يحدث في تركيا تطور مزدوج، قوامه التصالح مع الذات، والتطبيع مع الديمقراطية. إذ في آن واحد تزداد تركيا منذ أكثر من عقد من الزمان اقترابا من مواصفات دولة القانون، وفي الوقت نفسه تدأب على تثبيت علمانية لا تقوم فقط على أساس التشبه بالغرب، وذلك بحافز قوي يحضها من قديم على الاندماج في أوروبا. يقول بطل رواية «الثلج» التي نال صاحبها نوبل عام 2006 إنه نشأ في إسطنبول، وتمنى دائما أن يكون أوروبيا، لكنه لم يتمكن من التوفيق بين أمنيته هذه والفكرة السائدة في مجتمعه عن الله. ويذكر أنه حينما يكون في أوروبا يرى أن الله يمكن أن يكون موجودا، لكن ليس كما يتصوره الملتحون القرويون. فهو إذ يحمل «تركياه» في أعماقه حينما يكون بعيدا عنها، ينتابه حينما يكون في حضنها وسواس الخوف من فقدان الفرصة لكي يصبح أوروبيا. ليست هذه هي الخلاصة النهائية لرواية أورهان باموك المشار إليها، لكنها هواجس تراود أبطاله المتخبطين في دوامة أسئلة صعبة. انفلت الزمام من الجيش الذي أراد أن يفرض الاندماج في أوروبا بالطريقة التي تم تخطيطها منذ نيف وثمانين عاما، في حين أصبح المجتمع قادرا على أن يؤثر في الكيفية التي يمكن بها أن يصبح أوروبيا بطريقته. وهذا هو الانقلاب الذي أحدثته العولمة، أي شيوع قواعد تتماشى بها الأسواق حيث السلع لا تنتقل بمفردها بل مصحوبة بقيم وطقوس قوامها التماثل في طريقة التدبير والتنافسية والشفافية. لكن كل واحد سيحتل في سوق العولمة الفضاء أي يقدر عليه، حاملا سلعه وقيمه هو. سيمر بعض الوقت ريثما تستوي نهائيا الصيغة العلمانية، لدولة شعبها مسلم، وتحتكم إلى قواعد دولة القانون، وإلى صندوق الاقتراع كمرجعية وحيدة لضبط التداول على السلطة. وليس بمستبعد أن الجيش كقوة سياسية وازنة لن يسلم بسهولة بأن تصبح الأمور في تركيا على ذلك النحو. وقد يؤدي الأمر في المستقبل القريب إلى التسليم بأن العلمانية بمعنى النفور الجامح من الدين، ليست هي المدخل الوحيد للحداثة، وأن الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي سيتطلب ليس فقط التخفيف من عقوبة الزنى، كما حدث منذ ست سنوات، بل أيضا أن يعتبر من الكبائر ارتكاب زنى المحارم الذي يحلو للقوات المسلحة أن ترتكبه كلما راودتها شهوة الحكم. ولنذكر أنه ما زال الغموض يلف مسألة إبعاد وكيلين للنيابة العامة وقع الشهر الماضي لأنهما أمرا بمتابعة تسعين ضابطا ساميا في القوات المسلحة للتحقيق معهم في التآمر في سنة 2003 على النظام المدني المنبثق من صناديق الاقتراع، حيث صوت الشعب التركي بالأغلبية لحزب أردوغان. لكن عزم حزب العدالة والتنمية على التطبيع النهائي والحقيقي مع الديمقراطية شيء واضح، مثلما هو واضح أن الأتراك لا يفرقون بين أن تكون بلادهم ديمقراطية عصرية، كما هو مكرس في الحداثة، وأن يكونوا مسلمين، ويقطعوا مع تصورات سابقة كانت تنطلق من العداء للإسلام والابتعاد عن المسلمين. كانت غضبة أردوغان في دافوس من جراء قتل إسرائيليين للأطفال الفلسطينيين في غزة، والتحرك الذي توج ب«أسطول الحرية»، تعبيرا عن تلك القطيعة التي وقعت على مراحل، وجعلت حكومة أنقرة في تناغم مع شعبها ومع عاطفته الإسلامية، التي كان من شروط العلمانية فيما مضى طمسها أو معاكستها. فبذريعة الانتماء إلى الحلف الأطلسي كانت حكومة أنقرة في الخمسينات تتخذ مواقف ضد القضية المغربية في الأممالمتحدة، وهي عندئذ قضية تحرر وطني كانت تحظى بتأييد حماسي عام. وكان الوفد التركي في المنظمة العالمية ينفرد من بين الدول الإسلامية بالانحياز إلى موقف فرنسا. في حين أن إندونيسيا وإيران، فضلا عن باكستان وحتى الهند، كانت تتخذ مواقف دائما في جانب نصرة القضية المغربية كقضية تحرر. وكان المغاربة يمتعضون من ذلك الموقف، ويعبرون عن ذلك في صحفهم وتصريحات زعمائهم. لقد تغير الموقف الآن، وأصبحت الحكومة التركية رغم ارتباطاتها مع إسرائيل لا تستنكف من اتخاذ مواقف تصنفها إلى جانب الدول الإسلامية، أي بتوافق مع تنامي الشعور الإسلامي في الشارع التركي، مما يدل على الأقل على أن العلمانية تسير في قناة والمشاعر العميقة للشعب التركي تتبلور على الطبيعة بتلقائية وصدق. والحق أن الابتعاد عقودا طويلة عن المجموعة الإسلامية بانشغالاتها ومعاركها، لم يكن معبرا عن جوهر الوجدان التركي. والجديد هو أن الحكومة التركية أخذت تصطف في المجموعة العربية والإسلامية وسائر دول الجنوب، دون أن ترى ضيرا في أن تتضامن مع قضايا عادلة تصطخب بها ساحات عربية، وفي طليعتها قضية فلسطين، كما يقع في بلدان أوروبية متقدمة تسمح أنظمتها الديمقراطية بإفراز مواقف منصفة. على أن ما يحدث في الساحة التركية من انتقال ذهني ملحوظ يتميز عما يحدث في ما عداها بأنه يدل على فساد الرؤية القائلة بأن العلمانية هي العداء للدين، وبالأحرى أن تكون هي الابتعاد عن انشغالات المسلمين. فلم تمح ثمانية عقود من العلمانية المغالية تلك المشاعر الدفينة في الوجدان التركي، وها هي تلك المشاعر تبرز بكل تلقائية، وأيضا تعبر عنها الحكومة بكل شفافية، أمام الرأي العام الداخلي وإزاء بلدان المنطقة والعالم. لأنها اختيارات نابعة من وجدان الشعب. ومن جديد أكاد أجد في ما ينشر في الصحافة العربية للإشادة بأردوغان صدى لتحية شوقي لبطل الدردنيل حينما قال: الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب وفي الاتجاه نفسه كانت تحية شاعرنا الجزولي، من أقصى المغارب، حيث قال: أيا مصطفى من صفوة قومه ويا منقذ الأوطان من قبضة العدا سيذكرك التاريخ ذكرَ مخلدٍ وحسبك مجدا أن تكون مخلدا وكان رد «أب الأتراك» على إعجاب العرب بإنجازاته هو قوله «إننا كأتراك نتمنى أن نرى جميع إخواننا المسلمين يعيشون أحرارا في بلدانهم، لكننا لا نستطيع أن نقدم لهم من المعونة سوى دعوتهم للاقتداء بما فعلناه نحن للتخلص من السيطرة الأجنبية». وهذا ما يمكن أن يرد به اليوم خليفة أتاتورك رجب طيب أردوغان. إن قرونا من التاريخ التركي لا يمكن أن يطمسها شعار مهما كانت قوة مبرراته. والتراكمات الراسبة في الذاكرة الجماعية لكل مجموعة بشرية هي التي تحرك الجموع، وهي التي يجب أن تملي المواقف على الحكومات. وما يحدث الآن هو أن صوت أنقرة منبعث من الأعماق.