كلما قام مسؤول تركي بحركة دبلوماسية في المنطقة العربية الإسلامية، نشط الإعلام في تحليلها، وبدأ يتحدث عن الدور التركي المرتقب في حل الصراع العربي الإسرائيلي وإيجاد مخرج للقضية الفلسطينية. ومن ثم تنبري أقلام كثيرة لتحليل الدور التركي القائم أو المرتقب، ولصياغة مفاهيم جديدة لعلاقات تتطور بين دول المنطقة بما فيها إسرائيل. ومن الملاحظ أيضا أن وسائل الإعلام التركية المريدة للحكومة القائمة أو لحزب العدالة والتنمية تذهب بعيدا في تصوير الدور التركي والثناء عليه وعلى محاسنه المتوقعة. يبدو أن هناك عقدة لدى قادة دول المنطقة العربية والإسلامية وهي أنهم يحبون المديح والثناء فيما يتعلق بأدوارهم على المستويين الإقليمي والعالمي، وكأن هناك ما ينقصهم على المستوى المحلي فيجدون مخرجا خارجيا لمجد يتمنونه، أو أنهم يبحثون عن وسيلة لتعزيز مكانتهم الداخلية فيتعلقون بنشاط خارجي. ومن السهل أن يلاحظ المرء هذه المسألة في وسائل الإعلام الرسمية التي تحاول جاهدة تصوير القيادة بأنها ذات عبقرية وهيبة مؤثرة دوليا، وتتمتع باحترام الآخرين نتيجة ما تسميه بحكمتها وحضورها القوي. يتم التنفيس عن هذه العقدة لفترة من الزمن، لتخبو بعد ذلك أمام الحقيقة الصعبة وهي أن دول المنطقة بحاجة إلى عمل دؤوب ومتواصل لكي تصل إلى درجة التأثير الحقيقي في الميدان العالمي والإقليمي. احتكار حل القضية الفلسطينية أميركا وإسرائيل تنسقان جهودهما في البحث عن حل للقضية الفلسطينية بصورة احتكارية منذ عام 1967. قررت الدولتان أن أي اقتراح حل بشأن الصراع العربي الإسرائيلي يجب أن يحظى بموافقة الدولتين معا، وأن إحداهما لن تنفرد بقبوله تاركة الأخرى عرضة للانتقاد أو للضغط من قبل دول أخرى أو هيئات عالمية. ولهذا رأت الدولتان ضرورة إخراج القضية الفلسطينية من أروقة المنظمات أو التجمعات الدولية مثل الأممالمتحدة، وإبقائها ضمن متناولهما وإشرافهما المباشر، أي إبقاء القضية الفلسطينية بمنأى عن قرارات قد تشكل مرجعية دولية، أو شرعية دولية، تضع الدولتين في موقف قانوني محرج. لا مانع لدى الدولتين في طرح هوامش القضية وتفرعاتها في أروقة دولية، ولا مانع من إشراك دول أخرى في دبلوماسية البحث عن سلام، لكن شريطة أن يبقى الصراع بجوهره تحت المظلة الأميركية الإسرائيلية. لا مانع مثلا من بحث مسألة تهويد القدس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن كل القرارات التي صدرت غير ملزمة لإسرائيل ولا تدعو للقلق، لكن أميركا جاهزة لاستعمال حق النقض فيما إذا طرحت المسألة في مجلس الأمن. ولا مانع لدى الدولتين من السماح بنشاط دبلوماسي أوروبي في المنطقة شريطة أن يبقى تابعا وليس أصيلا مدعوما بإجراءات ضاغطة على إسرائيل. أميركا وإسرائيل تنظران إلى جهود الدول الأخرى بشأن الصراع العربي الإسرائيلي على أنها جهود هامشية تعطي الدول الأخرى نوعا من الشعور بالمشاركة، نوعا من الاعتزاز بالذات والمفاخرة، وهما لا مانع لديهما من التعاون ضمن حدود الهامشية. أكبر دليل على ذلك هو الدور الذي تعطيه الدولتان لمصر والذي يبرر للنظام المصري الاستمرار في التفاخر بأنه لاعب أساسي في ترتيب الأوضاع في المنطقة العربية الإسلامية، بينما لم تكترث الدولتان بمناقشة مبادرة القمة العربية لعام 2002، واكتفتا بمغازلتها عن بعد. الدور التركي في المنطقة بإمكان تركيا لعب دور رئيسي وحيوي في المنطقة العربية الإسلامية لأنها تملك المقومات الكامنة اللازمة. فهي ذات مساحة جغرافية واسعة تربط آسيا وأوروبا، وذات تعداد سكاني كبير (حوالي 70 مليون نسمة)، وتمتلك مصادر طبيعية كبيرة على رأسها المياه. بإمكان تركيا أن تلعب دور الخزان المائي الكبير للمنطقة، وأن تقيم شبكة ضخمة من أنابيب المياه لتزويد البلدان العربية التي تعاني من شح المياه، وهي بذلك تستطيع أن تؤمن لنفسها دخلا كبيرا. وتركيا تتمتع بقدرة صناعية جيدة وتستطيع تصدير الكثير من منتجاتها إلى بلدان المنطقة، وتشكل عنصر جذب سياحي بتكاليف تشكل عامل جذب للسائح من دول المنطقة. تركيا بلد شرقي إسلامي ومن الممكن أن تعود إلى المنطقة العربية بسهولة، وستجد لنفسها ترحيبا واسعا خاصة في البلدان العربية، وستجد حضنا أكثر دفئا من الحضن الأوروبي. تمتلئ الأسواق العربية الآن بالمنتجات التركية، ومن الممكن أن تتطور الأمور لكي يتطور التفاعل الشعبي والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الناس. ومن هنا بإمكان تركيا أن تأخذ دورا بارزا في المنطقة العربية الإسلامية، ويكون لها ثقل كبير في معالجة هموم المنطقة والدفع بها نحو التطور والتقدم لما في ذلك من فائدة للجميع. يغيب الدور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يمكن أن تلعبه تركيا عن الإعلام إلى حد كبير، ويتم التركيز فقط على الدور الدبلوماسي الذي يمكن أن تلعبه في حل الصراع العربي الإسرائيلي، وكأن تركيا لا تكتسب أهمية إلا من خلال إسرائيل، أو قدرتها على إقناع العرب بالموافقة على طروحات إسرائيلية وغربية سياسية بشأن الصراع. تركيا تنشط كثيرا وكل يوم في رفع مستوى علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي، لكن الإعلام لا يُستفز إلا عندما تنشط في المجال الدبلوماسي خاصة فيما يتعلق بالمفاوضات بين سوريا وإسرائيل. تقزيم الدور التركي لم تكن أميركا والدول الغربية عموما مرتاحة للحكومة التي كان يرأسها عبد الله غل بسبب تطويرها للعلاقات مع سوريا وإيران بعد عام 2002 بسبب عدم انسجام هاتين الدولتين مع الرغبة الغربية في ترتيب أوضاع المنطقة. وقد ازداد عدم الارتياح عندما رفضت تركيا إعطاء الولاياتالمتحدة تسهيلات نزلية (لوجستية) لغزو العراق. وتعرضت تركيا لحملات واسعة من الانتقاد في الأوساط الغربية السياسية والإعلامية والفكرية، وهناك من بدأ يقول إن تركيا تتحول عن العلمانية لصالح الفكرة الإسلامية، وعدد من وسائل الإعلام أخذت تتحدث عن غل وأردوغان على أنهما من مؤيدي التيار الأصولي. ارتفعت أسهم تركيا لدى دول الغرب عندما بادرت لاحتضان مفاوضات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل، وارتفع الأمل بأن تتمكن تركيا من تحقيق اختراق يبعد سوريا عن إيران ويضمها للدول التي يسميها الغرب المعتدلة. أي أن الهتاف الغربي لتركيا لم يكن بسبب لعب تركيا دورا جديدا في المنطقة بقدر ما كان بسبب احتمال نقل سوريا من خندق إلى آخر. وقد تعزز هذا السبب عندما احتج أردوغان في مؤتمر دافوس على منظمي مناظرة بترك القاعة غاضبا، واستقباله كبطل في تركيا. لم تصدر تصريحات غربية تشيد مثلا بأنفة وكبرياء أردوغان، وإنما صدرت تصريحات تنتقده إلى درجة أن بعض الإعلاميين وصفوه باللاسامي المعادي لليهود. ومؤخرا عادت حملة الثناء والتبجيل لأن أردوغان زار سوريا والتقى بالرئيس الأسد بهدف إعادة تنشيط المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. والرجاء غير المعلن من قبل السياسيين الغربيين يتمثل أيضا في إبعاد سوريا عن إيران وحزب الله. إسرائيل لا تثق بأحد، ولا أخالها تثق بتركيا، لكنها غير مستعدة لمقاطعة تركيا أو تركها لمحيطها العربي والإسلامي. تركيا دولة كبيرة ويمكن أن تلعب دورا هاما في إعادة ترتيب ميزان القوى في المنطقة إذا حسمت نفسها لصالح إيران وسوريا، ولا أرى أن إسرائيل وأميركا تغامران باستعداء تركيا أو باتخاذ سياسات قد تقصي تركيا عن الغرب. إنهما تريدان الإبقاء على العلاقات جيدة ولو من ناحية شكلية، والاستمرار في دفع تركيا نحو مزيد من المحاولات مع سوريا. أي أن الغرب لا يبتهج لتركيا بسبب ما تملكه من قدرات ظاهرة وباطنة، وإنما بما يمكن أن تفعله لصالح إسرائيل، والنظرة لا تتعدى استخدام تركيا كأداة لإضعاف الطرف الآخر في الصراع العربي الإسرائيلي. يمكن فهم المناورات التركية الإسرائيلية الأميركية الأخيرة (في أغسطس/آب 2009) من هذا المنظار. أميركا وإسرائيل تتمسكان بودهما الدبلوماسي لتركيا، وتحاولان الإبقاء عليها ضمن المعادلة الدولية القائمة بقيادة الولاياتالمتحدة. المناورات محدودة المدى والنطاق، لكنها كفيلة بإعادة تركيا إلى دائرة الشك لدى بعض جمهور العرب والمسلمين، وإبقائها ضمن التحالف الغربي. كثيرون من العرب والمسلمين سيراجعون حماسهم الذي تدفق عندما تمرد رئيس وزراء تركيا في مؤتمر دافوس، وسيحاولون الأسف على ما بدر منهم. بين الدورين التركي والإيراني ينشط إعلاميون في المقارنة بين الدورين التركي والإيراني كلما قامت تركيا بحركة دبلوماسية في المنطقة، ويقولون إن الدور التركي يتغذى على الدور الإيراني، وإن إيران ستجد دورها يتقلص خاصة في منطقة الخليج كلما اقتربت تركيا من المنطقة. هذه أقوال لا أرى فيها شيئا من الصحة لسببين وهما أن إيران تعمل من خارج النظام بينما تعمل تركيا من داخل النظام، وتأثير إيران ليس دبلوماسيا وإنما هو مادي تطوري ذاتي. إيران متمردة على ما يسمى النظام العالمي القائم، والذي هو بالأحرى عبارة عن عصابة من الدول بقيادة الولاياتالمتحدة، ولا تريد العمل من خلاله، وترى فيه الظلم والقهر واستغلال الشعوب، وتعد العدة لمواجهته؛ أما تركيا فهي من أفلاك هذا النظام على الرغم من نفحات التمرد التي تظهر على قادتها بين الحين والآخر، ولا تعد العدة لمواجهته. ربما يكون لتركيا تطلعات استقلالية للخروج عن إرادة هذا النظام أو العصابة، لكنها مترددة ولا تستطيع حسم أمورها، على الأقل ضمن المعطيات العسكرية والاقتصادية القائمة حاليا. تمردت تركيا ورفضت المشاركة في الحرب على العراق، وتمرد أردوغان في وجه بيريز، لكنها ما زالت تقيم علاقات ودية مع إسرائيل، وتطبع معها، وتتعاون معها عسكريا، وتحاول كسب عضوية الاتحاد الأوروبي، ولم تخرج من دائرة المعايير الأميركية الإسرائيلية. الدور التركي ليس خارج السيطرة فيما يتعلق بالرؤية الأميركية الإسرائيلية، ولا توجد فيه نزعات نحو الخروج، وبالتالي لن يتغذى على دور أحد، ويبقى مصنفا ضمن معادلة القوى والتحالفات السائدة حاليا على الرغم من عدم وجود تركيا ضمن المحورين الضمنيين القائمين في المنطقة وهما المحور العربي الإسرائيلي الأميركي، ومحور إيران سوريا حزب الله. دور تركيا يختلف في جوهره وأساليبه ووسائله وتطلعاته عن الدور الإيراني، ولن يكون منافسا للدور الإيراني إذا بقي ضمن الرضا الأميركي الإسرائيلي. دور الأصالة ودور الإنابة تستطيع تركيا منافسة مصر على دورها في البحث عن حل للقضية الفلسطينية لأن الدور المصري منضبط بمعايير النظام الدولي القائم، وهو دور ليس أصيلا وإنما هو مقيد بهذه المعايير. دور مصر إنابي، وهو هامشي يتلخص في المشاركة في النشاطات الدولية واستضافتها بشرم الشيخ، ولا يخرج عن اندماجه، أو تبعيته، لمن يتعهد بالدعم المالي والعسكري. ولهذا مهما حاول النظام المصري أن يخرج من جلده فإنه لن يستطيع لأنه منضبط وفق المعايير المسماة دولية. وهكذا الأمر بالنسبة لتركيا. إذا أرادت تركيا القيام بدور فاعل فإن عليها الحرص على استقلاليتها في بلورة رؤية للحل في المنطقة، ومن ثم الانطلاق لإقناع مختلف الأطراف بها. أما إذا قررت البقاء حيث هي من ناحية الموقع العالمي فإنها لن تجد أمامها سوى انتهاج لغة إقناعية عند سوريا وحماس للموافقة على الطرح الأميركي الإسرائيلي، وستجد نفسها تجتر الدور المصري.