الحالة الليبية التي نشأت بعد أحداث 17شباط / فبراير حالة بالغة التعقيد، تداخلت فيها تراكمات عديدة ومستجدات كثيرة ،و أفرزت قوى مختلفة بتوجهات متباينة،و لم تظهر على السطح قوة واحدة للبناء و للتصحيح ، تعادل تلك القوى التي تضافرت لإسقاط معمر القذافي ، والتي لم يكن بين كثير منها، قواسم مشتركة ،بل كانت تتباين في قضايا رئيسة. فحين اندلعت الثورة في 17 شباط / فبراير ، كان ضمن أركانها الأساسية أطراف لم تلتق يوما ،بل كانت على نزاع مستمر، و تخوين متبادل و تكفير و إقصاء و ملاحقات و مطاردات. هذه الأطراف اجتمعت على غرار اجتماع الدول الكبرى و بعض من يدور في فلكها من الدوائر الإقليمية ،على الرغم من اختلاف مصالح أولئك الكبار، لكنهم – لحاجة في أنفسهم- ووفق رؤى و غايات بالطبع ،كانت غائبة عن رجل الشارع البسيط الذي خرج في شوارع بنغازي و في أزقة البيضاء و في بطون الجبل الغربي و ميادين مصراتة.و ساحات طرابلس. *عدو مشترك الاتفاق على هدف واحد استطاع أن يجمّع الفرقاء الألداء ،على الرغم من عمق الخلافات و الاتجاهات. فكان الإسلاميون جنباً إلى جنب مع الليبراليين و كان خريجو السجون و المحكوم عليهم في قضايا جنائية ،يتصدرون المشهد إلى جانب المعلمين و الأطباء و المهندسين و المحامين و الطلاب. كانت عناصر تنظيم القاعدة يحاربون كتفاً بكتف مع أفراد الجيش الليبي ،كانت صفة ‘مسلح' هي الصفة التي تؤهل صاحبها ليكون ضمن المشهد. العفويون الذين خرجوا يدفعهم الصدق و الرغبة في التغيير و التأثر أيضاً بحالتي تونس و مصر، كانوا يشكلون الجبهة الأكبر و الإسلاميون ‘الجماعة الليبية المقاتلة و عناصر القاعدة و الجهاديين و الإخوان، كانوا يمثلون الجبهة الأقل ،لكنهم كانوا الأكثر تنظيماً و الأكثر فعالية و الأكثر ضراوةً في المواجهات العسكرية. لم تكن ثمة بوابات تفتيش و فحص في مداخل المدن التي تشتعل فيها المعارك ،لا أحد يسألك عن أي شيء .المهم أن تمتلك سلاحا أو تمتلك الرغبة في خوض المعارك. بعض الناس تحركوا بسياراتهم الخاصة للجبهات .لم يكن ثمة فرز أو غربلة أو انتقاء. تدافع الناس بشكل كبير ، منهم من كان في اللجان الثورية و منهم من كان في أجهزة الأمن ، لم يكن ثمة قانون يستطيع أن يمنع أحداً أو يقصي أحدا .كان غالبية المقاتلين و منهم من لم يحمل سلاحا يوماً ،من شريحة الشباب مدفوعين في ذلك بخطابات دينية محفزة لم تتوقف لحظة في ساحات التحرير ، و من فوق كل المنابر تحض الجميع على ‘الجهاد' و إسقاط نظام القذافي و مواجهة كتائبه و نيل الشهادة. *اجندات مخفية أعضاء التنظيمات الإسلامية الجهادية ، كانوا يقاتلون تحت إمرة ضباط الجيش أو على الأقل إلى جوارهم وربما يحمون ظهورهم و هم يحمونهم .و يبدو أنه في ذلك الوقت كانت الأجندات الحقيقية مخفية أو مؤجلة حتى حين . العفويون وحدهم هم من كانوا يتدافعون دون أجندة سوى الرغبة في المشاركة في ثورة بلادهم ،أسوةً بما حدث في مصر و تونس.و لم يكن أحد من أصحاب الأجندات على اختلافها ، معنياً بأمر توجهاتهم أو قناعاتهم أو تصنيفاتهم ، كانت صفة ثائر تمنح لكل من يحمل السلاح دون النظر إلى هويته أو سابق عمله أو انتمائه. الحالة الليبية في كثير من مراحلها هي استثناء مما حدث في عديد ما عرف بدول الربيع العربي. ففي ليبيا كان الهجوم ضارياً من البداية على مكونات الجيش و الشرطة و معسكراتهم . وكان ثمة من يدفع الناس للمواجهة العسكرية مع قوات النظام أمام تلك الوحدات المدججة بالسلاح الثقيل ، حتى يسقط أكبر عدد من الضحايا ، و بالتالي تشتعل المدن ، وهذا تماماً ما حدث كان هناك خطاب ديني متأجج يدفع الشباب و يحفزهم للهجوم على المقرات العسكرية ،و كان يترتب على كل هجوم عدد متزايد من الضحايا مما يساعد على اشتعال الشارع طلباً للثأر لأبنائهم. *ظهور العناصر الجهادية حتى هذه الأشهر الأولى من عام 2011 لم يكن ثمة بروز لتيار بعينه دون غيره . و إن كانت وسائل الإعلام التابعة للنظام في ذلك الوقت ،تشير إلى وجود عناصر جهادية و عناصر من تنظيم القاعدة في جبهة الشرق الليبية. إلا أن رئيس و أعضاء المجلس الانتقالي في ذلك الوقت ،كانوا يسارعون و ينكرون ذلك ، ليعود قبل أيام قليلة و في عام 2014 ليعترف صراحة دون مواربة و في اجتماع رسمي السيد المستشار مصطفى عبد الجليل، بأن من يقوم بعمليات الاغتيال في ليبيا هم من التيار الإسلامي المتشدد و أنهم هم من قاموا باختطاف و اغتيال رئيس أركان جيش الثوار و أحد أركان نظام القذافي اللواء عبد الفتاح يونس. في الأشهر الأولى للثورة ، لم يجرؤ أحد على الاعتراف بذلك، ماعدا ما صرّح به في إحدى وسائل الإعلام الأمريكية مسؤول ملف الخارجية في المجلس الوطني الانتقالي آنذاك د.فتحي البعجة حيث أشار لوجود جماعات دينية متشددة في جبهات القتال ضد القذافي. لم يكن الشارع الليبي في بدايات الأحداث معنياً بهذه التفاصيل تفاصيل ‘المقاتلين' وانتماءاتهم ، كان الشعور الجمعي أن الجميع ثائرون و صادقون في ثورتهم ضد القذافي . و أن الجميع سيشارك في بناء ليبيا الجديدة بعد سقوط النظام، و ستنتقل ليبيا إلى مرحلة التطور السريع و الرفاهية و المرتبات العالية و حل المشاكل المستعصية. اختطاف اللواء يونس واغتياله كان الظهور الدموي الأول للجماعات الدينية المتطرفة في 28 تموز /يوليو 2007 ،هو اختطاف اللواء عبد الفتاح يونس رئيس أركان جيش الثوار و المنشق عن القذافي منذ الأيام الأولى لم يكن مجرد اختطاف لقائد عسكري و مساعديه من جبهة القتال بل قتله فيما بعد و التمثيل بجثته . تلك كانت الفاصلة و ذلك كان الإعلان المباشر من تلك الجماعات عن نياتها الحقيقية ، و استهدافها لرمز عسكري بهذه المكانة كان بمثابة إعلان عن رفضهم لوجود الجيش الليبي و إعلان الحرب عليه. قامت النيابة العامة حينذاك، بتوجيه الاتهامات لمجموعة من الأشخاص ينتمون إلى تلك الجماعات المتشددة و صدرت ضدهم أوامر بالقبض ، لكن أحداً لم يجرؤ على تنفيذ ذلك الأمر. وضعت الحرب أوزارها و قضي على النظام بمقتل معمر القذافي بمساعدة الحظر الجوي الذي نفذته قوى التحالف الدولي،بطلب و بمباركة جامعة الدول العربية التي خرج رئيسها فيما بعد عمرو موسى ليستهجن ما يقوم به الحلف من عمليات في ليبيا ، واصفاً ذلك بأن تجاوز لقرار الحظر الذي طالبت الجامعة. *اختراقات اقليمية تلاشى شخوص و رموز القوى الضاربة في ليبيا المتجسدة في معمر القذافي و نظامه وكتائبه و أجهزته ذات القبضة الحديدية، و في غفلة من العفويين وهم غالبية من أشعل فتيل الثورة و كانوا وقودها ، ظهرت قوى كل منها يرى أنه الوريث الشرعي و الجدير بحكم ليبيا.القوى السياسية الناشئة في ليبيا ، كانت كيانات هشة لا حول لها و لا قوة و الأدهى أن اخترقت من قبل أطراف إقليمية ، خاصةً دولة قطر التي بدأ الحديث مبكراً يعلو عن أدوار مشبوهة تقوم بها داخل ليبيا ، من خلال أطراف تمكنت من كسب ولاءاتهم بشتى الطرق ،خاصةً من الأطراف ذات التوجه الإسلامي ، وهذا ما سيمضي معنا حتى اليوم ، حيث يرى مراقبون أن هناك جماعات مسلحة تتواصل بشكل مباشر مع دولة قطر و تقوم الأخيرة بتزويدهم بالسلاح المتطور الذي لا تمتلكه وحدات الجيش الليبي نفسها. و يسردون مثالاً على ذلك ‘قاعدة معيتيقة' في طرابلس .و يوردون شخصية إسلامية بارزة هو الشيخ علي الصلابي عضو الجماعة الليبية المقاتلة سابقاً كممثل شرعي لدولة قطر و لمصالحها و للإخوان المسلمين تحديداً في ليبيا. *تنظيم انصار الشريعة لم يكن أهالي مدينة بنغازي ينظرون في بادئ الأمر بأعين الربية لتنظيم مثلاً ، مثل تنظيم أنصار الشريعة،بل العكس كانوا يقدرون عناصره ويشهدون لهم بالخلق القويم و السلوك الحسن .بل كانوا يتوعدون الخارجين عن القانون بتبيلغ أنصار الشريعة لإيقاع العقوبة بهم و بالفعل كانوا يفعلون.كسبوا ود الناس بإنشاء عيادات تعالج السحر و المس و الحسد والحجامة بالمجان .كانوا يقومون بحملات خيرية ويوزعون الأضاحي على الفقراء في عيد الأضحى و يشاركون في حملات النظافة . و شهد الناس لهم بالكفاءة و حسن الإدارة حين أسندت لهم الدولة حماية مستشفى الجلاء. وحين غادروها توسل إليهم الناس أن يعودوا . تغيرت الحال و تغيرت نظرة كثير من الناس لأنصار الشريعة و منهم من ذهب لاتهامهم بعمليات اغتيال عناصر الشرطة والجيش. تراجعت القوى المدنية في ليبيا ممثلة في مؤسسات المجتمع المدني ، وهي مؤسسان حديثة النشأة إذ لم يكن لها وجود في النظام السابق تراجع دورها و اتهم بعضها بالتمويل من الخارج . أما الأحزاب فلا وجود لها على الأرض حتى حزب التحالف الوطني بزعامة محمود جبريل و الذي حاز على أغلبية الأصوات في المؤتمرالوطني الليبي ‘ البرلمان'ليس له أي وجود على الأرض و لا يمارس في أي حراك سياسي و استسلم بطريقة غريبة للتيارات الإسلامية في البرلمان و لم يحرك ساكناً و لم يكن فاعلا . الكيانات السياسية الأخرى هي كيانات ضعيفة لن تستطع أن تحقق وجوداً سياسيا ً فاعلاً ومؤثرا. *السلاح يقول كلمته الوجود الأقوى و الأكثر حضوراً هو وجود المتمترسين خلف السلاح باختلاف تياراتهم و توجهاتهم . و خاصةً أصحاب التيارات الإسلامية و منها المتشدد و التكفيري . هم الورثة للقوى الأحادية التي أطيح بها هم الورثة للحكم و للسلاح . تشرعن لهم المؤسسات ‘ المنتخبة تحت التهديد و الوعيد'ما يريدون و تمنحهم ما يودون .و العفويون الذي خرجوا فرادى و جماعات ، ها هي الدولة الهشة تتركهم نهباً لكل أنواع العنف و السطو و لكل مظاهر انتهاك أدنى حقوق البشر .