إذا سارت الأمور، كما هو مؤمل، فإن المغرب سيعيش خلال الأشهر المقبلة لحظات سياسية بالغة الكثافة والدقة، بعد أن تفرز الانتخابات التشريعية أول رئيس حكومة في ظل العهد الدستوري الجديد، من سينيط به جلالة الملك، إجراء مشاورات موسعة مع الأطياف الحزبية التي ستنال ثقة الناخبين، تنتهي بتأليف وإعلان الفريق الحكومي ثم المصادقة عليه وفقا للآليات المنصوص عليها في دستور المملكة. وحري بالمغاربة وبالطبقة السياسية، في هذا السياق الخاص، استعادة التجارب القليلة السابقة في مجال الحراك ما قبل الحكومي، للبناء عليها والاستفادة من إيجابيتها وتجنب عثراتها وسلبياتها. ولعل الماثل أمامنا والأقرب زمنيا، تجربة قيام حكومة التناوب التي نجح في تشكيلها في مارس 1998 الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، بعد ما طال انتظارها كثيرا من قبل الرأي العام المغربي، المتلهف في تلك الأيام المشحونة، لصعود الدخان الأبيض، علامة الانفراج، لدرجة أن الشك ساور الكثيرين بعد أن جاوزت مشاورات اليوسفي مدى السقف المعقول بأكثر من شهر، قضاها الاشتراكي المخضرم، متنقلا مفاوضا، بين الدارالبيضاء والرباط، زائرا زعماء الأحزاب السياسية في بيوتهم ومقرات أحزابهم، محيطا ما جرى في جلساته معهم بما يلزم من السرية والحيطة، في مجتمع لا يلتزم بهما دائما. طبق "السي عبد الرحمن" مبدأ "التكتم" حتى على أعضاء حزبه وقياداته، رافضا الإفصاح عن مخططاته ونتائج مشاوراته، معاملا "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية " كأي طرف حزبي، ما جعله يلزم الراغبين في الاستوزار، التقدم بطلباتهم، مرفقة بنبذة حياتهم كباقي المرشحين من الأحزاب الأخرى التي خاطبها الوزير الأول المعين، بشأن المشاركة كانت تلك خطوة اليوسفي التأسيسية في رحلة البحث عن وزراء لحكومة مقبولة، مستجيبة لانتظارات الشعب الكبرى، غير مقلقة للملك. أما الخطوة التاريخية التي تزامنت معها، فدلت هي الأخرى وفي حينها، على أكثر من مغزى ومعنى سياسي وأخلاقي، وضعت اليوسفي ضمن خانة رجالات الدولة الكبار، المترفعين عن "صغائر" السياسة وما تتركه خلافاتها ومشاحناتها في النفوس من أحقاد وضغائن. وباعتباره اشتراكيا، أقام طويلا في فرنسا، سلك اليوسفي، نهجا مماثلا للذي سار عليه قبله الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران،على إثر انتصار الاشتراكيين التاريخي، في مايو عام 1981 . حمل القائد الاشتراكي الفرنسي،باقة ورد،وقصد منزل رئيس الوزراء الأسبق "بيير مانديس فرانس" وكان مريضا تقدم به العمر، ليقول له جملة معبرة "لولاك لما حققنا ما وصلنا إليه". كانت اللحظة امتنانا ووفاء إنسانيا لأحد زعماء فرنسا الذين أسهموا في تحرير بلادهم من ورطة وعار "الاستعمار" واثبتوا أنه يمكن الجمع في السياسة والحكم بين مثل اليسار وقيمه ومستلزمات الديمقراطية التعددية. لم يخطر ببال أحد في المغرب، أن يكون المرحوم عبد الله إبراهيم، أول من سيطرق اليوسفي بابه، ليردد أمامه عبارة الشكر والامتنان الشبيهة معنى ومبنى بتلك التي رددها "ميتران" أمام رفيقه في حكومات الجمهورية الرابعة. سلوك ليس بمستغرب، من اليوسفي، القويم أخلاقا، النظيف اليد، العفيف اللسان، ولكنه بذات الوقت "المايسترو" الذي عرف أين يضع قدميه في طريق منعرج،مدركا أن الملك الحسن الثاني، بدهائه وتوجسه، لا تغيب عيناه عن حركاته. لا أظنه استأذن الملك الراحل في مبادرة زيارة مولاي عبد الله إبراهيم، لقناعته أن الحسن الثاني لن يعترض عليها، بل ربما رأى فيها ما يستحق التباهي أمام الاشتراكيين الفرنسيين، ولو أن صورتي، مولاي عبد الله، ومنديس فرانس، لا تحظيان بأهمية متساوية في ذهن عاهلنا الراحل. هناك إجماع بين السياسيين المغاربة من عايشوا المرحلة، على أن الملك الحسن الثاني،هو الذي أنهى تجربة، لتقديرات تخصه، حكومة اليسار الأولى في المغرب. تلك مسألة خلافية يعود البت فيها إلى المؤرخين لإضاءة مقاصد اليوسفي، ينبغي استحضار مبادرات رمزية أخرى، رافقت عملية صناعة حكومة التناوب. نذكر أنه اعتذر بلباقة عن التمتع بامتيازات الوزير الأول المادية والمعنوية، منذ تسميته من طرف الملك، بما فيها توفير الحراسة الأمنية والسيارة الفاخرة المأمونة الجديرة بالمنصب . استمر متنقلا في سيارة "بوجو" السوداء التي وضعتها إدارة جريدته "الاتحاد الاشتراكي" رهن إشارته، محتفظا بنفس سائقه غير المتعود على البذل الأنيقة والذي وجد نفسه مضطرا لاستعمال ربطة العنق على غرار سائقي رجالات الدولة. وكان هذا "التحول" من السائق السوسي الوفي، مثار تعاليق ودية على ربطة عنقه من طرف اليوسفي نفسه. في نفس السياق، أدخل اليوسفي تقليدا جديدا إلى الوزارة الأولى، تمثل في الاعتراف بجهود من سبقوه في المنصب، من حافظوا، كل بطريقته،على استمرار الدولة المغربية وخدمتها. أقام حفلا طافحا بالود والإنسانية والعرفان على شرف الوزراء الأولين السابقين الذين لبوا دعوته ، دعا له أيضا أبناء الذين رحلوا عن هذه الدنيا و جرى أثناءه تعليق صور جميع الذين حملوا نفس اللقب، بمن فيهم الذين خاصمهم وحاربهم اليوسفي وحزبه، وبينهم من ساهم في إلحاق الأذى والضرر السياسي به. ابحثوا الآن في موقع الوزارة الأولى الالكتروني، عن آثار اليوسفي وغيره؟ نستحضر أيضا، انفتاح اليوسفي منذ لحظة تعيينه على كافة المنابر الإعلامية الموجودة. خصها بأحاديث صحافية، متخليا عن صفته الحزبية، وفيا للأمانة التي أودعه إياها ملك البلاد، ملوحا بالاستعداد للاعتذار، بكل أدب، إذا ما فشل، متحملا التضحيات والتنازلات التي تتطلبها مرحلة إبعاد البلاد عن خطر السكتة القلبية. يروي من حضر استقبال اليوسفي لعقيلة الرئيس الأميركي السابق "بيل كلينتون" خلال زيارتها لبلادنا، أنها أشادت بما حققته حكومة التناوب من إنجازات لمستها خلال تجوالها بربوع المملكة. وحين جاء دور اليوسفي في الكلام للترحيب والشرح، خاطبها بما أدهشها سماعه، خاصة وأنه صادر عن ن سياسي يساري. قال لها ما معناه "إن ما شاهدته السيدة الأميركية الأولى، من مشاريع ومنجزات، إنما يعود الفضل فيها إلى الحكومات السابقة". ويحكى، إن الملك الحسن الثاني، لما وصله تقرير مفصل عن ما دار بين "هيلاري وعبد الرحمن" سأل: هل صحيح أنه قال هذا الكلام ؟ وبعد أن تأكد علق الملك "هذا رجل شهم وذو أخلاق عالية" وللأسف، فإن ما زرعه اليوسفي، من بذور تقاليد في دواليب رئاسة الحكومة، وما حاول استنباته في حقل السياسة المغربية، جرى إهماله أوالتخلي عنه بقصد أو بدونه، ليعود المغرب بعد الإخلال بعقد "المنهجية الديمقراطية " إلى نفس الممارسات القديمة التي طبعت المشاورات. ينسى كثيرون أن الذاكرة السياسية للأمم، تتأثث وتتكون من مجموع التصرفات والمواقف الصغيرة والكبيرة للفاعلين، النافعة للوطن، ولذلك فإن الأمم تعمل باستمرار على تنمية رصيدها منها ليتحول إلى درس وموعظة وتراث وقانون سير. أي مشهد يمكن توقعه، والبلاد على عتبة المشاورات السياسية بعد الانتخابات؟ هل سيتجشم رئيس الحكومة المقبل، إذا كان من اليسار،عناء البحث عن عنوان "اليوسفي" بين عمارات الدارالبيضاء، ليخاطبه بمثل ما خاطب به المرحوم عبد الله إبراهيم؟ قد يواجه المغرب إشكالا سياسيا إذا آلت رئاسة الحكومة إلى اسم محسوب على اليمين. لن يعرف رئيس الحكومة المقبل من هذا اللون من يحظى بالإجماع ليعتبر بمثابة رمز تاريخي لليمين السياسي في المغرب حتى يتوجب شكره؟. بلادنا على موعد مع فرجة سياسية كبيرة ، نتمنى أن تكون فصولها ممتعة ومشوقة، خالية من العناصر الدرامية المملة. وفي جميع الأحوال، فما أحوجنا إلى رجال من مستوى وطنية وأخلاق وشهامة اليوسفي، يعترفون ويمتنون لمن سبقهم.