إلى حدود الأشهر الأخيرة، كان هناك شبه إجماع حول هرمية الهيكلة الجديدة للمشهد السياسي التونسي، الذي تهيمن فيه حركة النهضة سواء من ناحية أهمية خزانها الاجتماعي أو مشاركتها في الحكومة والمجلس الوطني التأسيسي بأغلبية نسبية. أما الأحزاب الأخرى؛ القديمة منها والجديدة، فهي على أهمية بعضها تاريخيا ونضاليا، فإن تغلغلها شعبيا ظل متواضعا؛ الشيء الذي دعم ثقل حركة النهضة سياسيا وشعبيا. ولكن هذه الخريطة بدأ بناؤها السياسي منذ أسابيع عدة يعرف تغييرا مهما، تمثل في تمكن حركة «نداء تونس»، وهي الحركة الحديثة التأسيس، من إعادة ترتيب الخريطة السياسية، حيث أصبحت من ناحية الحضور الإعلامي ونوعية تحركاتها ونسق تطور انتشارها، تقريبا الحزب الثاني اليوم في تونس، وبالنظر إلى عدة مؤشرات، فإنها باتت تشكل منافسا قويا لحركة النهضة. فكيف تمكنت «نداء تونس» الحديثة التأسيس التي تزامنت ولادتها مع حملات التشويه، من تسجيل حضور سياسي مهم في فترة قياسية وفي سياق ثوري صعب؟ إن محاولة فهم ما بدأ يطرأ على الخريطة السياسية من تغييرات، يستدعي منا الانطلاق من نقطة رئيسية تتعلق بنتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، التي فازت فيها «النهضة» بأغلبية الأصوات، في حين كان الفشل نصيب أحزاب تجمع بين النضال والرؤية التقدمية الحديثة. هذه النتائج في الحقيقة لم تعبر عن غالبية التونسيين، لأن نصف الذين لهم حق الانتخاب لم يشاركوا في الانتخابات، مما يعني أن النصف الآخر الذي غيب نفسه وجد نفسه غائبا من ناحية التمثيلية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك تمشي الإقصاء الذي فرضته عدة مجموعات سياسية وغيرها، فإن الحاجة إلى حزب سياسي بديل للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل يتجاوز هناته ويعيد إنتاج الفكرة الدستورية الأصلية التي أنتجت الكثير من ملامح الشخصية الأساسية للمجتمع التونسي.. مثل هذه الحاجة باتت أكيدة، فكانت اللحظة المواتية والمناسبة لظهور «نداء تونس». فالذين وجدوا أنفسهم في حالة إقصاء عامة ومفروضة وغير مبررة وغائمة قد وجدوا في «نداء تونس» خشبة نجاة بالمعنى النفسي والسياسي، خصوصا أن رئيس هذا الحزب شخصية تختزل مشروع الدولة الوطنية الحديثة وهو من أبناء بورقيبة الشرعيين بالمعنى السياسي.. ذلك أن بورقيبة في تمثلات غالبية الشعب التونسي هو، إلى جانب شخصه، ثقافة ونظرة للحياة تقوم على العقلانية، ومن ثم، فإن «نداء تونس» في إحدى صوره هو خيال بورقيبة الذي عاود الظهور أمام حركة النهضة. إن ما أسهم في تعكير صفو التونسيين الذين ابتهجوا لثورتهم هو أن النخب انقسمت إلى إسلامية وأخرى علمانية على نحو صراعي عنيف لفظيا ورمزيا، فكان استدعاء النموذج البورقيبي في الخطاب والنظرة حاجة حيوية سياسيا واجتماعيا. وهذه الاعتبارات التي جئنا على ذكرها فعلت فعلها بالأساس في اختمار فكرة تأسيس حزب «حركة نداء تونس». أما الأسباب التي أسهمت بشكل محدد في تحول «نداء تونس» خلال بضعة أشهر إلى قوة حزبية منافسة للقوة الحزبية الأولى، فهي بالإمكان جمعها تحت عنوان كبير بارز: «جدوى الدعاية المضادة»! فحملات التشويه التي قامت بها الترويكا ضد «نداء تونس» واتهامها بأنها حزب التجمع الذي تم حله بالقانون فعاد من النافذة، إضافة إلى اقتراح قانون في المجلس الوطني التأسيس ينص على إقصاء الآلاف ممن كانوا في التجمع الدستوري الديمقراطي سابقا حيث إن المصادقة عليه تعني آليا إقصاء رئيس «حركة نداء تونس» نفسه. كل هذا وغيره استثمرته الحركة جيدا ووظفته لصالحها في الداخل وفي الخارج، حيث أظهرت تبني الترويكا سياسة الإقصاء والعنف السياسي. وفي الوقت نفسه، لم يفوت الباجي قائد السبسي أي حوار تلفزيوني أو خطاب إلا وعبر فيه عن دور «الحركة» في المشهد السياسي وكيف أنها رقم أساسي في المعادلة السياسية، أي إنه قدم رسائل تدين الجهة التي ترفض الاعتراف بأحقية حزبه. كما استفادت «حركة نداء تونس» إلى جانب ما أغدقته عليها الدعاية المضادة لها من ثمار مجانية قطفتها دون عناء يُذكر، من برود علاقة الولاياتالمتحدة بحركة النهضة بسبب أحداث السفارة الأميركية في تونس، إضافة إلى تباعد الرؤى بين النهضة وفرنسا.. وهي نقاط عرف رئيس «نداء تونس» كيف يستثمرها في التسويق السياسي لحزبه خارجيا دون أن ننسى خبرة الرجل الدبلوماسية وحنكته في ضرب الحديد السياسي وهو ساخن. مرة أخرى تثبت الدعاية المضادة نجاعتها ويثبت الإقصاء فشله!