منذ انطلاقها في العام 1867، ولغاية الأربعينيات من القرن الماضي، ظلت «النقابة» في الجزائر تعني العامل الأوروبي وليس الجزائري. وهذا يشير إلى أثر الاستعمار الاستيطاني الطويل الذي عرفته البلاد (1830-1962). عاش العامل الجزائري تجربته النقابية الأولى والأساسية داخل «الكونفدرالية العامة للشغل»، الفرنسية، (CGT) والتي كانت تحت سيطرة الحزب الشيوعي الفرنسي، وكانت اقل عداء من النقابات الأخرى تجاه المسألة الوطنية الجزائرية. وقد تمت التجربة النقابية للعمال الجزائريين أساسا في قطاعات صناعية كالميكانيك والمناجم والبناء. وحاولت بعض فروع هذه النقابة أن «تتجزأر» وذلك بسماحها لبعض الوجوه الجزائرية بالوصول إلى مواقع القيادة في 1954 مكونة «الاتحاد العام للنقابات الجزائرية» (UGSA). لكن اندلاع حرب التحرير بعد ستة أشهر أوقف عمليا نشاط هذه النقابة، لنكون أمام أول درس مهم في تاريخ العمل النقابي: السلم شرط أساسي لازدهاره. صراعات سياسية ظهرت في سنة 1956 نقابتان أخريان («اتحاد النقابات الجزائرية» USTA و«الاتحاد العام للعمال الجزائريين» UGTA) .ولأن الانقسام كان على أساس كيفية حل المسألة الوطنية/ التي نظر إليها العمال الجزائريون المنخرطون في العمل النقابي كقضية جوهرية، فقد فرض الاتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA القريب من جبهة التحرير، سيطرته الكلية على القواعد العمالية في الجزائر والمهجر، على حساب غريمه النقابي الذي كان وراءه زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج، والذي دخلت حركته السياسية في مواجهات عنيفة مع جبهة التحرير في سنوات الحرب الأولى. وهي السيطرة نفسها التي فرضها الاتحاد العام على الاتحاد النقابي الاول UGSA الذي يسيطر عليه الشيوعيون وهو كان الأكثر تواجدا على التراب الجزائري. ارتباط العمل النقابي بالظاهرة الحزبية خلال هذه المرحلة سيتحول إلى معطى رئيسي ضمن العقيدة النقابية الجزائرية. وبعد الاستقلال، لم يكن غريبا أن تقترب التجربة النقابية، لحد التماهي، مع الدولة الوطنية ومؤسساتها الحزبية والإدارية، خاصة بعد إقرار الأحادية النقابية، كما شاع في الكثير من بلدان العالم الثالث المستقلة حديثا. الدولة رب العمل الأساسي بعد الاستقلال إذاً احتكر الاتحاد العام للعمال الجزائريين العمل النقابي تحت وصاية الدولة الوطنية التي تحولت إلى رب العمل الأساسي، إثر انطلاق مشاريع الاستثمار العمومي في قطاعات اقتصادية كثيرة، استمرت خلال أكثر من أربعة عقود، زيادة على ما تم تأميمه من مصالح أجنبية. هذه التجربة النقابية الأحادية أغرت أكثرية عمال القطاعات الصناعية من كبار السن، ذوي الأصول الريفية، الذين يتميزون بمستويات تعليمية ضعيفة، في حين قاطعها العمال الشباب والنساء وأغلبية عمال الخدمات والموظفون المؤهلون الملتحقون حديثا بصفوف الطبقة العاملة، بعد توسع قواعد الدولة الوطنية ومؤسساتها البيروقراطية. فهؤلاء كانت لهم إستراتيجية مختلفة. بالفعل فالعامل /الموظف الشاب، صاحب التعليم والتأهيل المتوسط والعالي لم يتعامل مع المؤسسة النقابية إلا كمصعد اجتماعي للترقية داخل القطاع العام. في حين توجه الجزء الأكثر تسييسا منهم نحو العمل المطلبي خارج قواعد الاتحاد العام للعمال الجزائريين ((UGTA أو داخل بعض الهياكل القاعدية له، في بؤر عمالية محددة عرفت بنشاطها النقابي الأكثر مطلبية، على غرار التجمعات العمالية الكبرى بالقرب من الجزائر العاصمة التي ضمت مصانع الميكانيك أو مركبات الحديد والصلب بعنابة. وهذه فضاءات كانت خارج سيطرة البيروقراطية النقابية المسيطرة على الاتحاد العام. فقد تخلت التجربة النقابية كقاعدة عامة عن الطابع المطلبي وتحول هذا إلى وسيلة إسناد في تسيير الشأن الاجتماعي والاقتصادي. علاوة بالطبع على الأدوار السياسية الرسمية التي اضطلعت بها قيادة الاتحاد وأطره، حيث غابت الممارسات الديموقراطية، كالانتخابات الشفافة. وكانت تلك القيادات والأطر تقوم بمهام سياسية لمصلحة السلطة ومشاريعها المحلية والدولية. التعددية والنقابات المستقلة كان الإسلاميون، بمختلف توجهاتهم، الوحيدين من بين الأحزاب السياسية الجزائرية الذين بادروا الى تكوين نقابات عمالية ذات ارتباط واضح بالحزب السياسي. كان مصير الأولى («النقابة الإسلامية للعمل» 1992)، المرتبطة ب«الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، التعليق ثم الحل بعد حل الحزب نفسه، في حين فشلت الثانية، («إحسان»)، التابعة ل«حركة مجتمع السلم» (إخوان) في الاستمرارية والبقاء بعد أن فضل هذا الحزب التوجه نحو العمل الخيري، بدل العمل النقابي المطلبي. تكونت هذه النقابات بعد المصادقة على دستور 23 شباط/فبراير 1989 الذي اعترف بالتعددية النقابية وحق الإضراب، بعد بداية ما سمي «بالربيع الجزائري» إثر أحداث تشرين الاول/أكتوبر 1988، فظهرت عشرات النقابات المستقلة (حوالي سبعين نقابة)، أغلبيتها الساحقة في قطاع الخدمات والوظيفة العمومية كالصحة والتربية والتعليم والإدارة. في حين انكمش دور النقابة الأحادية القديمة الى داخل القطاع الصناعي العمومي الذي تمكن من تجاوز أزمة التسيير الإداري والبيروقراطي نظراً لموقعه الاحتكاري ووضعيته المالية الريعية (قطاع البترول والكهرباء كمثال)، بعد أن تم حل العديد من المؤسسات العمومية الصناعية في قطاع التحويل والنسيج والبناء، وهو ما فرضته السياسات النيولبيرالية «التي اعتُمدت» في ظرف أمني واقتصادي صعب للغاية. وأدى ذلك الى تقليص كبير في عدد المنتسبين لهذه النقابة الرسمية. مرحلة بروز هذه النقابات المستقلة مثل نقابات التعليم (unpef /cnapest ) في هذا الظرف المأزوم أمنياً وسياسياً لم تكن مساعدة على تطوير التجربة النقابية الجديدة. لذا كان لزاما عليها انتظار انكسار الإرهاب وعودة نوع من «الاستقرار» السياسي وتحسن الوضع المالي للبلد (2002)، حتى تعود إلى نشاطها المطلبي الذي ركزت فيه على ترسيخ الاعتراف بها كطرف اجتماعي، وعلى تطوير الوضعية الاقتصادية الاجتماعية لمنخرطيها (الأجور تحديدا وظروف العمل). فقد لجأت هذه النقابات القطاعية (أكثر من 12 نقابة في قطاع التعليم وحوالي عشر في قطاع الصحة على سبيل المثال) إلى إضرابات طويلة نسبيا، لاقت الكثير من القبول والتأييد الشعبي، رغم حصولها في قطاعات خدماتية تؤثر سلباً على يوميات المواطن. إضرابات شاركت فيها المرأة بقوة كما كان الحال في القطاعات التي تتواجد فها المرأة بكثافة، على غرار التربية والصحة والإدارة. وعلى الرغم من ذلك، لم ينعكس هذا الحضور النسوي حتى الآن على مستوى قيادات هذه النقابات، التي لا زالت تعيد إنتاج التجربة الأحادية القديمة في بعض ما ميزها من سلبيات كالذكورية. العيوب والمفارقات على الرغم من الكثير من العيوب التي لا زالت تعتريها، كتشرذمها الفئوي، وبراغماتيتها المفرطة، وفقرها الفكري والعقائدي، وكذلك ضعف تنظيمها الهيكلي، إلا أن التجربة النقابية المستقلة أعادت الاعتبار إلى المركزية الاجتماعية والسياسية لعالم الشغل والحركة النقابية. لكن الاضطراب الذي يعيشه النظام السياسي الجزائري وضعف الظاهرة الحزبية وجمعيات المجتمع المدني، هي عوامل غير مساعدة على إنضاج هذه التجربة النقابية الجديدة والهشة. وهي تجد دعماً قوياً من الإعلام المستقل الحاضر على مستوى الحراك السياسي والاجتماعي، على العكس من موقف النخب المعارضة التي تمتلك حضوراً رسمياً، والتي أصبحت أكثر عداءً للعمل النقابي نتيجة لتبنيها الأيديولوجية النيولبيرالية المسيطرة فكريا وسياسيا. بدأت ملامح هذا الوضع في الظهور على شكل غياب شبه كلي للعمل النقابي داخل مجالات النشاط الجديدة التابعة للقطاع الخاص وغير الرسمي، وهو الذي تسود فيه الهشاشة المهنية التي تعاني منها الفئات العمالية الشابة والمرأة. ولكنها قطاعات أصبحت أكثر حضورا على مستوى التشغيل مقارنة بالقطاع العام الذي تقلص دوره، رغم الحماية النقابية والقانونية الذي لا زال أجراؤه يتمتعون بها. الخارطة النقابية تعيش اذا وفق ايقاعين. وتحاول النقابات المستقلة (الكثيرة والهشة) أن تواجه الموقف بتكوين نوع من التنسيق النقابي لإخراج العمل من طابعه الفئوي الطاغي حتى الآن داخل هذه التجربة النقابية المستقلة الجديدة في الجزائر. تنسيقية نقابية؟ يجد مشروع بناء هذه التنسيقية النقابية صعوبات متنوعة في طريقه، منها ما يتعلق بالصراعات داخل النخبة النقابية نفسها حول «الزعامة» وحول توجهات ومواقف هذا التنسيق، في الوقت الذي لم يحصل حتى الآن اي نقاش فكري أو تقييم لتجديد العقيدة النقابية القديمة وتجاوزها، التي لا تزال حاضرة بقوة لدى الكثير من قيادات النقابات المستقلة حتى وهي تنتقدها. ولعل مشاركة أكثر من نقابة مستقلة معاً في الإضرابات التي حصلت في السنوات الأخيرة، يكون عاملا مساعدا موضوعيا لبناء المشروع. صعوبات من نوع آخر تقف في وجه مشروع بناء هذه التنسيقية، تتعلق بالعلاقة مع المحيط السياسي الوطني. فالنظام السياسي الجزائري لا زال بحاجة إلى دعم نقابي وعمالي شعبي لا توفره الأحزاب بالقدر المطلوب أثناء ألازمات الدورية التي يعيشها. وهو الدعم الذي كانت ولا زالت تقدمه له النقابة الرسمية. فهل يكون هذا الدعم هو المقابل المطلوب من التنسيقية الجديدة لكي يتم القبول بها كشريك اجتماعي رسمي (على حساب مطلبيتها واستقلاليتها التي حافظت عليهما حتى الآن)، في موازاة المركزية النقابية التي تتآكل قوتها وشرعيتها لعدم قدرتها على التكيف مع محيطها الجديد، وانغلاق بيروقراطيتها وتبعيتها للقوى السياسية الحاكمة؟ أي «تجديد» القديم...