كانت خطواتي الأولى في عالم السياسة تحت تأثير الوالد الذي كان مرشدي الحصيف في هذا الميدان، كنت، بالطبع، أسمع بأسماء مصالي الحاج وفرحات عباس والشيخ الإبراهيمي، لكنني لم أكن أدرك، في مثل سني، مغزى الصراعات التي كانت تجري آنذاك بينهم وبين الإدارة الإستعمارية، كان مستوى النقاش السياسي يتجاوز حدود مداركي. لذا كان علي أن أتعلم بنفسي. وجدتني وأنا بعد شاب يافع أدخل عالم السياسة من باب الإنتخابات. فقد شجعني والدي على المشاركة كمراقب في انتخابات 1947 التي جرت بعد مصادقة البرلمان الفرنسي على القانون الأساسي للجزائر الذي رفضته كل الأحزاب الوطنية. واختارني لأداء تلك المهمة معلم فرنسي كان يرأس مركز الإنتخابات في أولاد دياب لحثهم على التصويت على لوائح الحزب، وإفشال التزوير الذي كنا نخشى منه، كانت أول تجربة لي اكتشفت خلالها المبادئ الأولى للعمل الحزبي، وأهمها الدعاية السياسية وتنظيم التجمعات والخطب وتوزيع الملصقات . في المركز الذي عملت به حاول القايد مختاري أن يؤثر في سير الانتخابات، فجلس بطريقة استعراضية على كرسي بالقرب من الصندوق، ولم يتوقف عن التحديق باستفزاز في وجوه الناخبين لترهيبهم ودفعهم إلى التصويت على قوائم الإدارة. طلب مني والدي أن أسأل المسؤول عن المركز عن أحقية هذا القايد التواجد معنا هنا. وحين سألته قال لي ليس من حقه، ثم طلب منه أن يغادر المكان. قبل خروجه شتمني هذا القايد وهدد بالانتقام مني. وبالفعل، شكاني إلى الدرك الذي ظل يترصد تحركاتي عدة أيام لاعتقالي في أطراف البلدة، فاضطررت إلى الهروب إلى عنابة في سيارة »طراكسيون« للنائب في المجلس الجزائري باي العڤون. كان هذا القائد صديقا للعائلة، ثم أصبح عدوها اللذود وسببا في العديد من المشاكل التي لاحقت والدي فترة طويلة. عاد والدي إلى عمل الأرض بعد انقطاعه عنها أثناء فترة نفيه وسنوات الحرب العالمية الثانية. كانت أراضيه تقع في سهل عنابة بمحاذاة الواد الكبير الذي ينبع من الحدود التونسية وتصب مياهه في البحيرة الكبيرة المسماة المخاضة والممتدة من موريس إلى مكاني عرف ب 45. وكانت المياه تغمر المنطقة كلها في فصل الشتاء، فيضطر السكان إلى استعمال البطاح للانتقال بين ضفتي البحيرة. وكان الوالد يسعى إلى تقليد المعمرين في طريقة تنظيم العمل والسقي وجني المحاصيل، واقتنى الآلات الزراعية الحديثة لاستعمالها في فلاحة أراضيه، ومازالت بقايا الجرار التي اشتراه في الخمسينيات موجودة إلى اليوم، أمام ما تبقى من بيتنا الذي هدم خلال الثورة. كان التنافس بينه وبين معمري المنطقة شديدا، لكنه لم يكن متكافئا. ذات يوم قال أحد المعمرين، باستخفاف، لوالدي وكنت أترجم بينهما: »يا سي بن جديد السماء واسعة ومليانة غبار، وإذا بقيت تنظر إليهما يتعمروا عينيك بالغبار«. ومن الواضح أنه كان يقصد من وراء كلامه لا تحاول أن تقلدنا لأنك لن تصل إلى مستوانا مهما بذلت من جهد. وكانت الإدارة، من جهتها، تثقل كاهل والدي بالضرائب. وكانت ترسل إلى أراضيه مفتشين لجرد أملاكه ومحاصيله. وذات مرة سجل المفتشون في الجرد أن الهادي بن جديد يربي الخنازير. ولما ذهب الوالد يشتكي في مدينة القالة محتجا بأن المسلمين يعتبرون الخنزير حراما ولا يربونه، كان ردهم الوحيد »ادفع الضرائب وسنرى فيما بعد«. كانوا يعرفون أنه لا يربى الخنزير، لكنهم أرادوا الضغط عليه وتركيعه. إلا أن والدي لم يستسلم للأمر الواقع. فكان يتعاون أحيانا مع بعض المزارعين الأوروبيين، منهم صديقه المعمر الفرنسي برنار. كانا يشتريان الماشية الراهمة من الفلاحين في سوق موريس بن مهيدي حاليا ويقومان بتربيتها وعلفها جيدا في »السبعة« الغنية بالأعلاف، ثم يبيعانها في أسواق المنطقة بأسعار مضاعفة. وكانت أسواق المنطقة فرصة أسبوعية للفلاحين لبيع وشراء البقول والماشية وعقد الصفقات وتبادل المنافع. وكنت من حين إلى آخر أرافق والدي في عربة خيل إلى سوق موريس Morris أيام الأربعاء وبلاندان Blandan أيام الإثنين. في تلك الفترة اشترى والدي فرسا بعدما أصبحت غير صالحة للسباقات التي تقام في عنابة. كان فخورا بها ويعتني بها شخصيا. ذات ليلة تسلل مجهولون إلى الإسطبل واخرجوا الفرس، واقتادوها إلى مكان غير بعيد، وقتلوها رميا بالرصاص. والمؤكد أن ذلك كان تحديرا واضحا للوالد من أن الرصاصة القادمة ستكون من نصيبه، إن هو واصل تعنته ومشاكساته. كنت في الغالب مساعد الوالد في تنظيم العمل فوق أراضيه، أقوم عادة بعمل المحاسب. كنا ندفع للفلاحين تسبيقات ونقتطعها من أجورهم بعد ذلك، أتذكر أنني كنت أساعدهم بمواد غذائية دون علم والدي. وأعتقد أن العطف الذي لازمني طيلة حياتي على الفلاحين مصدره احتكاكي بهم حين كانوا يعملون في أراضي الوالد. كان عمل الأرض، في ذلك الوقت، شاقا وصعبا بالفعل. وكان الفلاحون يشتغلون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكان أغلبهم عمالا موسميين قدموا من مناطق الشاوية والمناطق الحدودية الفقيرة بعد أن دفعتهم المجاعة والبطالة والحاجة إلى سهل عنابة الخصب بحثا عن الرزق. وكانوا يقيمون بعائلاتهم طيلة موسم الحرث وجني المحاصيل. في أراضينا كان يعمل خماسون أي الفلاحون الذين يأخذون، كما هو معهود، خمس المحصول وخضارون، وهم الفلاحون الذي كان والدي يوظفهم في موسم جني محاصيل الكاكاو والتبغ والقمح والشعير والحبوب الجافة إلى غير ذلك مما كنا ننتجه من خضر. هؤلاء كانوا يأخذون نصف الغلال بعد خصم البذور والتكاليف الأخرى. أما المعمرون فقد كانوا يستغلون هؤلاء الفلاحين أبشع استغلال، واخترعوا في ذلك الوقت عبارة تدل على مدى احتقارهم لهم، وهي le burnous de 1 Arabe suer، التي يمكن ترجمة معناها »اجعل الفلاح يعمل حتى تنهك قواه الجسدية وينضج برنوسه عرقا«. ولا شك أن هذه العبارة تدل، في الوقت نفسه على نوع من الكفاية الذاتية والإدعاء والمعجرفة أقامها معمرون من أمثال Beugin, Magran, Cardenti, Albertini, latril, Zamit ومن جاء من بعدهم، على عرق ودماء الجزائريين. فبعد أن بسط هؤلاء يدهم على الإدارة المحلية، خالقين بذلك »لوبي«، قويا في المجالس المنتخبة، شرعوا في الإستيلاء على أراضي العروض عن طريق الإبتزاز والمصادرة والتهديد وتفكيك الروابط الأسرية لدفع بعض أفرادها إلى بيع أراضيهم، وتمكن بعضهم من تملك آلاف نظرا لشساعتها، بواسطة طائرة. وبالإضافة إلى الاستغلال كان بعض المعمرين يبتز الفلاحين في حقوقهم، فبرتانيا، مثلا، كان يدفع للفلاحين قسيمات تشبه العملة ليشتروا بها المواد الغذائية من مخازنه، أي أنه كان يدفع لهم رواتب بيد ليستردها باليد الأخرى. لم يكن العمل الفلاحي في أراضي والدي يستهويني حقا. فقد قضيت طفولتي وجزءا كبيرا من مراهقتي في مدن عنابة ودارال وموندوفي، وفقدت مع مرور الوقت ارتباطي بالريف، ولذلك استأذنت الوالد للمشاركة في مسابقة بمركز التكوين المهني في عنابة، يسمى اليوم واد القبة. وشارك معي في المسابقة، أيضا، ابن خالي مبروك، لكن النجاح لم يحالفه. كان ذلك في نهاية 1947، كنا نتلقى دروسا نظرية وتطبيقية في ميدان البناء والكهرباء ومختلف المهارات اليدوية. وكنا نخضع في هذا المركز، الذي كنت مسؤولا فيه عن المرقد، إلى نظام داخلي صارم. كان هذا النوع من التكوين ذا مستوى عال، ولم يكن متاحا إلا لقلة من الجزائريين. في ذلك المركز بدأت اكتسب الوعي، بفعل الاختلاط بتلاميذ من مدن أخرى، مثل قالمةوعنابة، كانوا يدرسون معي، وشرعنا في المركز نجمع بانتظام الإشتراكات لحركة انتصار الحريات الديمقراطية، رغم ضعف المنحة التي كنا نتقاضاها. في نهاية كل شهر كان أحد مناضلي الحركة، لا نعرف حتى اسمه، يتصل بنا لاستلامها، لم تكن الشعارات السياسية التي كانت ترفعها الأحزاب الوطنية آنذاك مفهومة بالنسبة إلينا. وكان مفهوم الاستقلال الوطني حلما غامضا، لكن اقتناعنا به كان راسخا. وعزز هذا الإيمان ما كنا نلاحظه من ظلم وتعسف. كنا نشاهد أجانب من المالطيين والإيطاليين واليهود يستقرون في سهل عنابة ويجدون العمل بسهولة وتوفر لهم الإدارة كل الإمكانات للنجاح، أما الجزائريون فكانوا يطردون من مناصب عملهم لأبسط الأسباب. وقد طردت، شخصيا، من إحدى الورشات لسبب تافه. تخرجت من مركز التكوين المهني بدبلوم لم يفدني كثيرا في حياتي العملية، وحين غادرت المركز طلب مني أحد المعلمين أن أقترح عليه من يخلفني في الإشراف على المرقد، فوقع اختيار على مصطفى سرايدي الذي تحمل مدينة سرايدي اسم عائلته اليوم، بعدما كانت تسمى في العهد الإستعماري بيجو Bugeaud. كان مصطفى نشيطا وذكيا وأكثرنا وعيا وتبصرا. لقد فقدت عائلته في حوادث 8 ماي 1945 وخلال حرب التحرير العديد من الشهداء. أما هو فقد إلتحق بصفوف الثورة سنة 1956، وكان يقود فوجا من الفدائيين في مدينة ڤالمة واستشهد في السنة نفسها. وكان لي صديق حميم آخر هو محمود، وكنا نسميه ولد الرومية لأن مربيته فرنسية الأصل. كنا كل مساء بعد الدروس نخرج للتنزه في شوارع عنابة، ونغامر أحيانا بالذهاب إلى ساحة Bertagna ساحة الثورة اليوم التي كانت آنذاك فضاء خاصا بالأوروبيين، وكان أكثر ما يستهوينا آنذاك الأفلام السينمائية وكرة القدم، فكنا نتردد على دور السينما وملاعب كرة القدم في نهاية الأسبوع. وكانت أكثر المقابلات إثارة هي التي تجمع بين فريقي عنابة وڤالمة. ورغم التنافس الشديد بين الفريقين، إلا أن كرة القدم كانت آنذاك تعبيرا عن الإنتماء إلى وطن وعقيدة. اللقاء بعميروش حين كنت أتماثل للشفاء من الجرح الذي أصيبت به في رجلي اليمنى التقيت عميروش في دكان أحمد القبائلي بسوق الأربعاء، كان قد دخل تونس في نوفمبر 1956 بعد إخفاقه في مهمة إصلاح الأوضاع المتردية في الأوراس. وقد رسخ في ذاكرتي كما هو في صوره المعروفة: طويل القامة، ذا بنية قوية، ونظرة ثاقبة بقشابيته المزرقشة وشاشه. كان عميروش شديد الحرص على وحدة صفوف المجاهدين، وقد قام بعدة وساطات سواء في الولاية الأولى أو تونس. وفي 1959 وفي طريقه إلى تونس لتوضيح الأوضاع مع الحكومة المؤقتة استشهد هو والعقيد الحواس في جبل ثامر في ظروف غامضة. وشاء المولى تعالى أن أكون الإنسان بعد أن أصبحت رئيسا الذي اكتشف أن جثتي عميروش والحواس موجودتان في قبو بالقيادة العامة للدرك الوطني. فأمرت دون تردد، باستخراجهما من هناك وإعادة دفنهما في مربع الشهداء بالعالية. دفن صاحب البشرة السوداء في سيدي طراد، دُفن المفكر والمناضل فرانز فانون، هذه حقيقة أراد البعض إخفاءها، وحتى في الملتقيات التي تنظم سنويا حول شخصيته وفكره لا يشيرون إلى أن الشاذلي هو من واراه التراب. توفي فانون في مستشفى بميريلاند في الولاياتالمتحدة بعد إقامة فيها للعلاج من مرض اللوكيميا. وكنا آنذاك نسمع باسمه، ونعرف أنه مثقف من جزر المارتينيك التحق بالثورة الجزائرية، على غرار العديد من الثوار والمثقفين الأجانب، وأنه عمل في تونس مع عبان رمضان في في قسم الإعلام، وشارك مشاركة فعالة في التعريف بالثورة الجزائرية من خلال كتبه ومداخلاته في الملتقيات الدولية وعمله الدبلوماسي خاصة في إفريقيا. ولا أدري مدى صحة ما أشيع آنذاك عن وجود تواطؤ بين الفرنسيين والأمريكيين حتى لا يعالج فرانز فانون من مرضه. قبل موته ترك رسالة إلى أصدقائه يطلب فيها منهم أن يدفن في الجزائر في مقبرة للشهداء. لما توفي نقلوا جثمانه إلى تونس، واتصلت الحكومة المؤقتة بقيادة الأركان بحثا عن مقبرة للشهداء، لكنهم لم يجدوا أية مقبرة للشهداء. لما توفي نقلوا جثمانه إلى تونس، واتصلت الحكومة المؤقتة بقيادة الأركان بحثا عن مقبرة للشهداء، لكنهم لم يجدوا أية مقبرة في تلك المنطقة. في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر 1961 اتصل بي من تونس الملازم الأول آيت سي محمد، السكرتير العام لهيئة أركان الشرق سابقا، مستفسرا عن وجود مقبرة الشهداء في المنطقة الشمالية للعاليات. أخبرته أننا ندفن شهداءنا في مقبرة سيفانة الواقعة في الجهة الجنوبية من سيدي طراد. وفعلا كنا قد دفنا 12 شهيدا احترقوا بأسلحتهم بعد أن قنبلتهم طائرة أغارت عليهم فجأة في مرتفعات سيدي طراد. لكن بدل إرسال جثمانه ودفنه سرا، قامت الحكومة المؤقتة بإعلان وفاة فرانز فانون، وأكثر من ذلك أعلنت أنه سيدفن في مقبرة للشهداء بالتراب الجزائري. ربما كانت للحكومة المؤقتة حسابات سياسية كنا نجهلها، لكن الإعلان عن دفن فرانز فانون بالتراب الجزائري سبب لنا مشاكل كثيرة، وكدنا ندفع الثمن غاليا. فبعد أن علمت فرنسا بالخبر أرسلت طائرتين من نوع ب 26 ظلت تحلق باستمرار على طول الحدود في المنطقة المعروفة no man's land وتبحث عن أي شيء يتحرك لقنبلته. قمنا بحفر القبر ليلا، وهيأنا كل شيء لدفن فانون. في اليوم الموالي جاء وفد يمثل الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان وأحضر معه الجثمان إلى واد بغلة. كان ضمن الوفد محمد الصغير نقاش، مسؤول الصحة في جيش التحرير الوطني، والطبيبان يعقوبي وبونفة، وممثلة عن الصليب الأحمر الدولي، والصحافيان اليوغسلافيان بيتشار ولابيدوفيتش. وقد استغربت تصرفات بعض أعضاء الوفد الذين جاؤوا لالتقاط صور أمام نعش الفقيد. ولما وصلنا إلى الحدود قلت لهم إنني لا أستطيع أن أغامر بهم لأنهم يجهلون مخاطر المنطقة، وأن الطائرات مستمرة في التحليق والتصوير، وإنها ستكشفنا وستقمبلنا. عاد الفود من حيث جاء، ودفننا فانون بمقبرة سيفانة بعد أن أدينا له التحية العسكرية، ودفنا معه، كما أوصى بذلك، كتبه »سحنة سوداء وأقنعة بيضاء«، »العام الخامس للثورة الجزائرية«، و»معذبو الأرض«. وبعد الاستقلال أعاد المجاهدون في شهر جوان 1965 دفن رفاته بمقبرة الشهداء بعين الكرمة. في جيجل وفي الوقت الذي كانت فيه الفيالق الموالية للقيادة العامة في بوسعادة تنتظر السير نحو العاصمة، كلفني هواري بومدين بتهجيز الفيالق المتبقية من الجمهرة وفيلقين من الولاية الثانية والتوجه إلى مدينة جيجل. دخلنا جيجل أنا والعربي برجم، وقمنا بتنصيب ستة فيالق بأعالي المدينة في ثكنة le camp chevalier التي أخلاها الجيش الفرنسي والفيلق السابع عشر في جبال تاكسنة. وكان سكان جيجل مندهشين وهم يشاهدون مدينتهم تتحول بين عشية وضحاها إلى ما يشبه ثكنة في الهواء الطلق. كنا في حالة استنفار دائم نتابع تطورات الوضع. وكان مجال تحركنا يمتد حتى سوق الاثنين. أي الحدود مع الولاية الثالثة. وقد حدد لي هواري بومدين مهمة واضحة ودقيقة وهي تحييد الولاية الثالثة. فقد كان يخشى أن تتحالف لجنة الاتصال والدفاع عن الجمهورية التي أسسها في تيزي وزو كريم بلقاسم ومحمد بوضياف مع الولاية الرابعة لاحتلال العاصمة. وكانت مهمتي تتمثل في احتلال القواعد الخلفية في بجاية وتيزي وزو والدخول من هناك إلى العاصمة في حال تحرك جنود الولاية الثالثة باتجاهها. في الأسبوع الأول من شهر أوت تم التوصل إلى اتفاق بين كريم بلقاسم بوضياف ومحند أولحاج من جهة، وممثل التحالف بن بلة وقيادة الأركان، أي ما عرف بجماعة تلمسان، من جهة أخرى. وقد لعب محند أولحاج دورا كبيرا في إقناع الأطراف المتصارعة بالإصغاء إلى لغة العقل ونبذ الأطماع وأفضى ذلك إلى الاعتراف بالمكتب السياسي كأعلى هيئة سياسية. وإثر ذلك اتصل بي هواري بومدين وأطلعني على فحوى الاتفاق وآخر تطورات انسحاب جنود الولاية الرابعة من العاصمة. بلغ تأزم الوضع درجة لا تطاق فاضطرت قيادة الأركان بالتنسيق مع المكتب السياسي إلى إعطاء أمر يوم 30 أوت بالسير نحو العاصمة وشاركت في القوات الزاحفة نحو العاصمة قوات الولاية الثانية والأولى والسادسة والخامسة. وبعد خمسة أيام انتهت محنة اقتتال الإخوة الأشقاء بدخول جنود القيادة العامة وعلى رأسها بومدين منتصرة إلى العاصمة. وبدأت مرحلة جديدة ستكون هي الأخرى زاخرة بالأزمات والمحن. انفرجت أزمة صائفة 1962 بدخول جيش قيادة الأركان إلى العاصمة يوم 9 سبتمبر، وتلاشت أحلام أولئك الذين كانوا يغذون اقتتال الإخوة الأشقاء، واستعاد الشعب الأمل بعد التمزقات والصراعات التي أعقبت وقف إطلاق النار وكادت أن تزج بالبلاد في دوامة حرب أهلية لا تحمد عواقبها. كانت صرخة »سبع سنين بركات« أقوى من طلقات الرصاص. لقد تأسفنا كلّنا لسقوط ضحايا أبرياء في المواجهات بين قيادة الأركان وقوات الولاية الرابعة، ولم يكن من السهل رؤية أولئك الذين كانوا بالأمس في خندق واحد يوجهون السلاح إلى صدور بعضهم البعض. لكن كان لابد من حلّ، حتى لو تم عن طريق القوة، لتجاوز تلك المحنة العصيبة التي احتكم فيها الخصوم إلى أهوائهم ورغباتهم وطموحاتهم الجنونية أكثر من احتكامهم إلى العقل والرزانة وضبط النفس إزاء خطورة الموقف. أصبحت قيادة الأركان، في وقاع الأمر، هي القوة الوحيدة في الساحة القادرة على حسم أي موقف بفضل تماسك وانضباط جنودها والتفاهم حول قيادتهم. وحتى أولئك الذين كانوا ينازعون قيادة الأركان السلطة باسم الشرعية حينا، وأولوية السياسي على العسكري حينا آخر، أو يتهمونها بمحاولة فرض حل عن طريق القوة كانوا في قرارة أنفسهم يخطبون ودها. لقد خرجت، بالفعل، قيادة الأركان العامة منتصرة من هذه الأزمة - المحنة، وكان أعضاؤها يشعرون أنهم جنبوا الشعب امتحانا عسيرا ومزيدا من إراقة الدماء ووضعوا حدا للسباق الجنوني نحو الحكم واقتسام غنائم الحرب. وفضلا عن هذا الشعور كانت قوتها الضاربة، 24 ألف جندي وتأييد الولاية الأولى والخامسة والسادسة لها، تؤهلها إلى طرح نفسها بكل ثقة في النفس كطرف فاعل أو على الأقل كحكم في أية تسوية سياسية. في نهاية سبتمبر جرى الإعلان عن تشكيل أول حكومة للجزائر المستقلة برئاسة أحمد بن بلة. كانت، بلا شك، حكومة تسوية، تنازلات متبادلة، ونجح هواري بومدين في افتكاك خمس حقائب وزارية، واحتفظ لنفسه بوزارة الدفاع الوطني. كان بن بلة في البداية مترددا في قبول منصب رئاسة المجلس. وهكذا هي الحال دائما معه... وما من شك أن سبب تردده يعود إلى خوفه من أن يظهر في أعين معارضيه والرأي العام على أنه أصبح سجين قيادة الأركان، خصوصا وأن خصميه، آيت أحمد وبوضياف، كانا لا يترددان في التصريح بذلك متهمين إياه بالنزوع إلى الزعامة. لكن بومدين نجح في إقناعه في النهاية بعد العديد من اللقاءات التي جمعته به في فيلا ريفو بتلمسان، رفقة ضباط مجاهدين، وبعد أن قدم له ضمانات بدعم الجيش له وتعهد هذا الأخير بحفظ الأمن والاستقرار. أصبح جيش التحرير بعد دخوله العاصمة جيشا وطنيا شعبيا أنيطت به مهام جديدة. وكانت المهمة العاجلة التي أولاها هواري بومدين عنايته الخاصة هي تحويله من جيش مكوّن من قدماء مجاهدين إلى جيش نظامي عصري، من جيش تحرير إلى جيش بناء. أنشئت على المستوى المركزي مديريات جديدة للتخطيط والمالية والتسليح والمستخدمين أسندت في غالبها إلى الضبط الفارين من الجيش الفرنسي، أما الضباط المجاهدون فقد كلفوا بالنواحي والوحدات. وقد تسببت هذه التعيينات في إحداث شرخ في قيادة المؤسسة العسكرية ستظهر نتائجه بعد سنوات قليلة. كان الضباط المجاهدون لا يثقون في الفارين من الجيش الفرنسي بسبب التحاقهم المتأخر بصفوف الثورة ويتهمونهم بالسعي إلى إقصائهم وتهميشهم باسم الخبرة والتقنية. حنكة بومدين نجحت في تجاوز ذلك الخلاف الموروث منذ سنوات حرب التحرير. ورغم ذلك كله انصرف اهتمام قادة النواحي إلى إعادة تنظيم الوحدات وإدماج الجنود المسرحين في الحياة المدنية والتكفل بمشاكلهم الاجتماعية. "إنكم شعب عظيم وبلدكم بلد جميل" أسعفتني الظروف بزيارة بعض البلدان تحضرني اليوم ذكرياتها. وكان لي خلالها حظ اكتشاف تجارب شعوب أخرى، استفدت منها كثيرا في مسيرتي كقائد عسكري وسياسي. ويتعلق الأمر بالصين ومصر والمغرب وكوبا والاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا وأوغندا. وقد زرت هذه البلدان إما ممثلا شخصيا للرئيس هواري بومدين، أو ممثلا لمجلس الثورة. وكان أكثر ما رسخ في ذاكرتي لقائي بالزعيم الصيني ماوتسي تونغ والرئيس المصري جمال عبد الناصر. كانت أول رحلة قمت بها إلى خارج الوطن بعد الاستقلال إلى الصين البعيدة، وكان ذلك في أكتوبر 1963. واليوم لا أتمالك نفسي في استرجاع ذكريات تلك الزيارة. استدعاني هواري بومدين إلى وزارة الدفاع الوطني، وكلفني بترأس وفد عسكري هام يضم قادة أركان النواحي العسكرية لمشاركة الشعب الصيني احتفاله بالذكرى التاسعة والعشرين للمسيرة الكبرى، وكان هناك وفد مدني آخر قاده إلى بكين وزير الدولة عمار أوزقان. أعترف أني كنت مسرورا ومرتبكا في آن واحد. مسرورا لأن الفرصة أتيحت لي لزيارة بلد صديق دم للجزائر خلال الكفاح المسلح دعما لا يقدر بثمن على الصعيدين السياسي والعسكري، ومرتبكا لأننا، أنا والوفد المرافق لي، مجاهدون لم يسبق لنا السفر إلى الخارج، نجهل أصول البروتوكول، ولم نشارك من قبل في مفاوضات. كان الصينيون يريدن مساعدتنا في المجال العسكري، وفي الوقت نفسه فك العزلة المضروبة عليهم، ومد نفوذهم إلى البلدان حديثة العهد بالاستقلال. سألت هواري بومدين: »لماذا لا تذهب أنت شخصيا، خصوصا وأن الدعوة وجهت إليك بصفتك وزير للدفاع«؟ فأجابني بنبرة الشخص المتأكد من شكوكه: »اللعب راه بعشانا«. فهمت أنه يقصد بن بلة. ثم أضاف: "الأمور ما تعجبش« في تلك اللحظة أدركت أن بومدين كان يخشى أن يسافر إلى الصين. وحين يعود يجد بن بلة قد أقاله من منصب نائب رئيس مجلس الحكومة ووزارة الدفاع. سافرنا إلى الصين، وظلت عبارات بومدين تراود ذهني طيلة الرحلة. وبسبب انعدام خط جوي مباشر مع بكين آنذاك، اضطررنا إلى السفر إلى هونغ كونغ عبر باريس. وبعد أن حطت بنا الطائرة في مطار أورلي الجنوبي، وقعت مشكلة كادت تؤدي إلى حادث دبلوماسي بين الجزائر وفرنسا. فبمجرد وصولنا أخذوا منا جوازات السفر، ولم يعيدوها إلينا. وظلت الطائرة رابضة في المطار مدة طويلة. قمنا أيضا، بزيارة أورومكي، عاصمة مقاطعة كسينجيانغ، ذات الأغلبية المسلمة، وأعجبنا بالمعمار المتميز لمساجد جماعة الويغور الناطقة باللغة التركية. وقد اكتشفنا، مندهشين، أنهم يعرفون الجزائر، وكانوا يتابعون باهتمام أحداث ثورتنا. كان وزير الدفاع الصيني الماريشال لين بياو، أونابوليون الصين كما كانوا يسونه، غاضبا بسبب عدم تلبية بومدين لدعوته. حاولنا أن نقنع الصينيين بالظروف التي حالت دون تلبيته الدعوة، من دون أن نشرح لهم التفاصيل، لكن بلا جدوى، لم يستقبلنا لين بياو، وعين جنرالا هو مدير ديوانه، لمرافقتنا، ومع ذلك لم تخل الرحلة من مواقف طريفة، منها أن بعض المرافقين لي، من العسكريين الجزائريين، كانوا طول الوقت مندهشين من طريقة التحية الصينية والابتسامة الدائمة على شفاههم، قبل عودتنا إلى أرض الوطن. عبر بيرمانيا ثم القاهرة، أقام الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وكان مرفوقا بشونلاي وأعضاء المكتب السياسي حفلا بهيجا على شرفنا واستقبلنا بحفاوة بالغة. وأذكر مما قاله لي عبارة ظلت راسخة في ذهني إلى اليوم: »إنكم شعب عظيم، وبلدكم بلد جميل«. تمرد شعباني وقد كانت بعض الصراعات مما فرضته الظروف علينا، كما كان بعضها الآخر مما فرضناه على أنفسنا. ومن ذلك ما عرف بتمرد شعباني الذي كان. في حقيقة الأمر، مكيدة خسيسة ذهب ضحيتها أحد ضباط الجزائر المخلصين. ولابد لي هنا أن أوضح ملابسات وظروف ذلك التمرد لأني كنت طرفا أساسيا وفاعلا في مجرياته وفي مآله. فأنا من أجهض ذلك التمرد قبل أن يتخذ أبعادا خطيرة. كان شعباني قائدا للناحية العسكرية الرابعة. وكان الخلاف بينه وبين بومدين هو إسناد بومدين للمراكز الحساسة في وزارة الدفاع الوطني إلى الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، الذين كان شعباني يعتبرهم قوة ثالثة وخطرا حقيقيا على الثورة. وأشيع آنذاك أن بن بلة يريد استخلافه على رأس الناحية بعمار ملاح. رفض شعباني مغادرة مقر الناحية بعد أن استدعاه بن بلة إلى العاصمة للالتحاق بالمكتب السياسي. ووصلت الأزمة بينهما إلى طريق مسدود رغم الوساطات العديدة التي قام بها بعض الوجوه السياسية و العسكرية. وتطوّرت الأزمة، بحيث أصبحت تهدد بتصدع المؤسسة العسكرية الفتية. كثيرون من الناس، ومنهم أصدقاء شعباني، يعتقدون أن بومدين كان يحمل حقدا دفينا لشعباني، ويعتبره منافسا له في قيادة الجيش، وأنه هو من دفعه إلى التمرد، وهو من حاصره في بسكرة، وهو من شكّل المحكمة، وهو من أمر بإعدامه. والحقيقة غير ذلك. لقد سبق لهواري بومدين أن أوضح موقفه من هذه القضية في حوار مع الصحفي المصري لطفي الخولي بقوله: "بن بلة هو الذي دفع الأخ شعباني لهذه الغاية المأساوية، إلى الموت. فخلال سنة كاملة بذل بن بلة كل ما في وسعه من أجل تأزيم العلاقات بين قيادة الأركان وشعباني. قائد الناحية الرابعة. ثم عيّن بعد ذلك العقيدين شعباني والزبيري وأنا شخصيا في المكتب السياسي، وهم كلّهم مسؤولون عن قيادة الجيش.. وبموجب هذا القرار كان بن بلة يريد وضع حد لوجود شعباني كقائد ناحية على الصحراء وتعيين شخص آخر بدله. لكن شعباني كشف خديعة بن بلة ورفض الالتحاق بالمكتب السياسي«. هذه رواية بومدين. ومن واجبي، شخصيا، أن أدلي بشهادتي على الأقل في الأحداث التي كنت طرفا فيها في هذه المأساة المؤلمة. الواقع أن أحمد بن بلة هو الذي ألّب العقيد شعباني ضد هواري بومدين. كان يناور دائما ويحب الدسائس منذ أن أوصلناه إلى الحكم. كان ذلك هو طبعه ولم يتغيّر قيد أنملة. كان يريد دائما أن يشعل نار الفتنة بيننا. كان شعباني عضوا في قيادة الأركان. نائبا للطاهر الزبيري إلى جانب بن سالم والعقيد عباس، لكنه كان، بلا شك، يطمح إلى أكثر من ذلك بالنظر إلى صغر سنه. أعلن شعباني تمرده في ظروف غامضة وعصيبة على أكثر من صعيد. ففي ذلك الوقت كانت الجزائر لا تزال تضمد جراحها. وكنا ما نزال نعاني من صعوبات في تنظيم مؤسسات الدولة والمجتمع ونتخبط في مشاكل عديدة ورثناها عن الاستعمار. بعد أن أصبح التمرد أمرا واقعا اتصل بي بومدين هاتفيا، وكان إلى جانبه الرئيس بن بلة، وأخبرني أن هذا الأخير يطلب مني احتلال مركز قيادة الناحية الرابعة. وكانت قيادة الأركان قد اتخذت قرارها بالإجماع على ضرورة إجهاض هذا التمرد في أسرع وقت. وأعدت خطة لإطفاء نار هذه الفتنة التي كانت تهدد بتمزيق أوصال البلاد. أطلعتني قيادة الأركان على هذه الخطة، وأخبروني أنهم سيرسلون عمار ملاح من أريس. أما أنا شخصيا فكلفت بالإشراف على العملية والتنسيق بين القوات المشاركة فيها، ورافقني في هذه المهمة نائبي في الناحية الخامسة محمد عطايلية. هذه التعليمات وصلتني عن طريق برقية، ولم أكن أدري أن شعباني كان على علم بها. ذلك أن أحد المسؤولين في الإشارة، أصله من بسكرة، كان متواطئا معه وأطلعه على الخطة بالدقة والتفصيل. اتخذ شعباني تدابير مضادة لخطتنا. ولحسن الحظ، أنني لم أطبق حرفيا الخطة كما وردت من قيادة الأركان، وتصرفت وفق حقائق الميدان. استقدمت عبر بريكة الفيلق السابع عشر، وهو من أفضل الفيالق تجهيزا وتدريبا، وأعطيت لقائده تعليمات بأن لا يدخل بسكرة حتى نصل نحن. وطلبت أيضا منه أن يبقى عند مشارف المدينة فوق التلال حتى نستطيع أن نراه. وهذا ما لم يكن يتوقعه شعباني، ولما وصلنا إلى خنقة سيدي ناجي شاهدنا مواقعهم. كانت معي بعض الدبابات، وأمرت الجنود أن لا يطلقوا النار حتى تأتيهم التعليمات. وفي أثناء ذلك تلقيت أمرا من بومدين لإقامة قيادة أركان العملية في باتنة، لأنه كان يعتقد أن الأمر سيطول. أرسلت الفصيلتين في جهتين مختلفتين وحاصرنا المتمردين. وعندما شاهد جنود شعباني أن الجيش طوّقهم هربوا ودخلوا إلى معسكراتهم. وحتى شعباني لم يكن يتصوّر السرعة التي تمت بها العملية، كما لم يكن ليخطر بباله أن جنوده الذين كانوا أوفياء له تخلوا عنه، دون أن يطلقوا رصاصة واحدة. وحين أخبروه أنه محاصر، هو وجيشه، لم يصدق. هرب مع أركان قيادته، ونسي في مكتبه سترته التي وجدنا فيها بطاقة تعريفه. أما جنوده فقد دخلوا الثكنة، وأوصدوا الأبواب خلفهم. وحين وصلنا إليهم سلّموا أنفسهم دون أدنى مقاومة. أما شعباني فقد التجأ إلى صديقه سعيد عبيد، وطلب منه الحماية في بوسعادة يوم 08 جويلية 1964. بومدين كما عرفته عرفت هواري بومدين في الربع الأول من عام 1960، وبالضبط في شهر فيفري. آنذاك بدأ نجمه يسطع بعد التحاقه بغار الدماء، قادما إليها من هيئة أركان الغرب. بعد قرارات الدورة الثانية للمجلس الوطني للثورة الجزائرية المنعقدة في طرابلس. بعد تنصبيه على رأس الأركان العامة، سافرنا نحن قادة المناطق الثلاث، أنا وعبد الرحمن بن سالم والزين النوبلي، للقائه بعد التغييرات التنظيمية الجديدة التي أدخلت على هيكل الجيش والمهام التي أنيطت به في الظروف الجديدة. وكنا، والحق يقال حذرين بالنظر إلى التجارب التي عشناها مع قادة سابقين. مضى على ذلك الوقت خمسة عقود كاملة، ومازالت أذكره كما رأيته لأول مرة. كان نحيفا، طويل القامة، أشقر الشعر، غائر الوجنتين، أسوّدت أسنانه من التدخين. فقد كان يشعل السيجارة من أختها كان مثل الناسك، متقشفا في أكله، متواضعا في ملبسه، تخاله حين تنظر إليه وسط الجنود أنه واحد منهم. ورغم ما يبدو على ملامح وجهه من صرامة وجدية، إلا أنه خجول إلى درجة الحياء. كان بومدين شخصية منطوية على نفسها، كتومة وخجولة، كان قليل الحديث يستمع أكثر مما يتكلم، لا يتسرع في اتخاذ القرارات ويشاور المقربين منه، ولم يكن مستفردا بالرأي كما يشاع عنه. لكنه في الوقت نفسه كان فعالا وصارما حين يتعلق الأمر بمصلحة البلاد. أما في حياته الشخصية، فقد كان متواضعا يرفض حياة البذخ والمظاهر الخادعة. هذه هي الصورة التي احتفظت بها عنه أثناء عملي معه في المنطقة الشمالية للعمليات، وحين أصبح وزيرا للدفاع، وعندما تولى منصب الرئاسة لم يتغير في الجوهر إلى أن رحل عن هذه الدنيا. كان في الغالب يتخذ القرارات بعد فحص كل الاحتمالات وردود الفعل يترك الأمور حتى تنضج، لكنه بعد أن يتخذها كان نادرا ما يتراجع عنها. ربما كان ذلك هو أسلوبه في الحكم. في اجتماعنا به في غار الدماء سألنا عن كل صغيرة وكبيرة عن الأوضاع دون أن يبدي رأيه فيها. كان يريد أن يعرف على الخصوص قدراتنا العسكرية ومعنويات المقاتلين، ويستفسر عن خطي موريس وشال. بعد افتراقنا توسمنا فيه خيرا. لعله الرجل الذي أهلته الأقدار لإنقاذ الثورة. اتفقنا أنا وبن سالم بعد عودتنا على إعطاء الرجل فرصته. فهو جديد وغير معروف في وسط الضباط إلا سماعا، كما أنه غير متورّط في الأحداث العاصفة التي عرفتها القاعدة الشرقية. ومن حسن الحظ، أننا كنا نجهل أنه هو الذي ترأس المحكمة التي حكمت بالإعدام على العموري وعواشرية ونواورة والرائد لكحل والضباط الآخرين. فربما كان موقفنا منه سيختلف. وفي حقيقة الأمر، كنا نسعى إلى تجاوز الانسداد ولو بتقديم تنازلات. فقد أصبحنا مقتنعين أكثر أن أهم شيء هو إنقاذ الثورة وتصحيح مسارها. كان الفرق بينه وبين محمدي السعيد كبيرا سواء في طبعهما أو ثقافتهما أو قدراتهما على قيادة الرجال. أما في إدارته لشؤون الدولة فقد كان بومدين سواء في الجيش أو في مجلس الثورة أو الحكومة يستشير مساعديه في أهم القرارات التي يتخذها. كان محاورا ذكيا. ومجادلا مقنعا. وكان نهجه في إدارة شؤون البلاد يستند إلى رؤية بعيدة المدى تنبذ الارتجال والتسرع. بعد موته حاول البعض التنصل من مسؤولياتهم المباشرة في بعض القرارات التي اتخذت جماعيا ونسبت نتائجها السلبية أو فشلها إلى بومدين. وأريد أن أؤكد أننا كلنا نتحمل القرارات الكبرى في عهد بومدين بسلبياتها أو إيجابياتها. والواقع أنه لم يكن يحكم وحده. وعلى العموم يمكن القول أنه استند على ما عرف بجماعة »وجدة« والمجاهدين قادة النواحي العسكرية والضباط الفارين من الجيش الفرنسي والمستشارين الخاصين. وأعقتد أنه أراد من خلال ذلك تحقيق نوع من التوازن في تسيير دواليب الحكم.