لن ينعكس قتل أسامة بن لادن على «الثورات» في بعض الدول العربية، بل ربما سينعكس سلبا على الحركات الإسلامية فيها؛ لأنه مهما كان موقفها الإعلامي بأنها ضد الإرهاب، فلم يصدر أي بيان موقع باسم أي حركة يندد ب«بن لادن». على كلٍّ، يرفض كثير من المراقبين العرب تسمية ما يجري في العالم العربي ب«الثورات»، يقولون إنها «تمردات»، غير مؤطرة، ولا قيادة صحيحة لها. بدأت أهدافها عامة تطالب بإسقاط النظام، لكن ماذا حصل بعد ذلك إن في مصر أو في تونس؟ فوضى عارمة. حالة تمرد كان لها بعض الأسباب. إذا استرجعنا مثل هذه الحالات في تاريخ الشعوب، فحين يهتز الأمن يخرج العسكر؛ لذلك ليس من المستبعد حدوث انقلابات في مصر وفي تونس ولو لمدة معينة «على الطريقة الموريتانية»، بأن تخرج مجموعة من الضباط تتبنى ما يطالب به الشارع وتوقف الاحتجاجات وتعد أنه بعد سنة أو سنتين ستمهد للديمقراطية. وسيحدث لاحقا ما كان يحدث في تركيا، حكومة مدنية وبرلمان ووراءهما الجيش، كما هو قائم الآن في الجزائر. أما في تركيا الحالية، فإن حزب «العدالة والتنمية» يحاول السيطرة على النظام بقوة ودهاء، لكن العلمانيين يشكلون قوة كبيرة في تركيا، والمتوقع حدوث مفاجآت في الانتخابات المقبلة، ويمكن القول: إن الجيش ضعف هناك عما كان عليه سابقا، لكن سيبرز ضباط من الجيل الجديد. في مصر يحكم حاليا المجلس العسكري، أعضاؤه من جماعة الرئيس السابق حسني مبارك، هم أعينهم كانوا أصحابه ورفاق سلاح معا، سيبدأون بمحاسبته قريبا، وهذا ما يتوقعه كثيرون، بعدها ستبرز مجموعة ضباط جدد، تتبرأ من ذلك كله، وتعد بالجنة على الأرض، كما جرت العادة. يرى مراقبون أن الأوضاع في مصر قد تتطور إلى حرب أهلية؛ فقضية محافظ «قنا» سابقة خطيرة، وفي مصر هناك النوبيون، وحركتهم قائمة منذ أكثر من 30 عاما، الجانب الإثني في العالم العربي قد تفتح شهيته. ويخبرني مسؤول عربي أنه قال مرة للرئيس مبارك: «هناك حركة تآكل مقبلة على مصر من الجنوب»، رفض هذا الطرح، فواصل المسؤول حديثه: «بعد جنوب السودان ستصل الحركة إلى النوبة»! ثم هناك الأقباط ما بين 10 و12 مليونا، وهؤلاء قد يطالبون بحكم ذاتي؛ فمصر كبيرة. ليبيا أيضا مشكلة مقبلة.. ففي زمن الملك إدريس السنوسي كانت هناك ولاية بنغازي، وولاية طرابلس، وولاية فزان. الاحتمالات كلها مفتوحة. هناك إجماع دولي وعربي وإقليمي على أن يغادر العقيد معمر القذافي السلطة. وهذا سيحدث ربما بانقلاب عسكري. لكن، هل سيتفق بعد ذلك أعضاء المجلس الانتقالي الذي يضم شخصيات من العهد القديم؟ وكيف سيديرون شؤون الدولة، إذا بقوا، مع القادمين الجدد؟ في تونس، حزب «النهضة» يتحدث لغة أخرى، ويتموضع في شكل قوي للوصول إلى السلطة، لكن الجيش لن يسمح ل«النهضة» بأكل قالب الجبن. الإخوان المسلمون في مصر يقومون بالشيء نفسه، اسم جديد لحزب سياسي لهم. كأننا مقبلون على فترة عسكرية بانتظار استتباب الظروف، وقد يستيقظ الجيل المقبل على شرق أوسط جديد جغرافيا، وبدأ الحديث عن انقسامات سيتعرض لها اليمن بأن ينتهي إلى ثلاث دول: عدن كانت دولة، ثم صنعاء، والحوثيون أيضا سيطالبون بحصة لهم. في سوريا هناك الأكراد وحزب البعث وأجهزة الاستخبارات، واليد الطولى لتركيا وإيران. ثم إذا وقعت حرب أهلية في لبنان، فلماذا من المستبعد أن تتطور الأمور إلى حرب أهلية في سوريا؟ هناك الوضع أسوأ؛ إذ يحدها لبنان، وتركيا وإسرائيل، والحاكمون من الأقلية التي لها امتداد في تركيا. إن الوضع في سوريا كثير التعقيد، والقضية ليست مقصورة على وجود حزب البعث فقط، إذا سقط النظام الحالي في سوريا سيصبح حزب الله يتيما وقد رأينا كيف هرولت حماس إلى المصالحة الفلسطينية، وهي كانت جزءا من الحزام الذي رسمته إيران. تركيا لن تسمح للأكراد بالتطلع إلى إقامة دولة.. هناك إجماع على لجم قضية الأكراد، ويتفق حول الأمر تركيا وإيران أيضا، أقصى ما يمكن الحصول عليه كرديا هو نوع من الحكم الذاتي. أما إيران فإنها قصة أخرى. والخوف من أن تكون بوادر حرب عسكرية بدأت تهيئ لها إيران ضد الخليج. فهي أمضت السنوات ال10 الماضية تقيم حزاما حول المنطقة: رئيس الوزراء نوري المالكي في العراق، حزب الله في لبنان، حماس في غزة، الحوثيون في اليمن، بالإضافة إلى جيوب من الشيعة في البحرين، والكويت والسعودية، وهؤلاء كلهم من الموالين لها، وهي تشعر الآن بالضغط بعدما اعتقد رئيسها محمود أحمدي نجاد أن «الثورات العربية» قامت تشبها أو تيمنا بالثورة الإسلامية. كان لإيران أمل في أن تثبت أقدامها في الخليج، مع «الثورات»، عبر البحرين، ولولا تدخل قوات «درع الجزيرة العربية» لسقط النظام في البحرين، وكانوا قد بدأوا يتحدثون عن الجمهورية الإسلامية هناك. ويوم السبت الماضي صدر كلام خطير جدا عن رئيس الأركان الإيراني الجنرال حسن فيروز آبادي. الاعتقاد كان سائدا بأن المشكلة هي بين الولاياتالمتحدة والنظام الإيراني، فظهر أن المشكلة هي بين إدارة الرئيس باراك أوباما والأنظمة العربية بمجملها تقريبا؛ لذلك عاد القلق يدق عقول الكثير من المراقبين السياسيين العرب، بأن تبرز محاور إقليمية جديدة وتنتهي خلال السنوات ال10 المقبلة إلى ثلاثية: إيران، وتركيا، وإسرائيل.. ثلاثية لديها عدو واحد هو العرب، والدول الثلاث لديها حاجة ملحة إلى المياه، وقد تتحقق مقولة إن الحرب المقبلة في الشرق الأوسط ستكون حول المياه. ثم هناك ثروة النفط العربي. في المخاضات القائمة الآن في الشوارع العربية تبدو الملكيات أسلم من الجمهوريات، لها شرعية، وباستثناءات قليلة، لديها قدرات مالية أوسع، لكن ما يقع في الجمهوريات قد يعدي الآخرين، ويفتح شهية الأقليات التي تطمح إلى الحكم؛ لأن انعدام التأطير السياسي وانعدام التعددية الحزبية يفتحان المجال للأقليات أو الجماعات الدينية للاستحواذ على الفضاء السياسي. وأسأل دبلوماسيا عربيا عن رأيه عما على العرب عمله أمام احتمال إقامة حلف مستقبلي إيراني - تركي - إسرائيلي يهددهم، يجيب: «أنا من دعاة إقامة الولاياتالمتحدة الخليجية: جيش واحد، عملة واحدة، وجواز سفر واحد، وليحتفظ كل بلد بعلمه»، يضيف: «إنه لا بد من هذا التكتل وعدم إهمال الانفتاح على تحالف آخر موسع أفريقيا». يشرح: «المغرب العربي لديه المؤهلات كلها ليشكل قوة، فيه 100 مليون نسمة، ومع مصر يضم 200 مليون نسمة. الضفة الجنوبية للمتوسط مطالبة بالتحالف. ثم لا ننسى أن جل العالم العربي في أفريقيا وليس في آسيا. الزخم السكاني منتشر من نواكشوط إلى بور سودان، هذا المحور وحده يضم 250 مليون نسمة». ويضيف: «موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، الصومال وجيبوتي، هذه الدول العربية - الأفريقية تتأثر وتؤثر في الدول المجاورة في منطقة الساحل الأفريقي كلها، من تشاد، النيجر، مالي، بوركينا فاسو وغرب أفريقيا، وكلها فيها مسلمون. وهنا تختلط القومية بالدين. الأفارقة ليسوا عربا، إنما هناك تعاطف ديني». إسرائيل وصلت إلى أفريقيا، وإيران كذلك، لكن، ما الدور الذي على دول الخليج القيام به الآن؟ يقول محدثي: «الخليج يجب أن يتحد، الدور الإيراني في المنطقة يعتمد على المصالح. قد يقدم النظام الإيراني الحالي على توجيه ضربة عسكرية، فهو مضغوط، وربما إيران بنظام آخر أكثر اعتدالا قد تتحالف مع الغرب على العرب». وينهي حديثه بقول لونستون تشرشل: «ليست هناك مبادئ بل هناك مصالح فقط». العالم الكبير يخطط للمستقبل، وفي «العوالم» العربية المسرحية مستمرة، والأحداث سريعة، وأي نظام سيأتي لاحقا سيعتمد على أجهزة الشرطة نفسها، والقضاة أنفسهم، والموظفين كذلك. حتى لو جاء زعيم خارق سيتعامل بما لديه. الغرب يشجع على الديمقراطية، وهي عملية طويلة، ونسي العرب عبارة عمر بن الخطاب: «العدل أساس الملك». ثم عندما تمتلئ البطون، وتتعلم العقول، تبدأ الشعوب في المطالبة بالديمقراطية. فالديمقراطية لا تنبت في الفقر والأمية!