يقال إن المؤرخ هو عدو رجل السياسة الأول، لأن الأول يؤرخ لماضي الثاني ويذكره بمواقفه السابقة. لسنا مؤرخين بالفعل ولكن لدينا بعض من الأرشيف لبعض من الساسة الذين يتصدرون المشهد السياسي اليوم، وعلى رأس هؤلاء السادة وزراء حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم السيد وزير الخارجية الذي يرأس الدبلوماسية المغربية التي كانت إلى وقت قريب من المجالات المحفوظة للملك (وهي مستمرة كذلك). ما الذي قاله السيد سعد الدين العثماني حتى يستحق أن نذكره به؟. في ندوة نظمها حزب العدالة والتنمية المغربي يوم السبت 13 آب2011، بمدينة تمارة وفي إطار الاستعداد للانتخابات التشريعية ل25 تشرين الثاني، قال العثماني وهو رئيس المؤتمر الوطني لحزبه أن اتنزيل الدستور الجديد، يجب أن تصحبه إجراءات تدبيرية على جميع المستويات، تقطع مع المظاهر السلبية التي كانت السمة الأساسية للتدبير السياسي خلال المرحلة السابقةب. ترى ماهي هذه التدابير التي يجب أن تصاحب تنزيل الدستور الذي قال عنه أنه الا يرقى إلى التطلعاتب؟. لقد طالب العثماني المعارض السابق ووزير الخارجية الحالي بإنجاز أربعة ملفات اعتبرها أساسية للانتقال بالمغرب إلى بلد ديمقراطي، يحافظ على الحقوق الفردية والجماعية ويعطي السيادة للقانون، وكإشارات لملامح تدبير سياسي جديد؛ وأول هذه الملفات حسب العثماني، إعادة النظر في الاعتقالات التي طالت عددا ممن لم توفر لهم المحاكمة العدالة؛ أما ثاني الملفات الأساسية، فهو إطلاق حرية الصحافة لدورها في فضح الفساد وتسليط الضوء على الاختلالات، ووقف المحاكمات التي تطال الصحفيين، والغرامات المبالغ فيها؛ وأما ثالث الملفات فيتمثل في التنزيل الصحيح لاستقلال القضاء على أرض الواقع والقطع مع قضاء التعليمات، فلا يمكن معالجة الاختلالات بدون قضاء عادل يساوي بين المواطنين؛ ورابع الملفات، هو الفصل بين السلطة السياسية وعالم المال، واستشهد العثماني بمقولة ابن خلدون المشهورة 'الأمير إذا مارس التجارة فإنه يفسد السوق'. ومع علمنا بأن الحكومة التي يشارك فيها السيد العثماني ويرأسها أمينه العام في الحزب، قد تعثرت، إن لم نقل فشلت، في الملفات الثلاثة الأولى؛ حيث الصراع بين القضاء ووزير العدل على تكريس استقلالية القضاة، وحيث التضييق على حرية الصحافة وقمع الصحفيين وسحب اعتمادات البعض، وطرد البعض من المغرب، وعدم الترخيص للبعض الآخر، وتوقيف دخول منشورات بالتذرع بشتى التبريرات الواهية (آخر تلك التضييقات التحقيق مع موظف بتهمة تسريب معلومة عن الفساد، والتحقيق مع مدير نشر جريدة لم تخرج إلى السوق بعد من قبل جهاز الاستعلامات)؛ وحيث ان الحكومة الحالية قد حطمت الرقم القياسي في منع التظاهر واعتقال النشطاء ومحاكمتهم في ظروف تنعدم فيها شروط المحاكمة العادلة (وخاصة نشطاء حركة 20 فبراير)؛ وحيث تراجع الحكومة عن الكثير من وعودها اتجاه مختلف الفئات، وخاصة فئة حملة الشواهد الموقعة على محضر 20 تموز. نقول مع تسجيلنا كل تلك التعثرات، فإن أهم ملف تطرق له السيد العثماني وتطرقت له مختلف الفعاليات الحقوقية والسياسية، وهو ملف 'الفصل بين السلطة والثروة' الذي لقيت فيه حكومة السيد عبد الاله بن كيران فشلا ذريعا (على الأقل حتى الان)، فمقولة 'الأمير يفسد السوق' مستمرة في عمق الاقتصاد السياسي المغربي. إذ أن الجمع بين الثروة والسلطة هو الصبغة الطاغية على الواقعين الاقتصادي والسياسي المغربيين وخاصة على مستوى المسؤوليات العليا في الدولة، بحيث نادرا ما لاتجد مسؤولا مغربيا لا يجمع بين المسؤولية السياسية والتدبيرية وبين الأنشطة التجارية أو الفلاحية أو الصناعية، بشكل ترتبط فيه المصالح وتتداخل معه المسؤوليات، فينتج عن ذلك استخدام المسؤولية السياسية لصالح الأنشطة المالية الموازية، مع ما يصاحب ذلك من التأثير على التنافسية الاقتصادية والاضرار بالفرقاء الاقتصاديين، وهو ما يفرز بالضرورة هروبا للرأسمال وإحجاما عن الاستثمار (نتذكر جيدا تهديدات أحد أقطاب الاقتصاد المغربي، المتضرر من مقولة 'الأمير يفسد السوق'، بيع مشاريعه واستثماراته ومغادرة أرض الوطن). إن الجمع بين الثروة والسلطة هو سمة البلدان الاستبدادية التي لا تميز بين ممارسة السلطة والنأي بالنفس عن الانشطة المالية. أما في البلدان الديمقراطية أو التي شهدت انتقالا ديمقراطيا سلسا وناجحا؛ فإنها حسمت أمرها وأقرت قوانين تمنع الربط بين الرأسمال السياسي والرأسمالي المالي. فالجدل القائم اليوم في الولاياتالمتحدةالأمريكية منصب على أحقية الرئيس أوباما في بيع كتبه من عدمها، في الوقت الذي يمنع فيه على رئيس أكبر قوة في العالم ممارسة أي نشاط تجاري أو صناعي أو فلاحي. ولعل المتتبع مندهش من تصريح أوباما الأخير وخاصة العبارة التي يقول فيها 'لا يمكنني أن أطالب الطلبة والطبقات المتوسطة والشيوخ بأداء المزيد من الضرائب، في الوقت الذي لا أطالب فيه أمثالي الذين يتحصلون على أكثر من ربع مليون دولار سنويا بأن لا يدفعوا أي مبلغ زيادة في ضرائبهم' (مع الاشارة إلى أن في أمركيا يعتبر من يتحصل على دخل أقل من ربع مليون دولار (ربع مليار سنتيم تقريبا) سنويا ضمن الطبقة المتوسطة، وهو المبلغ الذي يتحصل عليه موظف مغربي طيلة 30 سنة من العمل بأجر 7000 درهم شهريا. وفي الدول التي عاشت انتقالا ديمقراطيا ناجحا، بادر زعماؤها الموسومون بالشعوبية شعبويتهم بالأفعال الايجابية وشعبويتنا بالكلام المنمق إلى نهج مجموعة من الإجراءات التي جعلت منهم القدوة لمواطنيهم من أجل الفصل بين السلطة والثروة. فلقد نجح الرئيس البرازيلي الولا داسيلفب المعروف بانصير المحرومينب أو ابطل الفقراءب في نقل بلاده من عداد الدول المتخلفة والمستبدة إلى مستوى الدولة الديمقراطية والفاعلة إقليميا وعالميا، وذلك بإعطائه القدوة بنفسه وإثاره البدل والعطاء والتواضع وعدم جمعه بين الثروة والسلطة التي لم يكن يتوفرعليها أصلا ولم يسعى إلى مراكمتها ومنع نفسه وأسرته من الاستثمار ومشاركة المواطنين أسواقهم. وهو الأمر نسفه الذي سلكه رئيس الأورغواوي اخوسيه موخيكاب الذي يعتبر أفقر رئيس دولة في العالم، حيث يتبرع بمعظم راتبه الشهري الذي لايتجاوز 12 ألف دولار شهريا (أقل من 10 ملايين سنتيم مغربية)، ويحتفظ لنفسه فقط بمبلغ شهر مقداره 1250 دولارا، ولايمتلك غير سيارة من الطراز القديم. ولم يسلم من هذه الإجراءات الشعبية وليست الشعبوية حتى رؤساء بعض الدول الكبيرة والغنية، فالرئيس الفرنسي بدوره تنازل عن 30 في المائة من راتبه الشهري لصالح خزينة الدولة، والملك الاسباني تنازل عن 7.1 في المائة من راتبه وراتبه ولي عهده لمجاراة إجراءات التقشف التي تشهدها دولة اسبانيا. ويحاول رؤساء دول ما بعد االربيع الثوريب مسايرة هذا النفس الديمقراطي، فالرئيس التونسي باع أغلب القصور الرئاسية وضخ أموالها في ميزانية الدولة وتنازل عن 28 ألف دينار من راتبه الشهري واحتفظ فقط ب 2000 دينار (أقل من مليوني سنتيم مغربية)، بينما احتفظ الرئيس المصري امحمد مرسيب براتبه كأستاذ جامعي فقط ورفض السكن في القصر الرئاسي الذي خصصه للعمل واستقبال الضيوف. دون أن يسجل على كل هؤلاء اشتغالهم بأمور التجارة أو الفلاحة سواء بشكل مباشر وعبر وكلاء. ما أجمل تلك القرارات التي باشرتها الحكومة المغربية بخصوص منع الموظفين من مزاولة مهام أخرى بالقطاع الخاص، ولكن ما اجمل لو كانت تلك الاجراءات في إطار حزمة من القرارات تشمل اعلية القوم'، وتمنعهم من الجمع بين السلطة والتجارة والصيد والفلاحة...فالقاعدة القانوينة من سماتها أن تكون عامة ومجردة بحيث لا تشمل فئة دون أخرى ولا يستغل القانون في الاضرار بالفئات الدنيا والسماح بتغول من لا يشملهم القانون و لا تطالهم المحاكم. فالقاعدة القانونية التي مؤداها عدم مزاولة من يتسلم أجره من خزينة الدولة لأي نشاط موازٍ، يجب أن تنطبق على الجميع وألا تختص بالأطباء والمعلمين وباقي الفئات الدنيا. فكل من يتحصل على راتب شهري من خزينة الدولة وضرائب الشعب، عليه أن يمتنع عن ممارسة أي نشاط تجاري أو فلاحي أو صناعي، سواء أشرف على ذلك بنفسه أو فوض أمره إلى الغير، لأن هذه القاعدة ما وضعت إلا لكي تحمي التنافسية الاقتصادية وتضمن تفرغ الموظف أو رجل السلطة لمهامهم المنوطة به، وعلى من يمتهن السياسة ويسهر على تدبير الشأن العام أن يتصرف في أمواله المتوارثة أو المكتسبة بالبيع أو الهبة... ويتفرغ لمهامه التي يتقاضى أجره من أجلها. وأما من آثر التجارة أوالفلاحة أو الصناعة أو الصيد...، فما فعليه إلا أن يطلق االوظيفةب أو يتنحى عن تدبير الشان العام، كي يتفرغ لشؤونه واستثماراته ومشاريعه، آنذاك يمكنه ان ينافس، كيف ما يشتهي، على السوق دون خوف منه أو عليه، وهذا هو مضمون مقولة ابن خلدون التي مررنا على ذكرها.