إن ما يحتاجه السيسي فعلاً هو الصوت الناصح، المنبه إلى المخاطر والمصاعب الهائلة التي سوف يواجهها، وأكثر ما يسيء إليه هو اللغة السائدة في الإعلام المصري التي تنتمي إلى عصور ما قبل الثورة وما قبل «الميدان» التي دأبت على منافقة الملوك ومداهنة أصحاب السلطان. تراجع الاهتمام العربي بأخبار مصر، بمقدار ما تقدمت صورة "الدولة الجديدة" لتحل محل وعود الثورة الآخذة إلى الغد الموعود: نهضة شاملة في السياسة والثقافة والاجتماع، في الاقتصاد والزراعة ومختلف وجوه الإنتاج. غلبت في الداخل المصري لغة الانتخابات حاملة معها تعابير كان يؤمل أن تندثر مع اندثار عهود الطغيان، وتردى الإعلام الانتخابي مستعيداً مفردات النفاق السياسي الذي يسيء إلى كرامة الجماهير وطموحاتها المشروعة أكثر مما يفيد المستهدف بتأييد لا يحتاجه أو انه بصيغة أدق لم يعد بحاجة إليه. كان الافتراض أن "الميدان" بشعاراته الممتازة، وهتافاته المدوية بالمأمول من الثورة والمرتجى إنجازه عبر انتصارها، قد عبر عن دخول الشعب المصري بجماهيره هائلة الأعداد عالم السياسة بالمعنى الأصلي للكلمة، أي بما هي تعبير عن الطموح إلى تحقيق أهدافه المشروعة في الديموقراطية والعدالة والتقدم ودخول العصر. لكن اللغة السائدة في الإعلام المصري، مرئياً ومكتوباً، تراجعت بل، هي تخلفت، لتعيد تأكيد انتمائها إلى عصور ما قبل الثورة وما قبل «الميدان» وإنجازاته التاريخية التي تجاوزت كل تقدير. ولقد استذكر بعض المعمرين ما كان يقال في منافقة الملوك ومداهنة أصحاب السلطان في قديم العصور والأوان. أما الشباب ممن افترضوا أن لهم مكاناً محفوظاً في "الميدان"، برغم أنهم يقيمون خارج مصر، فقد أصيبوا بصدمة عنيفة لتدهور "اللغة" بتعابيرها ودلالاتها، وعودة "النفاق السياسي" ليسود وقد استعاد لغة مهجورة، أو يفترض أن العصر قد أسقطها من القاموس ومن التعامل اليومي. والحديث عن "اللغة" هنا يتجاوز مفرداتها ودلالاتها إلى المناخ الذي يتبدى وكأنه ما زال يسمح بها ويجيزها، في حين أن انتماءها واضح إلى عصور مضت تتجاوز القرن الحالي إلى ماضي الإذلال والقهر ونفاق السلطان طلباً لإنعامه، أن لم يكن خوفاً من سيفه. إن الافتراق موجع بين الآمال العراض التي فتحتها الجماهير بتدفقها المذهل إلى "الميدان" وصمودها فيه زمناً من أجل التغيير، ثم عودتها إليه مجدداً لتصحيح المسار ومسح أخطاء الغفلة والتسامح التي أفادت أهل الماضي من المنتسبين إلى تيار «الإخوان المسلمين» ومن والاهم ومن يدعمهم ويرعاهم في الداخل المصري، بل العربي عموماً، وفي الخارج التركي بل الأممي بعدما صار بعض الغرب، والأميركي تحديداً بعد البريطاني، هو من يتعهد "الجماعة" بالدعم مادياً ومعنوياً، بذريعة نصرتهم على "السلفيين"... والباحث عن الفروق بين هذين التيارين كالباحث عن إبرة في كومة التبن. وبصراحة مطلقة يمكن القول إن المشير عبد الفتاح السيسي لا يحتاج مثل هذه اللغة الرخيصة التي تسيء إلى كرامة الشعب المصري أكثر مما تسيء إليه شخصياً، وهي لا تنفعه مطلقاً، خصوصاً انه إذا ما أعلن قراره بالتقدم إلى منصب الرئاسة فإنه لن يحتاج إلى أمثال هؤلاء المنافقين. وبالصراحة نفسها لا بد من القول، ولو من خارج مصر، إن ما يحتاجه فعلاً المشير عبد الفتاح السيسي هو الصوت الناصح، المنبه إلى المخاطر والمصاعب الهائلة التي سوف يواجهها إذا ما قرر المضي في ترشيح نفسه لمنصب "الرئيس"... وبقدر ما إن فوزه بأكثرية غير مسبوقة من أصوات الناخبين يبدو مؤكداً، فإن ذلك يعني أول ما يعني أن المصريين قد ألقوا على كاهله أثقال الواقع المصري، وهي منهكة، وتحتاج جهوداً هائلة تتجاوز قدرة أي فرد على حملها، ولا بد أن تنتظم قوى الثورة في فريق عمل عالي الكفاءة مؤكد الاستعداد للبذل والعطاء والاندفاع في عملية إعادة بناء ما هدمته عقود الطغيان من هياكل الدولة في مصر وما ضيعته من قدراتها وفرطت به من إمكاناتها. إن قبول منصب الرئاسة في هذه اللحظة هو أشبه ما يكون بعملية فدائية لا يقدم عليها إلا من نذر نفسه لوطنه، فقرر أن يعطيه جهد عقله وخبرته وإيمانه بالقيادة الجماعية التي تستعيد إلى موقع القرار الكفاءات المصرية المهاجرة خارج الوطن أو المهاجرة داخله بعد يأسها من دولته. لقد انتهى، في العالم أجمع، عصر القائد الفرد، الفذ في قدراته، الذي يعرف كل شيء في الاقتصاد والاجتماع والتعليم والري والطاقة ووسائل التواصل الحديثة فضلاً عن السياسة بمختلف جوانبها ومجالاتها العربية والدولية. بل إن الدول التي أقام فوق سدة الرئاسة فيها فردٌ واحدٌ ولآماد غير محدودة قد انتهى الأمر فيها بأن خسرت وحدتها الوطنية وتصدع فيها كيانها السياسي، وانعدمت قيمتها الدولية. لم يكن "الميدان" واحداً في توجهات جماهيره... بل لعل واحدة من ميزاته العظيمة انه اتسع للمصريين الطامحين إلى الغد الأفضل جميعاً، على اختلاف انتماءاتهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية وأنماط ثقافاتهم والتباين في تصورهم للمستقبل. فلقد تجاور في الميدان الوطنيون والتقدميون والليبراليون والإسلاميون، لا سيما المستنير من فضائلهم، والتقليديون من عشاق مصر والطامحون إلى أن يروها قد استعادت عافيتها ووفرت لهم فرصة العمل في مشروع غدها الأفضل. كذلك فإن من اجتمعوا مرة ثم ثانية وثالثة في الميدان كانوا يؤكدون استعدادهم لبذل عرق الجباه، ولوضع كفاءاتهم وما يملكون في خدمة مشروع مصر القوية، القادرة، المستغنية عن المساعدات المذلة بشروطها والإعانات التي تأخذ إلى التبعية والقروض التي تسترهن مستقبلها وتذل شعبها... سياسياً. لقد أسقط «الميدان» حكم الطاغية الفرد، معدوم الكفاءة، الذي رفعته المصادفات إلى سدة السلطة، ثم حمى "النظام" استمراره، بالتعاون مع "الخارج"، الذي وجد فيه "الشخص المناسب في المكان المناسب"... أي الشخص الذي يحمي التبعية للغرب بشخص أميركا والاستسلام لإسرائيل بشروطها، والنأي بالنفس عن موقع القيادة عربياً، لأنه جلاب هموم ومشاكل، كما أنه يحمل الحاكم بأمره فوق ما يطيق. كذلك أسقط «الميدان»، بعد إسقاط مبارك، حكم الحزب الواحد المصفح بالشعار الديني في هبّة ثورية ندر أن شهد العالم مثيلاً لملايينها وقد انتظموا في تظاهرة بامتداد مصر، تطالب بإسقاط الطغيان باسم الدين، وتتقدم في اتجاه تحقيق مطالبها في الحرية والعدالة والخبز مع الكرامة، وحقها في أن تبني بلادها المحروسة فتعوضها دهر الشقاء الذي دمر قدراتها وأخرجها من دائرة التأثير وكاد يهدد كيانها السياسي واستقرارها عبر حرمانها من حقها في مياه النيل، فضلاً عن عاصفة تقسيم السودان التي يمكن أن تتجدد فتقسمه مرة أخرى؟! لقد انفضَّ الجمع في «الميدان». هذا صحيح. لكن قضية الميدان ما تزال قائمة: إنه يريد مصر حرة، ويريد نظامها ديموقراطياً، ويريد لها أن تعود إلى دورها القيادي. يريدها قوية بوحدتها الوطنية، قادرة على إعادة بناء الدولة بجهود شعبها وكفاءاته، وحقها على من أطعمتهم من خبز شعبها حين ضربتهم الحاجة، وحمتهم حين تهددهم خطر على دولهم. ولقد انتهى زمان الشخص الواحد، بشهادة «الميدان» حيث تلاقت الجماهير خلف أهداف واضحة ومحددة وليس خلف صورة لقائد فرد أو لحزب بالذات. لقد دقت ساعة الديموقراطية في مصر، وها هي أصداؤها تتردد في مختلف إرجاء الوطن العربي الكبير. والديموقراطية بالديموقراطيين وليس بتعيين من يمكن احتسابهم على الديموقراطية زوراً وبهتاناً. "السفير" اللبنانية