حرص حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو في المعارضة أو الحكومة، على اختيار من يمثله أحسن تمثيل في الواجهة البرلمانية. اشترط إجمالا أن يكون رئيس الفريق النيابي، عضوا في المكتب السياسي، للحزب، يحظى بثقة وتأييد ابرز الاجنحة والتيارات التي طالما أشهرت خلافاتها في مقر الحزب المركزي بالرباط، ينتقل صداها إلى فروعه بالمدن والأقاليم المغربية. وعول الحزب في أغلب المحطات النضالية، على إسماع صوته القوي، من خلال منبر المؤسسة التشريعية .يتفنن نوابه في توجيه النقد الصارم واللاذع للحكومات المتتالية، سياسة وأشخاصا؛ ما حقق للاتحاد، انتشارا وتجاوبا وقبولا لدى شرائح عريضة من المجتمع المغربي؛ تعاطفت مع شعارات وطروحات، الاتحاد الاشتراكي، خاصة ما تعلق بترسيخ الديموقراطية ومحاربة الفساد السياسي والمالي والانتخابي وسادة القانون. وعلى مدى أجيال وفترات سياسية، اقترن الاتحاد الاشتراكي، بالصدق في القول والفعل، مؤديا ضريبة سياسية مرتفعة، تجلت في أشكال الاضطهاد والملاحقات الأمنية والمحاكمات السياسية التي طالته بقسوة منذ صيف 1963 حينما اتهم بتدبير أول مؤامرة كبرى لقلب نظام الحكم.. أعقبتها سلسلة من المآسي السياسية لم تتوقف نسبيا إلا بعد تدشين ما يسمى المغرب الجديد، قبيل إعلان حدث المسيرة الخضراء عام 1975. وخلال المسار النضالي للحزب الحافل بالأزمات والصراعات، لم يتول الحديث باسمه في كل التجارب البرلمانية السابقة سوى ستة نواب هم على التوالي: الراحل عبد اللطيف بن جلون (فارس أول برلمان عام 1963) تلاه في برلمان 1977 عبد الواحد الراضي، ثم فتح الله ولعلو. وبعد أن اصبح الأول، رئيسا لمجلس النواب، والثاني وزيرا للمالية في حكومة التناوب عام 1998، أسندت الرئاسة لفترة وجيزة إلى الأستاذ الجامعي عبد القادر باينة، الذي تخلى عنها، بهدوء لصالح زميله، ادريس لشكر، الأمين العام الحالي للحزب، المؤهل آنذاك للدفاع عن حزبه متزعم التحالف الحكومي . سيترك "لشكر" المهمة بدوره مرغما، لأحمد الزايدي، بعدما فشل في الاحتفاظ بمقعده في مجلس النواب في انتخابات لاحقة. ولم يحدث أن ثار صراع أو تنافس قوي على المهمة، على اعتبار أن الاتحاديين متفقون على صفات ينبغي توفرها في رئيس الفريق؛ لا تجتمع بسهولة في كل النواب من قبيل الفصاحة في الخطابة وقوة الاقناع والقدرة على المناورة السياسية وعقد التوافقات والتنسيق مع باقي الأطياف البرلمانية الأخرى. وبعبارة أخرى، فإن الحكم على اداء رئيس الفريق يتحكم فيه الرأي العام الذي يتابع خطواته تحت القبة التي تجتمع تحتها إرادة الأمة. وتسهل المهمة على أي رئيس فريق، حينما يكون الحزب موحدا، مشدود الأوصال، في الظاهر على الأقل؛ ذلك أن نار الخلاف والاحتراب والسجال بصوت مرتفع، حد تبادل التهم، لم تغب بالكامل عن العائلة الاتحادية منذ ميلادها بل ظلت ملازمة لأغلب المحطات النضالية بما فيها تلك التي حوصر فيها الحزب من طرف السلطة. هذا ما يفسر، في جانب، كثرة الانشقاقات وتوالي الانسحابات من الحزب. يبحث الغاضبون او الفارون عن ملاذات آمنة، يروون فيها ظمأهم للسياسة أو يجنون مكاسب انتفاعية لقاء الخبرة النضالية التي يحملونها معهم وراكموها في اوراش "الاتحاد الاشتراكي" وقبله في مدارج الاتحاد الوطني لطلبة المغرب؛ يعرضونها بأثمان متفاوتة، حسب طراز المناضل ودرجة ترتيبه في سلم القيادة. والمتأمل في تاريخ وتطور الأحزاب السياسية في المغرب، سيلاحظ أن الاتحاد الاشتراكي، أمد الدولة المغربية في كثير من الأحيان، بقطع الغيار الثقيل لإنشاء عدد من الأحزاب والهيئات التي كانت تدعى إدارية في عهد الراحل الحسن الثاني. وبالتالي فإن الاتحاد الاشتراكي، كفكرة وتنظيم وأشخاص مناضلين، مبثوث في أهم مفاصل الدولة وأوصالها بالمغرب. أولئك المنفيون خارج أوكارهم الطبيعية، ينتابهم الحنين إلى رفاقهم القدامى، ما يدفعهم إلى تجديد الاتصال بهم ودعوتهم لإحياء صلة الرحم النضالي، تحت خيمة السلطة أو في فضاءات أخرى أكثر رحابة. وبعبارة أخرى فإن الاتحاد الاشتراكي، ما يزال "أصلا تجاريا" صالحا، يرغب كثيرون في نقل ملكيته اليهم؛ بل يمكن القول إن الجهات الراغبة في التملك، أدرجت الاتحاد في بوصة السياسة، فأصبحت أسهمه عرضة للمزايدة، تهبط وترتقع وتسحب أحيانا من التداول. إن الخلاف الدائر حاليا بين الكاتب الأول، ادريس لشكر، ورئيس الفريق البرلماني، أحمد الزايدي، ليس بعيدا ولا بمنأى عن صراع خفي وغامض على الاتحاد الاشتراكي من جهات ضمنها التيارات المعتملة فيه. ولربما يوجد تقاطع في محطة ما بين التيارات الداخلية ومحاولة الاستقطاب الخارجي. إن الحديث عن "حراك تنظيمي" داخل الاتحاد، يحيل على فكرة الاعتراف بالتيارات ومأسستها، كما تمنى قلة من الاتحاديين. والواقع أن تعدد المنابر داخل حزب يحمل جينات سياسية وبهارات إيديولوجية في تكوينه، لا يمكنه أن يستوعب ترف التيارات وخاصة في زمن فقد فيه الحزب هيبته وتوارى عن الأنظار الزعماء التاريخيون، بمعنى أن المجال أصبح سائبا للعراك وليس للحوار الفكري الناضج. لا يمكن لاتحاد القوات الشعبية (والاسم هنا له رنينه التاريخي) أن يستمر، ككيان سياسي، إلا في إطار الوحدة التي تخلق التنوع الاضطراري وتأجيل الاعتراف بمأسسة المنابر. إن المنازلات السياسية السابقة التي عرفها وجربها الاتحاد الاشتراكي، تؤكد هذه الحقيقة. كل الذين انشقوا عن الحزب، نادوا في البداية بتأسيس التيارات وضمان حقها في المساءلة، لكن الغالبية أو النواة الصلبة في العقل الباطن للاتحاد الاشتراكي، كانت تقاوم فكرة التيارات، لسبب وجيه ومقنع في الماضي، بمعنى أن الاتحاديين سيضعفون إن تفرقت ريحهم. ويبدو أن هذا القانون ما يزال حاكما لسيرورة حزب المهدي بنبركة. أمام الغاضبين على قيادة لشكر، ولكل فئة أسبابها ودواعيها، اختياران لا ثالث لهما: إما تأسيس حزب بديل وفي هذا انتحار وعزلة لهم بدليل ما جرى للذين سبقوهم؛ أو البقاء في "جهنم" الصراع داخل الحزب، ينتظرون اللحظة المواتية لفرض خطهم. صراع الماضي بين الأجنحة في الاتحاد الاشتراكي، تمحور حول درجة النضال، بين المعتدلين البراغماتيين وبين المطالبين بالتصعيد والاختيار الثوري في وجه النظام. المدرسة الأولى التف حولها المثقفون والاكاديميون الراغبون في ممارسة سياسة أهل المدن، بدهاء وذكاء، وعدم خوض المعارك بدون تحالفات، بينما اقترنت الجماعة الثانية بالجموح الثوري والمواجهة الضارية مع الحكم، مدفوعة بتوجهات نقابية وبقايا فكر المقاومة وجيش التحرير. تغير المشهد راسا على عقب. تقلصت مساحة الميدان وتوارى الفرسان. لذا بات على كل متزعم لأي تيار أن يضرب أخماسا في أسداس، قبل أن يتوجه الى مكتب الترخيص للأحزاب. لماذا ومع من سيناضل وتحت أية راية إيديولوجية في زمن العولمة الشاملة الجامحة وفي عصر انتفاء الحدود الفكرية وضمور الأيديولوجيات وسقوط اليقين. محكوم على الاتحاد الاشتراكي أن يحافظ على من بقي من رصيده، ويطوره بتضافر كافة المناضلين، بعيدا عن الحساسيات الشخصية والاعتبارات الفئوية واستبدال ذلك بالنجاعة والحكامة السياسية وابتكار أساليب الاستقطاب والإقناع خدمة للوطن. إذا زاغ الاتحاديون عن هذه الطريق، فإنه سيصبح عمارة مهجورة، تدور حول أطلالها جماعات تائهة الفكر محطمة الوجدان. وهذا منظر، يقاومه الاتحاديون بما عرف عنهم من صدق وتضحيات وإعلاء مصلحة التنظيم، والأهم الوفاء للآباء المؤسسين وتضحياتهم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.