يطلق المغاربة على الانتفاضة الكبرى التي تولدت عن عزل الملك الراحل "محمد الخامس" ونفيه عبارة "ثورة الملك والشعب"، التي التحم فيها السلطان المقاوم مع الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، فتحقق الاستقلال ووضعت قواعد جديدة لتحديث المجال السياسي المغربي من خلال مسار توافقي واسع عزز مكان الملكية وسمح بانبثاق حياة سياسية تعددية نشطة (على الرغم من لحظات التأزم والتوتر التي عرفتها البلاد لاحقاً). يمكن القول دون مماحكة إن الدستور الجديد الذي أعلن عنه "محمد السادس" يوم 17 يونيو 2011 لا يقل أهمية في تاريخ المغرب السياسي الحديث عن ثورة الملك والشعب، التي أدخلت المغرب للحداثة، وجددت فيه مسالك تدبير الحكم. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الدستور يعكس خصوصيات النموذج المغربي في ثوابته وتحولاته، ولا يمكن أن يصلح إطاراً شاملاً للتعامل مع الأوضاع السياسية العربية في عموميتها. فالتجربة السياسية المغربية اتسمت ببعض المميزات والخصوصيات منذ قيام الدولة الإدريسية (في نهاية القرن السابع الميلادي)، التي كرست استقلالية الحالة السياسية المغربية إزاء المركز الإسلامي (الانفصال عن الإمبراطورية العباسية). وظلت هذه الاستقلالية قائمة مع السلالات المتتالية التي حكمت المغرب من عصر المرابطين والموحدين إلى الدولة العلوية الحالية التي تأسست في منتصف القرن السابع عشر. ولا شك أن هذا التميز طبع الشخصية الوطنية المغربية، وترك أثره المكين على التقليد السياسي الذي اتسم بسمتين أساسيتين توقف عندهما المؤرخون وفي مقدمتهم المفكر المعروف "عبد الله العروي"(في كتابه حول أصول الوطنية المغربية): - مأسسة نظام البيعة المشروطة التي أخذت في بعض السياقات شكل الدولة التعاقدية بين الأمير والنخب المدينية العالمة(الفقهاء) والقيادات المحلية (الزعامات القبلية والصوفية). - نظام "المخزن" كشكل من أشكال الحكم جامع بين الرمزية الدينية وسلطة التفويض المرنة والمؤسسة الحربية المحترفة (جيش ونظام وشرف وشرع وقيادة حسب تحديد العروي). ولقد تركز الحوار السياسي في المغرب منذ استقلاله حول إمكانات ورهانات تحديث النسق السياسي في اتجاه مطالب الإصلاح الديمقراطي، التي ظهرت منذ مطلع القرن العشرين وبلغت مداها بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى وتشكل الحكومات الائتلافية الأولى التي ترأستها وشاركت فيها زعامات الحركة الوطنية. تأسس العقد الضمني بين الملك محمد الخامس والحركة الوطنية على مرتكزين هما:التمسك بالشرعية الملكية والالتحام حولها لتحقيق هدف الاستقلال الوطني وإنهاء نظام الحماية، وإصدار دستور يكفل الحريات العامة وحقوق التنظيم السياسي. ولم يصدر الدستور المغربي الأول إلا عام 1962، في عهد الملك الحسن الثاني. ومع أن الدستور المذكور أقر التعددية السياسية ومبدأ التمثيل البرلماني ومنح الحريات العامة الأساسية، إلا أنه اتسم بالازدواجية في المرجعية التأسيسية بين النسق السلطاني التقليدي والنسق الليبرالي الحديث. ولقد انجر عن الائتلاف الموضوعي بين التيار الراديكالي من الحركة الوطنية (في مقابل خط التوافق التاريخي الذي تبنته بعض زعامات المعارضة الاستقلالية والاتحادية) والقوى المحافظة الموروثة عن نظام الحماية (التي يمثلها وزير الداخلية الأسبق الجنرال "أوفقير" وخلفه من بعد إدريس البصري)، إلى إعاقة مسار الإصلاح السياسي في المغرب، الذي تأخر حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي. وهكذا عرف المغرب منعرج تحول عميق ومتسارع منذ ما اصطلح عليه تجربة التناوب الديمقراطي التي أوصلت الزعيم الاشتراكي "عبد الرحمن اليوسفي" إلى رئاسة الحكومة عام 1998، وما تلاها في بدايات عهد محمد السادس من تصفية توافقية جريئة لأرث المراحل الاستثنائية السابقة، مما مهد لعملية إصلاح سياسي جذري يشكل الدستور الجديد محطة اكتمالها. وإذا كان المغرب عرف عدة إصلاحات دستورية من قبل، إلا أنها ظلت تعديلات جزئية على المصدر الأصلي، في حين يمكن القول إن المشروع الحالي يعد في شكله ومضمونه نصاً مرجعياً جديداً بكل المقاييس. ويمكن أن نجمل في ملاحظات خمس خصوصيات الدستور الجديد: أولاً: تجذير المرجعية الشرعية والرمزية للحكم في مقوماتها الدينية التي تعبر عنها مأسسة إمارة المؤمنين التي أصبحت في النص الجديد نسقاً مكتمل البناء المؤسسي: اختصاص الملك بتسيير الحقل الديني من خلال التعيين المباشر لوزير الأوقاف والإشراف على مجالس العلم والإفتاء وتمثيل العلماء في المؤسسات الدستورية الكبرى. ثانيا:التعبير عن الشخصية المغربية المركبة في تنوعها اللغوي والثقافي والاجتماعي، بالنص على الهوية الإسلامية للدولة وعلى الانتماء للمجال المغاربي، وبإقرار مبدأ ترسيم اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية، مع الإشارة إلى الأبعاد الأفريقية والمتوسطية للمغرب وإلى ثراء روافده الثقافية. ثالثا: الفصل الواضح والمقنن بين السُلُطات التشريعية (اختصاص البرلمان بغرفتيه بأهلية إصدار القوانين) والتنفيذية (تحويل الوزير الأول إلى رئيس للحكومة يدير مختلف أجهزة ودوائر الإدارة المدنية)، والقضائية، مع احتفاظ الملك بدور رئيس الدولة والحَكَم الضروري بين السُلُطات والمؤسسات وبالقيادة العليا للقوات المسلحة ورئاسة المجلس الوزاري (المختلف عن مجلس الحكومة) ومجلس الأمن الوطني. رابعاً :تعزيز نهج الجهوية اللامركزية التي تسمح بتمثيل الأقاليم المغربية في تنوعها وخصوصياتها البشرية والثقافية والتنموية وتوطد مسلك الديمقراطية التشاركية التعاقدية المكملة للديمقراطية النيابية. خامساً: منح وضع دستوري قوي للمجالس المستقلة المتعددة المناحي والتخصصات (المجال السمعي البصري، والاقتصادي الاجتماعي البيئي، والصفقات العمومية، والشباب والمرأة).ويتعلق الأمر هنا بالجيل الثاني من المؤسسات الديمقراطية التي تسد ثغرات الهياكل المنتخبة وتكرس حق النفاذ الحر إلى حقول المنافع العمومية. يشكل الدستور المغربي الجديد إذن نقطة تحول كبرى في مسار المغرب السياسي، من حيث الإصلاحات النوعية التي تضمنها، ومن حيث الإجماع الواسع الذي حصل عليه داخل الطيف السياسي المتعدد والمتنوع إيديولوجيا وفكرياً (من حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى أحزاب اليسار الاشتراكي). لا يتعلق الأمر هنا بمجرد تحويرات قانونية مؤسسية، وإنما بتغيير كامل في مسلك الحكامة والتدبير السياسي.