تنتقي ربيعة جلطي موضوعات رواياتها من قلب المجتمع الجزائري الغنيّ بإرثه الثقافي والشعبي والتاريخي. فبعد «الذروة» (2010) التي بشرّت فيها بثورات عربية قادمة، توجّه جلطي بوصلتها إلى مجتمع «الطوارق» البدوي الذي نجهل خفاياه في الوقت الذي ينجذب إليه الغرب لما يكتنز من عادات وطقوس تميّزه عن المجتمعات الصحراوية الأخرى. سطوة المرأة، تمجيدها، تحرّرها، الاحتفال بطلاقها... مجتمع الطوارق، بخصاله الغرائبية هذه، لم يتكشّف روائياً سوى في بضعة أعمال أشهرها «المجوس» للكاتب الليبي ابراهيم الكوني، التي اعتُبرت ملحمة روائية غاصت في أعماق الصحراء وفي عوالم شخوصها. مقابل «طوارق» الصحراء الليبية الذين خرج منهم ابراهيم الكوني، يبرز «طوارق» جنوبالجزائر الذين لقحّوا مخيّلة ربيعة جلطي ليولد عملها الروائي الثاني «نادي الصنوبر» (الدار العربية للعلوم - ناشرون ومنشورات الاختلاف). تتسلّل الصحراء بين صفحات الرواية ككائن مفعمٌ بالحياة. بل كامرأة طاغية الحضور والجاذبية. علماً أنّ الصحراء لا تُشكّل فضاء الرواية الفعلي. فالأحداث تدور في المدينة، تلك المدينة التي قصدتها «عذرا»، بحثاً عن شيء أو هروباً من شيء. تعيش عذرا في شقتها المقابلة للشقة التي أجّرتها لثلاث فتيات قصدن المدينة من أنحاء مختلفة من الجزائر لغايات مختلفة في أنفسهن. تقتحم ليلياً عالمهن لتُشاركهنّ سهرة الشاي أو «آتاي» (كما تلفظها). تسحبهن من سجونهن الداخلية لتستحضر معهن جغرافيتها الصحراوية التي توقظها الذاكرة ويُنمّيها الحنين: «إنها بيننا، تأسرنا بأحاديثها، وتعمل أن يظلّ انتباهنا مستيقظاً لسماعها، لكنها بعيدة جداً ونحن مجرّد كومبارس». تُعدّ جلسة الشاي طقساً يومياً تصرّ عليه عذرا لقدرته السحرية على نقلها من عالم ضيّق تعيش فيه، إلى عالم رحبٍ عاشته. عالم الصحراء الذي «يختلف في كلّ شيء عن هذه المدينة الباردة». تمدّ الحاجّة عذرا سهرات الشاي الطويلة بأخبار أهل الصحراء الذين لا يُشبهون بعاداتهم وطقوسهم أي مجتمع آخر، وخصوصاً في تبجيل المرأة. يتعدّد الرواة في هذا العمل، فيتناوب ثلاثة رواة في شدّ طرف السرد. «زوخا»، إحدى المستأجرات في شقة عذرا، «مسعود»، حارس الفيللاّ التي تملكها الحاجة عذرا في أرقى أحياء العاصمة «نادي الصنوبر»، والراوي الثالث «برّاني الحكاية» الذي يسوقنا إلى عوالم عذرا الداخلية ويعود بنا إلى ماضيها في مجتمعها الطارقي في الصحراء. إلاّ أنّ خطابات عذرا ومونولوغاتها تحضر بأسلوب مسرود أو مباشر، مما يُكرّس حضورها كمحرّك لهذه الرواية. واللافت أيضاً هو تكثيف استخدام «التردّد» Frequence عبر تقنية السرد الإفرادي Singulatif، بمعنى سرد أكثر من مرّة ما حدث كذا مرّة كوصف عادة عذرا في صبّ الشاي وتقديمه مثلاً. وهذه التقنية إن دلّت فهي تدلّ على تعلّق البطلة بجذورها وعاداتها «الطارقية» التي لم تخرج من قلبها ولا ذاكرتها. ربيعة جلطي لم تؤرّخ للصحراء الجزائرية بقبائلها وتحدياتها وعشقها وسكّانها وأساطيرها كما فعل ابراهيم الكوني مثلاً، بل فتحت نافذة واحدة على صحراء الجنوب. ولم تكن هذه النافذة سوى «المرأة» التي تجلّت كانعكاسٍ للصحراء بسحرها وغموضها وحرارتها. في صوت عذرا نسمع «حشرجات الرمال» وفي جمالها «توحّش» البيداء وفي «سمرتها النحاسية» لون التراب. الحاجة عذرا قد تكون الشخصية الأدبية الأكثر تعبيراً عن البيئة الطارقية التي تكشف فيها المرأة جمالها في الوقت الذي يتلثّم فيه الرجل. تفتخر عذرا بمجتمعها الذي تكاد المرأة أن تكون فيه «مُقدسة». مجتمعها «الأمومي» المُنتسب إلى الملكة «تينهينان»: «ولن أسمّى عذرا سليلة تينهينان إن أنا لم أفعل» (ص136). وتتباهى بفرديتها وحريتها «أنا التي أختار... أنا بنت الطوارق» (ص84)، وبلغتها التي تحنّ إليها ولا يحلو لها تلاوة أشعارها بغير لغة «تماشاق»: «حياتنا نحن الطوارق مرآة لاسمنا الأصلي العريق إيموهاغ، الإسم الذي مازال يُشبهنا ويدلّ علينا «الأحرار»... نعم كلمة الأحرار تدلّ علينا». ثمّ لا تلبث أن تعلن اعتزازها بأصولها وجذورها قائلة: «لست أدري لماذا أشعر بالتفوّق وأؤمن أنني من تربة أخرى مختلفة، معجونة بماء الحرية والحياة المنطلقة المفتوحة على السحر والأسرار والفرح». أمّا العاصمة فتظهر كصورة مشوهة عن الصحراء. إنها باردة، قاسية، متحجرّة. وعلى رغم تملّكها الكثير من البيوت فيها، إلاّ أنّ عذرا ظلّت تشعر بنفسها غريبة: «اللعنة على العواصم، مليئة بالغرباء مثلي... بل إنها تنعت المدينة ب «المقبرة المتحركة» التي يتململ فيها الناس وكأنهم موتى، بلا روح ولا فرح. وتبدو عذرا امرأة قادرة على كلّ شيء إلاّ على التآلف مع حياتها الجديدة فيها: «عذرا تنام وتصحو على الحنين» (ص95). بعد روايتها الأولى التي ارتأى بعض النقاد توصيفها بالسياسية، تُكمل ربيعة جلطي ثورتها في «كشف المستور» عن حكّام «الشعب العربي المقهور». فتُسمّي حاكم البلاد «الحاكم الأوحد» وتنتقد حياة المسؤولين وكبار القوم داخل «جنّة الصنوبر»، كما يُسمّيها مسعود: «لو أنني فقط أستطيع قلب كلّ شيء.. هؤلاء السفلة، أن أطلق عليهم قنبلة ذرية... كم أتمنى أن أصفيهم جميعاً. مللت من الكذب والنفاق... وكلّ سنة أفقد الثقة بهم وتشتدّ كراهيتي لهم وحقدي عليهم، تضحكني تصريحاتهم كل يوم في الجرائد والتلفزيون ووسائل الدعاية المختلفة الأخرى، يتبجحون في خدمة الشعب، واش من شعب... وعلاش هما يعرفوه»، يقول الحارس القديم رضوان (ص76). عذرا في «نادي الصنوبر» لا تختلف كثيراً عن أندلس، بطلة «الذروة». كلتاهما تتمتّع بفتنة وجمال آخاذٍ وقلب لا يحوي سوى الحبّ والصدق والطيبة. وكما أُغرم الحاكم والموظّف ب»أندلس»، كذلك ذاب كلّ من «الثريّ العربيّ» و «حارس الفيلاّ» بحبّ عذرا. هذه الأخيرة تنثر سحرها على الآخرين فتجعلهم أسرى لها... فبعدما شاهدها ترقص في حفلة طلاقها، وقع الثري العربي وصديق «الحاكم الأول» تحت تأثيرها. وبدل أن يصطاد حيوانات الصحراء التي قدم من بلاده لأجلها، اصطادته عذرا بسهام نظراتها الجريئة فعاد بها إلى وطنه بحيث لم تُطق العيش فيه، فرحلت عنه بعد خمس سنوات من الزواج. وبعدما انتشلّت الشاب الوسيم مسعود من البطالة، أغرقته في حبّها. ما دفعه إلى اختلاق قرين يؤنس وحدته. «كوكو»، القرين المُتخيّل، لا ينفكّ عن السخرية منه ومن هواه مُردّداً: «عذرة العذارى ومسعود يا خسارة». «نادي الصنوبر» رواية جديدة تنقلنا إلى عالم الصحراء من دون أن تستحضره. عالم يتجسّد بشخصية امرأة «طارقية» تجتمع فيها مختلف الثوابت لتكون بطلة أنثوية من نوع خاص. *تعليق الصورة: غلاف رواية نادي الصنوبر