في الوقت الذي تستعد فيه اللجنة الأوروبية لاتخاذ قرارها بتجميد جزئي للمفاوضات مع تركيا، عبَّر بابا الفاتيكان بنوا السادس عشر بمجرد وصوله إلى أنقرة عن استعداده لدعم طلب انضمام هذا البلد إلى الاتحاد الأوروبي. ما الذي نعرفه عن تركيا باستثناء محطاتها الاصطيافية الجميلة التي تعرف إقبالا كبيرا من طرف الأوروبيين الباحثين عن الشمس وعن الأجواء الغرائبية، وباستثناء المهاجرين الأتراك الذين يفضلون أكثر التوجه نحو المناطق الناطقة الألمانية؟ إن ما نعرفه على هذا البلد قليل جدا. في هذا الصدد تلقت مجلة Polémia من أحد مراسليها مقالا نشر بموقع Spiegel Online التركي ، يكشف من الداخل عن مختلف الآراء المنتشرة وسط المجتمع في هذه الجمهورية، التي هي فريدة من نوعها في العالم الإسلامي. لقد مر ما يقارب القرن من الزمن وتركيا تسعى إلى أن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي. ولكن؛ اليوم بعد أن فُتحت المفاوضات، ووصلت مراحل متقدمة؛ فإن الحماس آخذ في التلاشي والإسلام في التوسع والانتشار أكثر. من الوهلة الأولى يبدو فندق ساه إين سيوت بمدينة آلانيا غير مختلف عن غيره في المدينة؛ هذا الموقع المعروف بكونه مكان العطل المشمسة المفضل والكلاسيكي في البحر الأبيض المتوسط: بناية جذابة، بشرفات جميلة جدا، تطل على مسبح شاسع تحيطه الشمسيات المنتشرة والكراسي الطويلة. ولكن في الواقع هناك ما يميزالفندق عن غيره؛ فالرجال وحدهم مسموح لهم بالسباحة والاستحمام في مياه المسبح الزرقاء الساطعة بنظافتها وجمالها، أما النساء في فندق ساه إين سيوتفيستحممن في مسبح آخر مخصص فقط لهن. ومن له الرغبة في جعة باردة؟ لا مجال لذلك، ففي هذا الفندق لا تُقدم المشروبات الكحولية؛ وبالمقابل فهناك مسجد يستدعيكم ويحثكم على ملاقاة الله ومناجاته. لماذا هذا في بلد دستوره عَلماني؟ ذلك لغرض تجاري محض؛ إنها استجابة لطلبات المسلمين الممارسين لشعائرهم الذين يريدون قضاء عطلة ممتعة دون أن يُغضبوا ربهم. والعروض من هذا النوع من العطل في إطار من التقوى تزداد وتتضاعف في تركيا العَلمانية. وملابس السباحة الموافِقة لتعاليم الإسلام هي الموضة الجديدة في الشواطيء والمسابح في كل مكان بالبلد. فاليوم أصبحت النساء الملتزمات اللواتي يمكن أن يمشين على رمال الشواطيء مستورات من الرأس إلى القدمين. وثياب العفة هذه توفرها دار هاسيناللموضة والخياطة الرفيعة بإسطنبول، التي من بين زبائنها زوجات رجال السياسة الأساسيين المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية الإسلامي، الحاكم الآن. صحيفة كوماحرييت المعروف عنها نزعتها الثابتة في انتقاد حزب العدالة والتنمية؛ اعتبرت أن تركيا قد هوجِمت واقتُحمت بقواعد في اللباس إسلامية. والصحافة العَلمانية تُعنى كثيرا بتغطية كل الأحداث العنيفة التي يمكن أن يُشك في كونها قد تكون ذات دوافع دينية: مثلا، عندما تتعرض طالبة شابة تلبس البيكيني في الشارع لهجوم من طرف متطرفين مقنَّعين؛ أو عندما يتعرض عاشقان لتهجم لأنهما كانا يشربان الجعة علانية في شهر رمضان، أو عندما يضرب شرطي فتاة لأنها تلبس ميني جيب قصيرة جدا. إن أحداثا مثل هذه تعتبر صادمة في تركيا، التي يفترض فيها أن القانون يجمي المواطنين من كل أبوية دينية، والتي تبقى فيها المطاعم والحانات مفتوحة نهارا خلال شهر الصيام، والتي يمنع فيها ارتداء الحجاب في الجامعات والمدارس وفي البنايات الرسمية. ولقد قامت الأجهزة التابعة للدولة التركية بتفتيش محطات إذاعية إسلامية تعمل تحت أسماء مثل إذاعة البدر أو الوردة الوردية، والتي تتضمن برامجها الحوارية ما يعتبر مهاجمة لليهود والنصارى، أو التي تنصح النساء بعدم مصافحة الرجال وتنصحهن بالتصرف باحتشام وعفة. فرسان الإسلام الثلاثة حتى الرقابة السياسية، التي وإن كانت ليست غير مسبوقة بتركيا، أصبحت اليوم مفعَّلة باسم اللياقة الدينية. فمنذ مدة قريبة جدا مثلا، أثار وزير التربية استنكارا عاما بمرسومه القاضي بأن تسحب من الكتب المدرسية نسخة اللوحة الشهيرة للرسام دولاكروا المعنونة الحرية تقود الشعب. والسبب: الصدر العاري تماما لامرأة وهي تحمل العلم الفرنسي ذي الألوان الفرنسية الثلاثة التي تمثل ثورة .1830 ومنذ مدة قريبة عبر وزير التربية نفسه عن سخطه لكون العديد من دور النشر بادرت إلى العودة لنشر كتب للأطفال تم تقريرها للاستعمال المدرسي، على أصلها دون التعديل الذي أمر الوزير بإدخاله. في النسخة المعدلة؛ يعيش كل من بينوكيو وهايدي وطوم سايير في بيئة إسلامية ويُحيُّون في الصباح بتحية الإسلام السلام عليكم ويتناولون طعامهم بعد ذكر اسم الله عليه، ودعاء الأكل. بل إن أحد فرسان الملك الفرنسي الثلاثة les trois mousquetaires وهو آراميس يعتنق الإسلام. هل تركيا العلمانية آخذة بالفعل في التحول إلى دولة إسلامية؟ وبالخصوص الآن بعد أن قامت بالكثير من أجل الاقتراب أكثر من أوروبا؟ المؤكد حسب تقرير نشر منذ أسبوع في يومية ملييت التركية؛ هو أنه بعد مرور سنة عن فتح المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، فإن المناخ العام في تركيا -التي 99% من سكانها مسلمون- أصبح أكثر فأكثر رفضا لأوروبا وللغرب وأكثر فأكثر قومية. وفقط ثلث الأتراك هم مع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وهو ما يمثل تحولا مفاجئا من الأتراك الذين ظلوا لمدة طويلة جدا من المعجبين جدا بأوروبا. وهكذا وقبل أسبوع فقط من الإصدار المرتقب للتقرير الأخير حول التطورات داخل الاتحاد الأوروبي، تتخوف الحكومة التركية اليوم من ازدياد تأزم الوضع. فإذا كان التقرير-كما هو منتظر- يتضمن نقدا صريحا تجاه النظام القضائي، ولما يخص تقييد حرية التعبير، وكذلك لما يخص الموقف التركي من الوضع في قبرص؛ فإن تركيا تستعد لصدمة قوية كما تؤكد الصحف التركية. أوروبا تريد منا فقط أن نتشبه بها العديد من الأتراك؛ بما فيهم الموالون لأوروبا، لديهم الانطباع بأن أوروبا قد بالغت في انتقادهم ظلما. بل حتى لفظتهم. يقول سيم دونا عضو مجلس إدارة الشركة الصناعية التركية الضخمة توسياد التي لازالت تدفع بقوة من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي: لقد تم دعم دول أوروبا الشرقية بدرجة لا تصدق، فقد تم عمليا دفعهم دفعا إلى أن يصبحوا أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي لم يتم إطلاقا مع تركيا. أما الأتراك المتدينون فهم من جهتهم مستاؤون من كون أوروبا وكذلك حزب العدالة والتنمية الذي هو مع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لم يتمكنا من إقرار حريات دينية أكبر. يقول علي بولاك الصحفي في جريدةزمان: لا يُسمح لنسائنا اللواتي يرتدين الحجاب بمتابعة دراستهن. ومن جهة أخرى فقد تضاعفت الإصدارات ذات التوجه الديني خلال السنوات الأخيرة ثلاث أضعاف. عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم منذ أربع سنوات، كان علي بولاك متحمسا لفكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن منذ أن اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن الدولة التركية كان لها الحق في استثناء المحجبات من الحق في الدراسة. فإن العضب قد تملك هذا الصحافي. واليوم عندما يتذكر الطريقة التي تم بها منع زوجته من حضور حفل تقديم الشواهد لابتتهما في المدرسة بسبب أنها ترتدي الحجاب فإنه يتملكه الحنق والعضب. يقول:علينا أن نجد لنا طريقا أخرى؛ ربما الاتجاه نحو آسيا أو الشرق الأوسط. فأوروبا تريد منا فقط أن نتشبه بها. هذا الصحافي ذو التأثير الكبير يمثل قطاعا متدينا صاعدا في المجتمع التركي. وكمثل مواطنيهم الغير متدينين فإن الكثير من الأتراك المتدينين قد استفادوا هم أيضا من استرجاع الاقتصاد التركي لقوته في السنوات الأخيرة، وهو ما مكَّن من إقامة بورجوازية جديدة متدينة، تريد مستقبلا أن تستفيد من تأثيرها المكتسب حديثا. ويقول المتخصص في الدراسات الإسلامية سريف ماردان: يمكن للمسلم أن يكون غنيا وتقيا وأن يعيش سعيدا في عالمه. إنهم يلبسون من أكبر محلات الملابس الإسلامية، ويتنقلون في سيارات فارهة بزجاجها الملون الجميل، ويتواصلون عبر الأنترنيت مع أصدقاء يشاركونهم نفس القناعات، ولهم رصيد جيد في أحد البنوك الإسلامية، ويستجمون في مسابح متميزة خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء.في إسطامبول حيث أثرياء تركيا يعيشون غالبا في مساكن فارهة محروسة بالعسس الخاص؛ أصبحت توجد الآن كذلك أحياء راقية ومنعزلة خاصة بمسلمين متدينين، أي ملتزمين بممارسة شعائرهم الدينية. وتصاعد أعداد هذه الفئة الإسلامية الجديدة قد أحدث انقلابا في التوازن -الذي تم اكتسابه بعد معاناة كبيرة- والذي ظل موجودا بين العَلمانيين والمتدينين في تركيا. إن الاقتصاديين، ومزاولي رياضة الملاكمة الفرنسية، والنساء العصريات، والأتراك الموالين للغرب أصبحوا يخشون تدني صورة بلدهم. تقول أوميت بوينير عضو مجلس إدارة شرطة إيبونيم للنسيج بإسطامبول: الناس الذين لا يعرفون تركيا يتساءلون؛ كيف يمكن لامرأة عصرية مثلي أن تعيش هنا، مع أن هنا ممتع جدا. هذه المتخصصة في العلوم الاقتصادية البالغة 42 سنة، والتي تمارس كذلك رياضة الملاكمة الفرنسية سبق لها أن قادت حملة عن طريق جمعيتها التجارية تهدف إلى تحسين صورة تركيا. تقول في هذا الصدد: إننا نسعى إلى أن نبرهن على أن بلدا ذا هوية إسلامية هو متناغم مع أوروبا. فبالنسبة لأوميت بوينيرفإن تركيا ستبقى دائما عَلمانية. ولكن الخطر يكمن هنا بالضبط حسب ما يقول الكماليون محذرين؛ فهؤلاء يشعرون بأنهم هم الحماة الشرعيون للتعاليم العَلمانية لمصطفى كمال أتاتورك. هؤلاء الأتراك الماديون بعمق، والمنتمون إلى نخبة الأمة التركية، يشعرون بأنهم مهددون من طرف الإسلامية الصاعدة في المجتمع. وبالخصوص؛ فهم يثيرون الانتباه والحذر الشديد لكون حزب العدالة والتنمية استطاع أن يعيد إدماج القطاعات الدينية للمجتمع داخل الدواليب البيروقراطية للدولة. ويقول رئيس جامعة أنقرة أورال آكبولوت: مع الوزير الأول الحالي رجب طيب أردوغان فإن احترام القوانين المفترض أنها تحمي العَلمانية أصبح أمرا مهملا.لقد أصبحنا نرى نساءً محجبات داخل بعض الجامعات ويؤكد قائلا: في جامعتي لا أحد يُسمح له بأن يظهر بلباس ديني. و يضيف: إذا رفعنا الحظر على الحجاب فقد يأتين غدا بالتشادور، وبعد غد بالبرقع. وسوف ينتهي بهن الأمر إلى الاعتداء بالضرب على البنات اللواتي يرتدين الملابس العصرية. لقد رأينا في إيران كيف تجري هذه الأمور بسرعة. ولقد بادر أورال آكبولوت منذ مدة قريبة إلى التباحث مع صديقه إيلكير باسبورغ القائد الأعلى للجيش التركي حول الأخطار التي تتهدد الجمهورية. وخلال برنامج تلفزيوني يحظى بمشاهدة كبيرة حذر إيلكير باسبورغ علانية تركيا مما أسماه ب تهديد أصولي بلغ أبعادا منذرة جدا. ومن جهته رفض الوزير الأول الإسلامي أردوغان هذه التهم بحدة وحزم. فيم أكد أحد المقرين منه قائلا: نحن نريد أن نقرب تركيا من أوروبا، وسنذهب في ذلك إلى النهاية. ولقد تطرقت الصحيفة الناطقة بالإنجليزية الأناضولية الجديدة من جهتها كذلك لهذه المسألة عبر مقال نشرته على موقعها في الأنترنيت واضعة السؤال: هل يريد أردوغان أن يجعل من تركيا إيران جديدة؟. بينما يرى المستشار القانوني سينان أولجين أن الأمر لم يبلغ إلى هذه الدرجة. يقول: إن تركيا أصبحت بالفعل محافظة أكثر، ولكننا لسنا في الطريق إلى أن نتحول إلى دولة إسلامية. فقط حزب العدالة والتنمية يسعى إلى أن يمنح فضاءً أوسع للمجال الديني، وإلى أن يقيم توازنا جديدا بين العَلمانية والتدين. الأئمة تحت المراقبة حتى رئيس الشؤون الدينية في تركيا علي بارداكوغلو مقتنع بأن العلمانية والحداثة يُعتبران بشكل لا رجعة فيه متجذران في الهوية التركية. ومجلس إدارة الشؤون الدينية الذي يرأسه علي بارداكوغلو هو من المواقع المركزية في مراقبة الدين من طرف الدولة، والسبعون ألف إمام تركي هم موظفون تابعون للمجلس، وخطب الجمعة تراقب عن قرب حتى يتم منع أي خطاب يدعو للكراهية. يقول علي بارداكوغلو: في تركيا نمارس إسلاما معتدلا ومتسامحا. وعلي بارداكوغلو رجل ليبرالي لا يتمتع بحب العديد من الإسلاميين المتشددين. يؤكد هذا العالم في الشريعة وفي القانون قائلا:لا يجب التركيز على الحجاب، فالمسلم لا يُحدد بلباسه، ولا بكونه لا يشرب الخمر أو بكونه ملتحٍ. إن الذين يختصرون الدين في هذه المظاهر يتناقضون مع روح الإسلام وأساسه.