراء ''عدم الاستقرار''، بمعنى فصل الحاضر عن أسبابه (التي هي في ماضيه)، وعن نتائجه (التي ستأتي بأنواع جديدة من عدم الاستقرار في المستقبل).. لنبقى نلهث وراء الحاضر، ومشاكلنا اليومية.. زحمة المواصلات، غلاء السلع، انقطاع الكهرباء، مياه تغمر طرقا، وثلوجا تقطعها. وهكذا.. لذا، ينظر إلى نجاح التجربة التونسية أو المصرية، من زاوية أنهما سيحملان معهما لقاحا ضد حالات التشاؤم وضد ثقافة الانكسار، في حين سيؤدي فشلهما إلى مزيد من التفسخ والتبعية، وهو ما يسعى إليه من يستخدم الاغتيال السياسي.