إذا ما نظرنا إلى حجم الملفات المطروحة أمام الرئيس الجديد للحكومة التونسية، فإن قرار زيارة مجموعة من العواصم الخليجية لا يمكن أن يكون إلا خطوة استراتيجية قد حان أوان قطعها ولا بد منها. ولمّا كانت هذه الخطوة تستند إلى ما يبدو خيارا استراتيجيا مدروسا، فإن كلام رئيس الحكومة عن أهداف هذه الزيارة كان قليل السياسة، كثير الوضوح والبراغماتية. وهو ما يكشفه رده على أسئلة بعض الصحافيين عندما قال إن أولويته اقتصادية، وإن المطالب ذات الخلفية السياسية تأتي في مقام ثانوي. وفي الحقيقة، فإن عدم الانسياق وراء السياسة الشعبوية واعتماد خطاب أكثر براغماتية، إنما يحملان بدورهما معنى أكثر وضوحا، وهو أن مشكلة تونس اليوم اقتصادية أولا وثانيا. لذلك، فإن المعجم الاقتصادي والنظرة الاقتصادية وحتى طريقة التفكير والخطاب أصبحت إلى حد ما ذات هيمنة دلالية اقتصادية. وهنا يمكن أن نسجل نقطة في صالح هذه الحكومة تتمثل في الاستفادة من الأخطاء السابقة لاكتساب مزيد من النضج في تحديد اتجاهات بوصلة تونس في علاقتها مع الدول الأخرى. إذن، زيارة وفد رئيس الحكومة التونسية السيد المهدي جمعة تتنزل في إطار ما يسمى الدبلوماسية الاقتصادية. عند هذه الجزئية قد يكون من المفيد التلويح بأن الهدف الأصلي والطبيعي والأول لكل دبلوماسية هو فتح مجالات تعاون اقتصادية، ولكن فهم النخب السياسية العربية العميق والشامل لمفهوم الدبلوماسية الاقتصادية ظل ضعيفا أحيانا ومتواضعا في أحايين أخرى، وذلك بحكم عوامل عدة معقدة ومركبة. وبالنسبة إلى علاقة تونس بدول الخليج موضوع هذه الورقة، فإنه من المهم تنزيلها في إطارها التاريخي: فهي من ناحية دبلوماسية محضة، كانت على امتداد العقود الأربعة الأخيرة جيدة بالأساس مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية وسلطنة عمان.. ولكن على مستوى الدبلوماسية الاقتصادية، فقد كانت العلاقة متأرجحة ومترددة ومحكومة بسقف محدود من التعاون. بل إنه حتى عندما عرفت العلاقة اقتصاديا منعرجا من خلال الاتفاق على مشروع «سما دبي» في تونس، فإن المشروع سرعان ما أُجهض وظل فشل تجسيده ملفا محاطا بالسرية. وعندما نقارن حجم استثمار رجال الأعمال الخليجيين في تونس، فإننا نجده ضعيفا مقارنة بالدول العربية الأخرى، رغم أن عدة عوامل كانت مواتية لتكون تونس على رأس قائمة هذه الدول. طبعا، لا شك في أن موقف تونس كشعب من حرب الخليج قد أضر بها كثيرا، خصوصا أن العلاقة مع دولة الكويت كانت متميزة منذ أيام الحكم البورقيبي، حيث أسهمت نخب تربوية ومسرحية وغيرها في دعم توجهات الكويت التعليمية والفنية. لذلك، فإن التأخر الذي عرفته علاقة تونس الاقتصادية بدول الخليج خلال الربع القرن الأخير لا يمكن فصله عن سبب رئيس هو موقفها من غزو العراق لدولة الكويت. وفي هذا السياق، يمكن أن نضع أيضا ضعف حجم استقطاب السياح الخليجيين دون أن ننسى أن استراتيجية السياحة في تونس لطالما أهملت هذه المسألة وظلت متمسكة بالوجهة الأوروبية، رغم ضعف مردودية هذه الخيارات في العشرية الأخيرة. طبعا، لا يعني ذلك أن علاقات التعاون بين تونس ودول الخليج علاقات شحيحة وقاحلة، بل إن هناك مظاهر مهمة مثل التعاون في مجال التعليم بمختلف مراحله وفي مجال الإعلام وغيرهما. كما أن هناك معطى مهما جدا وهو أن الجالية التونسية في الخليج مهمة من ناحية ديموغرافية كمية وأكثر أهمية على المستوى النوعي الكيفي أيضا، باعتبار أن النخبة والكوادر هما النسبة الغالبة على مجموع الجالية التونسية في الخليج. ولكن رغم وجود هذه المظاهر المهمة وبعض عناصر القوة المشار إليها، فإن المشكلة كانت تكمن في غياب إرادة سياسية تونسية عازمة على البناء على مظاهر القوة هذه واستثمارها اقتصاديا بما يفيد تونس وما يفيد دول الخليج ورؤوس الأموال الباحثة عن أسواق خارجية وبيئات اقتصادية صالحة للاستثمار. اليوم يمكن القول، إن علاقة تونس بدول الخليج بصدد المراجعة الرصينة والعقلانية، خصوصا بعد تسلم الحكومة الجديدة الحكم وخروج حركة النهضة منه. حاليا زيارة السيد المهدي جمعة إلى عواصم خليجية عدة جرى تنزيلها تحت عنوان كبير: الاستثمار الاقتصادي. من الواضح أن الإرادة السياسية توفرت بالشكل والمضمون المطلوبين، خصوصا بعد أن بدأت تتأكد تواريخ الرزنامة السياسية القادمة في البلاد. ولكن المشكلة الأساسية تتمثل في أن تونس اليوم بملف الإرهاب الذي لم يحسم بعد والمطلبية الاجتماعية المتواصلة على حساب عجلة الاقتصاد الوطني هي ليست مغرية - أي تونس - كما يجب لأصحاب رؤوس الأموال الذين يشترطون أولا الأمن والاستقرار والامتيازات. صحيح أن تونس تحاول أن تكون بيئة جاذبة اقتصاديا للمستثمرين، ولكن هذه المحاولة تشبه ما يسمى السهل الممتنع. لذلك، فإن أغلب الظن أن زيارة المهدي جمعة للاستكشاف الاستثماري ومعاينة الآفاق ليست أقل ولا أكثر. "الشرق الاوسط"