قال الرئيس الشاذلي بن جديد، بان هناك صورة خاطئة عند عامة الناس عن الرئيس هواري بومدين، صورة الحاكم المستبد بالرأي المستفرد بالحكم، واضاف "لم يكن بومدين كذلك، بومدين شخصية منطوية على نفسها، كتومة وخجولة". ومضى الرئيس الشاذلي يقول "لا يمكنني أن أجزم هل وفاته طبيعية أم انه سمم، لكنني شخصيا لدي انطباع أن وفاته تشبه وفاة ياسر عرفات". وفي ما يلي نص الحوار:- السيد الشاذلي بن جديد نادرا ما يتحدث رئيس عن رئيس قبله أو بعده، هل يزعجكم الحديث عن الرئيس هواري بومدين؟ أبدا. هواري بومدين قبل أن يكون رئيسا كان رفيقي في السلاح وصديقا كنت دائما اعتز بصداقته. ومن المؤسف أن نلاحظ أن الرجل لم ينل بعد ثلاثة عقود من رحيله ما يستحقه من عناية واهتمام، ما عدا ملتقيات تنظم حوله سنويا ويغلب عليها الطابع المناسباتي والتوظيف السياسي. ومن المؤسف أيضا القول إن العديد من السياسيين يتغطون ببرنوسه حين يتعلق الأمر بإيجابيات حكمه ويتخلصون من هذا البرنوس حين يجري الحديث عن سلبيات المرحلة. وأنا لست من هؤلاء ولا أولئك. "" إذن نبدأ من البداية: متى تعرفتم لأول مرة على الرئيس هواري بومدين؟ تعرفت على هواري بومدين في مطلع سنة .1960 كان نجمه قد بدأ يسطع آنذاك بعد قدومه إلى تونس في أفريل 1959 للمشاركة في اجتماع تحكيمي لفض النزاع الذي اتخذ أبعادا خطيرة بين أعضاء الحكومة المؤقتة. وهو الاجتماع الذي عرف باجتماع العقداء العشرة. كانت الأصداء التي تصلنا عن ذلك الاجتماع مثيرة للقلق. فطول مدته (100يوم) وتعثر أشغاله كانت مؤشرا على أن الخلافات بين المشاركين فيه لم يتم تجاوزها، وأنها تنذر بانفجار الحكومة المؤقتة التي لم يمض على تشكيلها آنذاك سوى ستة أشهر. وخيمت على ذلك الاجتماع ظلال ثقيلة سببها إعدام عقداء ماعرف بمؤامرة لعموري وتفكيك القاعدة الشرقية. خطورة الوضعية وعمق الخلافات فرضت الدعوة لعقد دورة ثالثة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية في طرابلس بين 16 ديسمبر و18 جانفي أسفرت عن نتائج هامة سرعان ما لمسنا نتائجها الايجابية في الميدان. وأهمها: -إنشاء هيئة أركان عامة أسندت قيادتها إلى هواري بومدين وضمت أيضا علي منجلي وقايد أحمد والرائد عزالدين. -إلغاء وزارة الحرب وتعويضها بلجنة وزارية مشتركة للحرب شكلت من كريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوصوف والأخضر بن طوبال. أما على الصعيد العسكري، فقد أوصت الدورة بضرورة تكثيف العمليات العسكرية والإسراع بدخول قادة الجيش إلى ولاياتهم الأصلية. وقد لعب هواري بومدين دورا حاسما في تجسيد هذه القرارات في الميدان. كيف لمستم ميدانيا هذه النتائج الإيجابية؟ ورث بومدين عندما تسلّم قيادة أركان الجيش في غار الدماء وضعية خطيرة. ففي الداخل كان جيش التحرير معزولا فاقدا للمبادرة بعد خطة شال. أما في الحدود فقد كانت وحدات الولايات الداخلية جامدة بعد الانتهاء من بناء خط شال، وكثرت حركات التمرد والعصيان بعد فشل العقيد محمدي السعيد في بسط جو من الثقة في صفوف المجاهدين. كانت الفوضى عامة والوضع يوحي بأن الجنود أصبحوا بلا قادة ولم تسلم من التفكك والانهيار إلا المنطقة الأولى التي كنت أقودها والثانية التي كان على رأسها عبد الرحمن بن سالم. أما الحكومة المؤقتة فقد كانت غارقة في صراعات الزعامة والنفوذ. بعد تسلّمه لقيادة الأركان اتخذ بومدين إجراءات تنظيمية هامة انعكست نتائجها ايجابيا على القدرات القتالية للمجاهدين وطبق بومدين سياسة ذكية مبنية على استرجاع ثقة الرجال، وتطوير أساليب القتال في مواجهة جيش كلاسيكي يفوقنا في العدة والعدد، والتحضير السياسي والنفسي للوحدات. بعد أن انشأ في مقر قيادة الأركان مكتبا تقنيا ومدارس للتكوين اتصل بي وبعبد الرحمن بن سالم وعقدنا أول اجتماع لنا معه. لم نكن نعرفه جيدا آنذاك، لكننا اكتشفنا نزاهته وإخلاصه، وأكثر من ذلك روحه الوطنية العالية وتصوره العميق لأهداف النضال. كان بومدين بالنسبة إلينا، أنا وبن سالم، غريبا عن مشاكل الحدود الشرقية منذ حل لجنة العمليات العسكرية وإعدام العقداء الذين اتهموا بمحاولة الانقلاب على الحكومة المؤقتة، لذلك اتفقنا أن نتعاون معه في إعادة تنظيم الجيش. هذا الانطباع الذي خرجنا به من اجتماع غار الدماء تأكد بمرور الأيام إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية. كيف كان بومدين كعسكري؟ من الناحية التنظيمية قسم بومدين ما كان يسمى بالقاعدة الشرقية إلى منطقة شمالية للعمليات بقيادة عبد الرحمن بن سالم وأنا نائبه، ثم التحق بنا بعد ذلك شابو، وقبيل وقف إطلاق النار عبد الغني. ومنطقة ثانية هي المنطقة الجنوبية للعمليات بقيادة صالح صوفي. أعاد بومدين هيكلة وحدات الجيش ضمن فيالق خفيفة وسريعة الحركة وكتائب الدعم بالأسلحة الثقيلة، وفرض جوا من الانضباط والقوانين الصارمة، ونجح في دمج جيوش الولايات الثانية والثالثة والرابعة في جيش واحد عصري وصل عدد أفراده إلى 22 ألف جندي. وأصبح نشاط جيش التحرير يخضع إلى استراتيجية مدروسة وواضحة المعالم تجسدت خاصة في الهجومات الشاملة لجيش التحرير الوطني على مواقع الجيش الاستعماري على طول خط شال والتي تواصلت طيلة 1960 و.1961 وقد استفاد من تجربته كقائد أركان الغرب لتجاوز المشاكل التي عرفتها الحدود الشرقية.
هناك من السياسيين والمؤرخين من يرى أن بومدين استعمل قيادة الأركان العامة كحصان طروادة للاستيلاء على الحكم؟ هذا غير صحيح. حين قدم إلى غار الدماء كان انشغاله الأول هو إعادة تنظيم الجيش وتحويله إلى جيش وطني عصري قادر على مواجهة الآلة الاستعمارية الجهنمية. وبالفعل، نجح في رفع قدراته القتالية وتحسين نوعية سلاحه ودعمه المادي. كيف نفسر إذن الخلاف الذي انفجر وبين الحكومة المؤقتة بعد عام من تسلّمه قيادة الأركان؟ أريد أولا أن أوضح نقطة هامة؛ الحكومة المؤقتة كانت تعني بالنسبة إلينا، نحن الضباط، الباءات الثلاث، أي كريم وبوصوف وبن طوبال. أما عن الخلاف فلم يكن في البداية سياسيا، وإنما كان يتمثل في اختلاف الرؤية حول تسيير الحرب وتداخل الصلاحيات. وحين تفاقم الخلاف أصبح من الطبيعي أن يسيّس ويتخذ أبعادا تخص مستقبل البلد وهذا ما حدث بالفعل. الخلاف اتخذ أبعادا سياسية بعد إسقاط الجيش لطائرة فرنسية فوق مركز تدريب بواد ملاق وسجن قائدها؟ صحيح... كانت تلك الحادثة هي القطرة التي أفاضت الكأس فقد اضطرت القيادة العامة بفعل الضغوط الكبيرة التي مارستها أطراف مختلفة إلى تسليم الطيار. كانت تلكم إهانة ما بعدها إهانة. وقدم أعضاء قيادة الأركان استقالتهم إلى الحكومة المؤقتة متهمين إياها بالسعي إلى إضعاف الجيش والرضوخ لإرادة بورفيبة. وكان ذلك هو إحساسنا نحن الضباط في المنطقتين الشمالية والجنوبية. وللتأكد من اتخاذ الخلاف طابعا سياسيا ادعوكم إلى قراءة نص الاستقالة. وقد وقع الضباط عريضة داعمة لموقف قيادة الأركان ومنددة بالحكومة المؤقتة كنت أنا أول من وقعها، ثم طفت بجميع الضباط الذين لم يترددوا في التوقيع على نصها. ثم تفاقم التوتر أكثر بين الحكومة المؤقتة والأركان العامة حول مسألة التفاوض مع فرنسا؟ الاعتراض على الطريقة التي تمت بها المفاوضات والانتقادات التي وجهت إلى مضمونها لم يكن موقف الأركان وبومدين وحدهما، وإنما كان اتجاها عاما في صفوف الضباط. لأنها كانت تهدف في المدى البعيد إلى تمهيد الطريق إلى نظام استعماري جديد. وكنا نتساءل، وعلى رأسنا بومدين، ما جدوى الكفاح الذي خضناه ضد الاستعمار طيلة سبع سنوات؟وكنا معترضين على وجه الخصوص، على إنشاء القوة المحلية كبديل لجيش التحرير واحتفاظ الجيش الفرنسي بقواعد فوق التراب الوطني والحفاظ على مصالح فرنسا الاقتصادية والإدارية وحقوق الأقلية الأوروبية وشكل تسيير المرحلة الانتقالية. وكان بومدين من أشد المعارضين لهذه الاتفاقيات. وعبر عن رأيه ورأي الجيش بقوة في اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي عقد بطرابلس في فيفري .1962 سيادة الرئيس، دعنا نعُد إلى تسييس الخلاف، الكل يعرف أن بومدين لما شعر بضعف الحكومة المؤقتة بدأ يبحث عن نجيبه أليس كذلك؟ قد يكون هذا صحيحا، لكن الأصحّ هو القول إن تفاقم الصراع هو الذي فتح عينيه على هذه الإمكانية. مع اقتراب الاستقلال بدأ بومدين يبحث عن غطاء سياسي لسد الطريق أمام الحكومة المؤقتة. كنا آنذاك على علم انه أرسل عبد العزيز بوتفليقة إلى قصر أولنوا ليعرض على السجناء فكرة إنشاء مكتب سياسي وبرنامج سياسي، لكنه في الحقيقة كان يبحث عن رجله أو كما سميته أنت نجيبه. في البداية راهن بومدين على بوضياف، لكن هذا الأخير رفض التعامل مع العسكر، فاضطر بومدين إلى اختيار بن بلة الذي قبل بعد تردد. والبقية معروفة. قلت لي ذات يوم إن بومدين زارك في الطارف واستشارك حول سبل تجاوز الأزمة التي اتخذت أبعادا خطيرة بعد الاستقلال؟ نعم زارني هو وعبد الرحمن بن سالم في الطارف، وبعد أن صب جام غضبه على الحكومة المؤقتة سألني ما رأيك في الأزمة يا سي الشاذلي؟ شرحت له موقفي وقلت له إذا تطلب الأمر الاستمرار ستة أشهر أخرى فليكن ذلك، ليس من حقنا أن ندع السياسيين يزجون بالبلاد في دوامة حرب أهلية بعد كل التضحيات التي قدمها شعبنا. كنت من أنصار حسم الموقف عسكريا لوضع حد للأزمة. ما زلت أذكر ابتسامته وقوله لي معك يا سي الشاذلي الأمور واضحة. الآن نعود لو سمحتم إلى بومدين الإنسان كما عرفتموه؟ هناك صورة خاطئة عند عامة الناس عن بومدين. كان بومدين شخصية منطوية على نفسها، كتومة وخجولة. كان قليل الحديث يسمع أكثر مما يتكلم، لا يتسرع في اتخاذ القرارات ويشاور المقربين منه، ولم يكن مستفردا بالرأي. لكنه في الوقت نفسه كان فعّالا وصارما حين يتعلق الأمر بمصلحة البلاد. أما في حياته الشخصية فقد كان متواضعا يرفض حياة البذخ والمظاهر الخادعة بسيطا في مأكله ومشربه وملبسه. كان مفرطا في التدخين وكان أحيانا يشعل السيجارة من أختها. هذه هي الصورة التي احتفظت بها عنه أثناء عملي معه في المنطقة الشمالية للعمليات وحين أصبح وزيرا للدفاع وعندما تولى منصب الرئاسة، ولم يتغير في الجوهر إلى أن رحل عن هذه الدنيا. كيف كانت علاقته بالمقربين منه؟ تكونت عند الناس صورة خاطئة عن هواري بومدين. صورة الحاكم المستبد بالرأي المستفرد بالحكم. لم يكن بومدين كذلك. فسواء في الجيش أو في مجلس الثورة أو الحكومة، كان يستشير مساعديه في أهم القرارات التي يتخذها. كان محاورا ذكيا، ومجادلا مقنعا. وكان نهجه في إدارة شؤون البلاد يستند إلى رؤية بعيدة المدى تنبذ الارتجال والتسرع. بعد موته حاول البعض التنصل من مسؤولياتهم المباشرة في بعض القرارات التي اتخذت جماعيا ونسبت نتائجها السلبية أو فشلها إلى بومدين. وأريد أن أؤكد أننا كلنا نتحمل القرارات الكبرى في عهد بومدين بسلبياتها وإيجابياتها. أما علاقته بي شخصيا فكانت علاقة ثقة واحترام متبادلين. كان لا يشك في إخلاصي وصداقتي له. وهذه الصداقة مرت عبر العديد من المحن والتجارب، منها تمرد شعباني وحركة 19 جوان ومحاولة انقلاب الطاهر الزبيري، تأكد بومدين فيها بأني لن أطعنه في الظهر، رغم أن البعض كانوا يحاولون النيل من علاقتنا. ذات يوم قدمني إلى الوزير الأول التونسي الباهي لدغم بهذه الكلمات: أقدم لك الابن المدلل لبومدين. لم أكن أدري أن العديد من المسؤولين العسكريين والسياسيين يقولون عني أني مدلل الرئيس. إذا كان بومدين لم يستفرد بالحكم، فما هي الدوائر التي اعتمد عليها في اتخاذ القرار؟ لم تكن هي نفس الدوائر طيلة حكمه. وعلى العموم يمكن القول انه استند على ما عرف بجماعة وجدة والمجاهدين قادة النواحي العسكرية والضباط الفارين من الجيش الفرنسي والمستشارين الخاصين. واعتقد انه أراد من خلال ذلك تحقيق نوع من التوازن في تسيير دواليب الحكم. هناك انتقادات توجه إلى بومدين بخصوص الخيارات الكبرى للبلاد، لكن دعنا نكتف بموقفه من التعريب والإسلام نبدأ بالنقطة الأولى: هل كان من أولوياته؟ نعم اهتم بومدين بالتعريب، وكان اهتمامه نابعا من قناعته بأن استعادة اللغة الوطنية لمكانتها هو مطلب رفعته الحركة الوطنية، ونصّت عليه كل الوثائق الرسمية للثورة الجزائرية. أثناء حكمه تم تعريب الإدارة والعدالة وسطرت سياسة شاملة للتعريب التدريجي لكل أطوار التعليم. وهي السياسة التي واصلت أنا تطبيقها بعد رحيله. لكن بومدين لم يكن من دعاة الانغلاق. فقد كان يدعو دوما إلى الانفتاح على اللغات والثقافات الأخرى بما يخدم اللغة العربية. كان يحسن اللغتين، لكنه كان يتفادى في خطبه الحديث باللغة الفرنسية. وفيما يخص الإسلام؟ كان بومدين عميق الإيمان، حريصا على تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية وتكييفها مع الاختيار الاشتراكي. لا ننسى انه درس في الأزهر، وكان كتابه المفضل هو القرآن الكريم. كان يحفظه عن ظهر قلب ويستشهد بآياته في خطبه. كان يعتبر الإسلام دين العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات. لكنه كان في الوقت نفسه يرفض احتكار الفكر الإسلامي أو تأويل الإرادة الإلهية. كان يقول دائما في خطبه إن الإسلام يرفض استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. والكل ما زال يذكر خطابه الشهير في مؤتمر قادة البلدان الإسلامية الذي عقد بلاهور سنة 1974 وجملته المدوية إننا نرفض أن ندخل الجنة وبطوننا خاوية. هذه الجملة أثارت حملة شعواء ضدهفي الداخل والخارج وواتهمه البعض بالكفر. وفي الحقيقة الجملة تعبر عن تصور جديد لإسلام منفتح على حقائق العصر... إسلام التسامح والتفتح والحوار. لقد وقف بحزم ضد كل أشكال التعصب والتطرف والمغالاة التي حاولت استعمال الدين لأغراض سياسية. ويكفيه فخرا انه شيد عشرات معاهد التعليم الأصلي وكان يرعى شخصيا ملتقيات الفكر الإسلامي. هل يمكن أن نتحدث عن آخر أيامه؛ عن موته، هل لديكم شكوك حول رحيله؟ لا يمكنني أن أجزم في هذه المسألة هل وفاته طبيعية أم انه سمم، لكنني شخصيا لدي انطباع أن وفاته تشبه وفاة ياسر عرفات. في السنوات الأخيرة من حياته كان يزورني في وهران مقر الناحية العسكرية الثانية حين تضيق به الدنيا. كانت زياراته في الغالب مفاجئة ودون علم البروتوكول. كان يبوح لي بأسراره الخاصة ويحدّثني في أموره الحميمة رغم ما عرف عنه من تكتم وتفاديه الحديث عن نفسه عن ثقل المسؤولية وخيانة الرجال. في تلك الفترة بدأ يحدّثني عن ضرورة إحداث إصلاحات في الخيارات الكبرى للبلاد. كان مدركا أن أخطاء كبيرة وقعت في تطبيق الإصلاح الزراعي والتصنيع والتأميمات، وكان عازما على سن سياسة مراجعة جذرية لتلك الخيارات بما يخدم ضمان التطور المستقل للبلاد والتنمية والعدالة الاجتماعية. كنت ألاحظ الإرهاق على ملامحه وكان يعاني من بعض الآلام، لكنه لم يكن يشتكي، كان يتحمّل الألم في صمت وشجاعة. أرجعت سبب ذلك إلى إفراطه في العمل. ولم أدرك آنذاك انه كان مريضا. كان يحدّثني عن شجاعة الرئيس بومبيدو ومعاناته من المرض ولم أربط آنذاك بين ما كان يعانيه وبين حديثه عن مرض بومبيدو. بعد عودته من دمشق من اجتماع جبهة الصمود والتصدي لم يعد بومدين يظهر علنا، ثم نقل إلى موسكو للعلاج لكن المرض استفحل وبعد عودته من موسكو استقبل أعضاء مجلس الثورة والحكومة وحين صافحته أمسك بيدي مطولا وكأنه يريد أن يقول لي شيئا ما، لكن كان قد فقد حيويته ووافته المنية في 27 ديسمبر من عام .1978 لقد شعرت بأنني فقدت رفيقا في السلاح وصديقا غاليا عليّ. ما زلت إلى اليوم أتذكر الكلمات التي كان يقولها لي:أوصيك سي الشاذلي على البلاد والثورة... هل يمكن أن نسألكم عن طريقة خلافتكم له؟ قبل وفاته عيّنني الرئيس هواري بومدين مسؤولا عن أسلاك الأمن، لكن الشخص الذي كلفه بذلك تواطؤ مع بعض أعضاء مجلس الثورة ليخفوا عليّ قرار الرئيس. لكن أمام خطورة الوضعية اضطر هؤلاء إلى اطلاعي بقرار بومدين. كانت مهمتي هي السهر على ديمومة المؤسسات وحفظ النظام العام والممتلكات العمومية. كانت المسؤولية جسيمة وصعبة، لكني تحملتها وفاء للصداقة التي جمعتنا والثقة التي وضعها فيّ. كان الصراع على خلافته بدأ قبل موته ولم أكن طرفا فيه، ولم أكن أطمح إلى منصب الرئاسة. سأتحدث يوما ما في مذكراتي عن هذه التفاصيل. واكتفي هنا بالقول إن المؤتمر الرابع لجبهة التحرير الوطني عيّنني أمينا عاما للحزب ومرشحا لرئاسة الجمهورية. رأى البعض في القرارات التي اتخذتموها بعد تسلّمكم الحكم محاولة للانقلاب على سياسة بومدين... ما تعليقكم؟ قبل رحيله كان بومدين يفكر جديا في إحداث تغييرات جذرية في السياسة المنتهجة في الزراعة والتصنيع والتأميمات، بل انه صارحني في العديد من المرات انه ندم على بعض الإجراءات التي اتخذها وكان مصمما على الدعوة إلى مؤتمر للحزب لتقييم كل جوانب السياسة الوطنية لتحديد السلبيات وتسطير اختيارات جديدة. أما أولئك الذين يتهمونني بمحو آثار فترة بومدين، فهم بالتحديد من كان مستفيدا من الوضع أو ما يسمى ببارونات النظام وأقلية يسارية حاولت مساومتي، لكنني رفضت ذلك. وحين شرعت في الإصلاحات بدأوا يتحدثون عن سعي الشاذلي إلى محو آثار بومدين. إن كل ما قمت به هو محاولة إصلاح نظام وصل إلى طريق مسدود كنا كلنا، وليس بومدين وحده، مسؤولين عما آلت إليه الأمور. كانت نيتي حسنة وصادقة، وللتاريخ الكلمة الأخيرة عن فترة حكمي. وهؤلاء الذي تحدثوا عن محوي لآثار بومدين هم نفس الأشخاص الذين وصفوا فترة حكمي بالعشرية السوداء. واغتنم فرصة هذا اللقاء لأقول إن الذي ابتدع عبارة العشرية السوداء هو مسؤول أراد الاستيلاء على فيلا هي ملك للدولة مصنّفة ضمن إقامات الدولة التاريخية رفض إخلائها بعد إنهاء مهامه. وحين هددته بإخراجه بالقوة العمومية بدأ يروج لفكرة العشرية السوداء وتلقفتها الصحافة... فعن أية عشرية يتحدون؟ هل حلّلوا موضوعيا فترة الشاذلي؟ هل قيموا الإنجازات في الاقتصاد والمنشآت القاعدية؟ من يتجرأ اليوم على القول إن مؤسس التعددية السياسية وفتح المجال الإعلامي والتأسيس لثقافة حقوق الإنسان هو شخص آخر غير الشاذلي؟ أقول فقط نوكل عليهم ربي. كلمة أخيرة عن بومدين؟ كان رأسي ورأسه في شاشية واحدة وكنت دائما إلى جانبه في أخطر المراحل التي مر بها نظام حكمه. كان ذكيا في قراراته، جادا في كل مواقفه. ولم يكن يناور أو يسعى إلى كسب عواطف الشعب. ربما ارتكب بعض الأخطاء في التسيير، لكنه لم يكن هو المسؤول الوحيد عنها وبعض الرجال لم يكونوا في مستوى الثقة التي وضعها فيهم. كان همه الوحيد هو تحرير البلاد من الاستعمار وبناء جزائر تنعم بالعدالة الاجتماعية والرفاهية. كان يحلم بمجتمع متكامل ومتحرّر من التبعية والجهل. كان متفانيا في خدمة شعبه إلى درجة انه نسي نفسه وعائلته وحقه في هذه الحياة. وما زلت إلى اليوم حين أتذكره أراه محاطا بهالة من النور.