على رغم اتفاق المعارضة الجزائرية على «عدم مشروعية» الانتخابات التشريعية الأخيرة، فإن حالة تدافع تميز توجهاتها في اتجاه رسم معالم الخريطة السياسية الجديدة. وتتخذ المعارضة أربعة مواقف مختلفة إزاء وضع سياسي جديد يبدو أن أحزاب السلطة تستأثر به لنفسها نحو ترتيبات الرئاسيات المقبلة. وتراهن السلطة على عامل الوقت ترقباً للحظة ينفض فيها «عزاء» الأحزاب الرافضة لنتائج التشريعيات التي منحت جبهة التحرير الوطني غالبية جديدة في مرحلة عصيبة من تاريخ البلاد، وهي تتجه نحو تعديلات دستورية تعطي هذا الطرف أو ذاك مفاتيح قصر «المرادية» مرفقة بشرعية جديدة تخلف الشرعية الثورية. ولئن مكنت النتائج جبهة التحرير الوطني من الحصول على غالبية المقاعد، إلى جانبه حليفها التقليدي التجمع الوطني الديموقراطي، فإنها في المقابل خلفت شتاتاً بين أحزاب المعارضة التي تدافعت فجأة في أربعة اتجاهات مختلفة في عملية تكرار لأخطاء الماضي، وهو وضع يريح السلطة رغم موجة التشكيك في نتائج التشريعيات بين اتهامات ب»التزوير» أو اعتماد «الكوتا» سلفاً في مجازاة كل حزب بناء على مواقفه. أحزاب السلطة قبلت «الهدية المسمومة» أعادت نتائج التشريعيات الأخيرة إنتاج الغالبية في المجلس الشعبي الوطني، بحصد جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني للديموقراطية «الغالبية الموصوفة» بأكثر من ثلثي المقاعد، في نتيجة ألغت التوقعات بأن البرلمان الجديد لن يتيح غالبية لأي حزب أو تيار سياسي أو تكتل حزبي، غير أن حزبي السلطة سارعا الى تثمين النتيجة باعتبارها «خياراً للجزائريين الذين هبوا للتضامن» وتغليب منطق «الاستمرارية». لكن من المعارضين من أعاب على جبهة التحرير الوطني «قبولها بالهدية المسمومة»، بل أن أحزاباً إسلامية تتصرف اعتماداً على هذا التحليل، فأعلنت حركة مجتمع السلم التي تتكتل في تجمع إسلامي سمي «الجزائر الخضراء» خروجها من الحكومة المقبلة «لتحديد المسؤوليات في التسيير». وتعتقد الحركة أن جبهة التحرير الوطني نالت الغالبية المطلقة «لتساق نحو فشل ذريع تترتب عليه حسابات الرئاسيات». بيد أن جبهة التحرير تجهر بنشوة نصر كبيرة وتبدي تجاهلاً لانتقادات كثيرة لنتائجها في التشريعيات، وهو موقف عززته تصريحات اثنين من قادة أحزاب المعارضة، انصرفا عن فكرة مقاطعة البرلمان وقبلا شغل المقاعد رغم اتهامهما للسلطة ب»فبكرة النتائج». والحزبان المعنيان هما جبهة القوى الاشتراكية، المعارض التقليدي، وحزب العمال الذي تقوده اليسارية لويزة حنون، وحصل الأول على 27 مقعداً والثاني على 24 مقعداً برلمانياً. ولا تبدو معركة الأمين العام لجبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم قد انتهت بحصول حزبه على الغالبية، فالرجل لا يزال محل اتهامات من «حركة تصحيح» داخلية يقودها مسؤولون حزبيون ونواب وأعضاء في اللجنة المركزية، بدعوى «تقويم الجبهة». وراهن بلخادم على نتائج الانتخابات لإسكات الخصوم، لكن تلك النتائج عجّلت في عودة وهج «التقويميين» بعودة وزير التكوين المهني الهادي خالدي الى واجهة المعارضين للأمين العام، ورافق هذا الظهور تحليلات هي أكبر من مجرد «هوشة داخلية» بين أجنحة متصارعة، فالبلاد أمامها أشهر لترتيب الرئاسيات (2014) في وجود إشارات كثيرة من الرئيس بوتفليقة الى أنه «زاهد» في ولاية رابعة. فمن هو مرشح الإجماع التالي؟ وهل تنهج السلطة السلوك نفسه عبر إيجاد خليفة لبوتفليقة قادر على مراعاة «التوازنات الوطنية»؟ وهل «الحرب» على بلخادم وجه لعملة تلك الحسابات في اتجاه معركة استقطاب يشكل فيها أحمد أويحي الوجه الثاني؟ أم أن الإثنين يشكلان «معركة مصطنعة» بينما السلطة منشغلة بالبحث عن مرشح إجماع في مكان آخر؟ ومن مصادفات الانتخابات الأخيرة أن أزمة داخلية تفجرت في صفوف التجمع الوطني الديموقراطي، ثاني «أحزاب السلطة»، إثر إطلاق حركة «تصحيحية» ضد أحمد أويحي، وفي المقابل يتعمق الصراع بين بلخادم وخصومه، وكلا الحركتين تستعير شكل مناورة «الانقلاب العلمي» منتصف التسعينات التي بدأت ب «سعال» في أعلى هرم السلطة قبل أن تنعكس أعراض المرض فوراً داخل حزبها السياسي. ومن الواضح في أسلوب «المعركة» داخل الحزبين، أن الأجنحة المتصارعة تستعير أسلوب «المؤامرة العلمية» التي أطاحت الراحل عبد الحميد مهري من على رأس جبهة التحرير منتصف التسعينات بعدما خيل للسلطة أن الرجل يقود جبهة التحرير الوطني إلى مستقر غير الذي رسم لها، وهو أسلوب تكررت أعراضه داخل أحزاب سياسية كثيرة تخبطت في أشكال متفرّقة من الخلافات التي تطورت إلى انقلابات هيكلية موروثة من المناورات والمساومات، وأغلبها على علاقة ب «مزاج» السلطة. ويقرأ متابعون هذا النوع من «الاحتجاجات» داخل أكبر الأحزاب على أنه صورة منعكسة لطبيعة الخلافات بين النخب الحاكمة حول رجل المرحلة المقبلة. يمكن لبلخادم وأويحي أن يستمرا في قيادة حزبيهما، كما يمكن أن تطيحهما الحركتان معاً، وحتى إن نجح بلخادم في إزاحة خصومه منتصف حزيران (يونيو) المقبل، سيجد نفسه في معركة ثانية باتجاه تعديل الدستور، والأمر هذه المرة يسير نحو تعديلات جوهرية، قد تؤسس لمنصب نائب الرئيس للمرة الأولى في تاريخ البلاد، في حين تبدو معركة تثبيت «النظام الرئاسي» أو «نصف الرئاسي» قد حُسمت. ويبدو أن أويحي خسر جولة أولى، بوجود احتمال كبير للتخلي عنه كوزير أول في الحكومة، سواء في الأيام المقبلة، أو بعد الانتخابات المحلية التي ستجرى في الخريف. المعارضة تتشتت أمام «الغنائم» تجدر الإشارة إلى أن الأحزاب المعارضة سارت بعد الانتخابات في أربعة اتجاهات، بل يبدو كأنها ستخوض معركة في ما بينها، و حتى إلى خلافات داخلية في صفوف كل حزب على حدة. وتفصيلاً، اختار «تكتل الجزائر الخضراء» الذي يضم ثلاثة أحزاب إسلامية، هي حركة مجتمع السلم، النهضة والإصلاح الوطني، المشاركة في البرلمان رغم طعنه في النتائج. بيد أن حركة مجتمع السلم، الضلع الأهم في التكتل، فضلت مقاطعة الحكومة ودعا بوتفليقة لإعفاء الوزراء الأربعة من حقائب في الحكومة المقبلة. ويلاقي هذا الخيار رفضاً قاطعاً من تيار محسوب على الوزراء يقوده عمار غول وزير الأشغال العمومية، المرشح لأن ينشق عن صفوف حزبه. وقد وقف غول موقف المتفرج من نواب حزبه في افتتاح الدورة البرلمانية، عندما رفعوا شعار «لا للتزوير» أثناء مناداة الأعضاء الجدد. ويتوقع أعضاء في الحزب أن ينهج غول سلوك وزيرة الثقافة خليدة تومي قبل عشر سنوات عندما قرر رئيس حزبها السابق، سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية الخروج من حكومة «ائتلافية» ألفها بوتفليقة في الأشهر الأولى من حكمه. ويشعر المدافعون في حركة مجتمع السلم عن قرار الخروج من الحكومة، وأبرزهم نائب رئيس الحركة عبد الرزاق مقري، ب «خديعة» من السلطة في الانتخابات الماضية، واتهم رئيس الحركة أبو جرة سلطاني «الإدارة بتزوير فاضح للتشريعيات ووأد إصلاحات بوتفليقة في المهد». ويعتبر قرار مقاطعة الحكومة نهاية مسار شرعت فيه الحركة منذ نهاية العام الماضي عندما كشفت ميلها الى المعارضة أكثر من التخندق في صف السلطة، وفي كانون الأول (ديسمبر) طلقت التحالف الرئاسي الذي شاركت فيه منذ 2004، والذي جمعها بكل من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديموقراطي. وروج أبو جرة سلطاني حينها أن مساعيه إلى إقامة شراكة وليس مجرد تحالف لم تجد آذاناً صاغية من شريكيه، وأدت انتقاداته المتتالية للتحالف واقتراب خطابه من خطاب المعارضة، إلى خلافات بينه وبين الوزير الأول أحمد أويحي، أحد شركاء التحالف. لكن «فك الارتباط» مع التحالف الرئاسي لم يرافقه قرار طلاق مع الحكومة، وأبقت حركة مجتمع السلم وزراءها ما جلب لها انتقادات كبيرة تتهمها بوضع «رجل في الحكم ورجل في المعارضة»، فردّت أن قرار البقاء في الحكومة يُراد منه «ألا يفهم الرئيس بوتفليقة أنه مستهدف». ومعلوم أن حركة مجتمع السلم دخلت الحكومة بوزيرين كأول تجربة لدخول الإسلاميين الجزائريين إلى الجهاز التنفيذي، العام 1996 في فترة حكم الرئيس الأسبق ليامين زروال، وعقب الانتخابات التشريعية التي فاز بها التجمع الوطني الديموقراطي بعد سنة، رفعت الرئاسة عدد وزراء الحركة إلى سبعة. وتهاجم تيارات إسلامية منذ ذلك التاريخ خيارات حركة مجتمع السلم التي تعايشت مع تيارات علمانية في الحكومة وخارجها. وتعتقد الحركة التي تعرف ب «حمس» أنها «قلصت أخطار المرحلة الانتقالية» بعد تجربة أليمة من العنف تنسب السلطة مسبباتها الى الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلّة. ويدفع خروج الحركة من الحكومة الرئيس الجزائري للبحث في خيارات أخرى على مستوى الجهاز التنفيذي، علماً أنه عمل منذ توليه سدة الحكم على إشراك الإسلاميين سواء في الحكومة أو في مناصب سياسية وديبلوماسية. والمرجّح أن يبحث بوتفليقة عن «وجوه إسلامية» أو «محافظة» تكمل حلقة الديموقراطيين والوطنيين كسياسة اتبعها للخروج من عنق «المرحلة الانتقالية». ويقف حزب العمال وجبهة القوى الاشتراكية موقفاً مخالفاً لموقف الفريق الأول، وكلاهما يطعن في النتائج لكنهما قررا المشاركة في البرلمان، بينما تشكل مجموعة أحزاب (عددها 14) موقفاً ثالثاً بتوجهها الى إنشاء برلمان شعبي في تاريخ تنصيب البرلمان الجديد. ويشارك في المبادرة التي سميت «الجبهة السياسية لحماية الديموقراطية»، كل من جبهة العدالة والتنمية وجبهة الجزائرالجديدة وحركة الوفاق الوطني وحزب الحرية والعدالة وحزب الفجر الجديد والجبهة الوطنية الديموقراطية والجبهة الوطنية الجزائرية و حركة الانفتاح وجبهة التغيير وحزب العدل والبيان وحركة الشبيبة والديموقراطية والحركة الوطنية للطبيعة والنمو وحركة الوطنيين الأحرار وجبهة الحكم الراشد. وجاء في مبادرة الأحزاب الغاضبة «رفض الاعتراف بالبرلمان ورفض التعاطي مع السلطة بعد اختلالها بالتزاماتها»، و»الدعوة إلى تنصيب هيئة تأسيسية توافقية وطنية تسهر على إعداد دستور جديد»، و«تنصيبب حكومة وحدة وطنية لتسيير المرحلة الانتقالية إلى نظام ديموقراطي صحيح»، و«تنصيب برلمان شعبي ولجان تحقيق لفضح التجاوزات». لكن طبع التفكك سبق التطبع بالوحدة بين أحزاب المعارضة، وجاءت البداية من نواب الجبهة الوطنية الجزائرية التي حازت تسعة مقاعد برلمانية، بإعلانهم رفض الالتزام بما دعا إليه رئيس الحزب موسى تواتي. وجاء في بيان وقّعه النواب التسعة: «نعلن أن كل التصرفات والتصريحات التي يقوم بها رئيس الحزب لا تلزمنا فبشيء». ومعروف أن تواتي انضم إلى الأحزاب التي أعلنت مقاطعتها جلسات البرلمان، وأسست ما بات يعرف ب «الجبهة السياسية لحماية الديموقراطية». وقال النواب المنشقون إن كتلة الجبهة الوطنية الجزائرية «ستكون حاضرة في المجلس الشعبي الوطني كقوة معارضة للدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية المشروعة للمواطن الجزائري، وفاء لكل من صوّت على قوائم الجبهة الوطنية الجزائرية». وجدير بالذكر أن من بين قوى المعارضة، أحزاباً حديثة النشأة أُسست قبل الانتخابات بموجب قانون الأحزاب الجديد، وأعلنت قبولها نتائج الانتخابات والمشاركة في البرلمان بلا أدنى تحفظ، ومعظمها لم يحصل إلا على مقعد واحد أو مقعدين على أقصى تقدير.