تحظى الثورات العربية المعاصرة باهتمام كبير من الباحثين والدارسين في الغرب، أكثر مما في العالم العربي نفسه، إذ تهتم معظم مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الغرب بأسباب هذه الثورات، وكيفية انتشارها، ونجاحها الرائع في كل من تونس ومصر، وتهتم كذلك اهتماما بالغا بموقع الحركة الاسلامية منها، ودورها المستقبلي، وتأثير هذه الثورات على الكيان الصهيوني 'إسرائيل'، وماذا سيحدث لاتفاقية كامب ديفيد، خصوصا إذا شارك الاخوان المسلمون في مصر في الحكم أو وصلوا إليه. ولقد دعيت الى عديد من حلقات الحوار والبرامج التي تتناول هذه الموضوعات، وأعتقد أن نتائجها في الغالب تصب في النهاية في مجرى اتخاذ القرار في الغرب استفادة من هذه التحليلات السياسية والاستراتيجية، ويخضع الأمر لمزيد من التمحيص والحوار الموسع قبل اتخاذ القرارات، ثم يصب في أرشيف أجهزة الاستخبارات، خصوصا الأمريكية التي فوجئت بهذه الثورات، بعدما كانت تقدم الى مسؤوليها، خاصة في البيت الأبيض تقاريرعن استقرار الأوضاع، ولاسيما في تونس ومصر. ومن المهم استخلاص بعض الدروس والعبر من هذه الثورات التي اكتملت في بعض جوانبها، ولاتزال بعض جوانبها الأخرى بحاجة الى استكمال او ترميم. الدرس الأول: 'ان سقف المطالبات الشعبية خلال سنوات طويلة في مصر كان هو سقف الاصلاح لم يتعداه، وهذا يعني في مضمونه بقاء الأنظمة الفاسدة على شيء ولو بسيط من فسادها، واجراء بعض الاصلاحات السياسية والاقتصادية، من قبيل إجراء انتخابات فيها شيء من النزاهة، وإتاحة الفرصة للمعارضة لتحظى ببعض المقاعد في البرلمان، وقبول الحوار مع المعارضة كلها ومنها الاسلامية، وهذا يدل على بساطة الشعوب وصبرها الواسع وبعدها عن العنف. ولانخفاض هذا السقف في المطالب، قبل قطاع من الشعب الحياة في المقابر وفي العشوائيات سنوات طويلة، على أمل أن يأتي الاصلاح، ولكن كان من بين الذين حركوا سقف المطالبات الشعبية من الاصلاح الى التغيير في مصر، بروز الدكتور البرادعي بفلسفته البسيطة الواضحة، التي أدت الى ظهور وتشكيل الجمعية الوطنية للتغيير، رغم أن بعض الذين حضروا لقاءاته ومؤتمراته ظنوه عربة إسعاف أوهيئة إغاثة، يمكن أن ينزل بهذه الفلسفة العالية، فلسفة التغيير من خلال اللغة التي يفهمها الغرب وهي الديمقراطية - الى توفير دواء لأسرة محرومة، أو توفير فرصة عمل لعاطل أو زوجة لأعزب تخطى الأربعين من عمره. وقبل ظهور البرادعي كانت هناك حركة كفاية التي وقفت بشعاراتها الواضحة ضد التوريث للابن، وضد التمديد لمبارك نفسه. وقد عانى كبار رجالات الحركة وحتى بعض الفتيات اللاتي خرجن في مظاهرات كفاية معاناة شديدة، بل إنهم تعرضوا لسحل واعتداء على الشرف بسبب هذه الجرأة والقدرة على المطالبة بالتغيير ورفع سقف المطالب الشعبية، وكسر المطالبة النمطية بالإصلاح، ونال عبد الحليم قنديل من الاهانة ما نال، ونال المرحوم المسيري ما ناله على سبيل المثال لا الحصر - وطال الجميع عقاب شديد بعضه مهني أو وظيفي أو إداري أو إعلامي بشكل أو بآخر لا مبرر له، إلا إرضاء الحاكم الظالم. ومن حركة كفاية هناك كذلك من عانى كثيرا مثل جورج إسحاق ويحيى القزاز وغيرهما، ولكن حركة كفاية كانت مصدر إلهام وإشعاع شعبي وشبابي رائد، رغم قلة الراغبين في التضحية بالانضمام الى برامج كفاية ومظاهراتها. كما رفعت جبهة إنقاذ مصر من بريطانيا سقف مطالبها بالتغيير من أول يوم قامت فيه، وأوضحت ذلك في مؤتمرها الصحافي الأول في فندق IBIS في منطقة إيستون في لندن منذ ست سنوات. ولا بأس أن نذكرهنا أن بلطجية النظام المصري في لندن، قالوا في ذلك المؤتمر نحن 'سنؤسس جبهة لانقاذ مصر من جبهة إنقاذ مصر'. لم يكن يدرك هؤلاء وغيرهم أن النظام المصري ظالم وفاسد ومفلس، وانه سينهار بعد ست سنوات من تاريخ إنشاء هذه الجبهة، أو ربما كانوا يدركون ولكنه النفاق. بعض هؤلاء إدعى مؤخرا بعد قيام الثورة بلا حياء ولا خجل - أنه منسق الثورة الشبابية المصرية في بريطانيا، وادعى الوقوف الى جانب المعارضة المصرية في الخارج، ولعل لنا عودة للاشارة في مقال مستقل الى أعمال البلطجة المصرية الاعلامية وغيرها، تلك التي ازدهرت في التسعينيات، خصوصا في لندن، ليدرك الجميع أن يد النظام المصري الفاسد كانت وراء المصريين في الخارج، ولم تتركهم لحظه لحالهم. كانت تتابعهم متابعة دقيقة فتمنع عن بعضهم جوازات السفر وتدمر سياراتهم، وتخترع لهم مضايقات تليق بالبيئة الديمقراطية الغربية، بل وتخطف بعضهم الى غير رجعة. إن الارتفاع بسقف المطالبة إلى التغيير في مصر ينبه الغافلين، ويدعو المترددين، ويحذر الانتهازيين والمنافقين الذين قال أحدهم منذ أقل من عام 'إن يوم عيد ميلاد مبارك هو يوم ميلاد مصر'. كيف استطاع ذلك المنافق العبقري أن يختزل تاريخ مصر، ذلك التاريخ الطويل وحضارتها منذ آلاف السنين في عيد ميلاد مبارك. هذه القدرة الفائقة على النفاق تحتاج الى الارتقاء بسقف المطالبة الشعبية لأن تزيل الوضع الذي يعيش فيه مثل هؤلاءالمنافقين، ويحل محلهم من يستطيع أن يصدع بكلمة الحق، ومن المؤسف أن يكون في الوطن أولئك المسؤولون الذين يقبلون هذا النفاق الرخيص. وكل هذا يحتاج إلى تغيير من الشعب الطيب، فالشعب يحتاج الى من يوقظه ولو بشعار واحد يدعو الى التغيير. مثل هذا النظام لم يكن يجدى معه الاصلاح، إذ أن الاصلاح ممكن في الخطأ ولكنه غير ممكن في حالة الانحراف والفساد. أما الدرس الثاني: فيتمثل في كسر حاجز الخوف والتحرر من هذه العقدة المهينة التي سيطرت على الشعب العربي لسنوات عديدة، ولاتزال تسيطر في بعض المناطق الجغرافية من الأمة العربية، يدعمها سكوت العلماء على الظلم، وأحيانا وقوفهم معه في صف واحد. وقمة هذا التحرر من عقدة الخوف قد تمثل بجلاء في المظاهرات التي قامت في تونس وفي مصر وفي البحرين وفي ليبيا وفي اليمن، رغم الأمن الكثيف واليد الغليظة، بل وفي دعم عسكري من دول مجاورة كالسعودية كما في حالة البحرين، لزيادة تعقيد الأوضاع وفتح الباب أمام زيادة قوات الاحتلال أو اشعال حرب جديدة في المنطقة. وكما أن التضحيات العزيزة التي قدمها المتظاهرون في هذه البلاد جميعا قتلت الخوف في النفوس، بل ودفنته حيث لا رجعة، ودفنت معه جزءاً كبيراً من الديكتاتورية والظلم وأعمال البلطجة والنفاق، فالخوف من الظالم طول العمر يقضي على الآمال ويقمع الطموح، ولو أن الاخوان المسلمين وقفوا عند التضحيات العزيزة مرة واحدة او في المرة الاولى فقط التي ضحى فيها الجيل الأول منذ الاربعينيات من القرن العشرين، لما بقي لهم تنظيم ولا حياة، ولما تحدثت الدنيا عنهم اليوم بأنهم القوة الكبرى المنظمة في مصر، رغم السجون والمعتقلات والابتلاءات المتواصلة والتضحيات العزيزة المتمثلة خاصة في دماء الشهداء. ولو بقي الخوف مسيطراً على جميع العلماء، لما وجدنا عالما شجاعا بارزا يفتي بفتاوى عصرية تتفق وروح العصر، وتزلزل أركان الظلم من مثل فتاوى الشيخ القرضاوي، وخصوصا فيما يتعلق بقضية فلسطين وقضايا الثورة ضد الظلم والديكتاتوريات في العالم العربي. فالتحرير من الخوف يجب أن يكون نقطة الانطلاق الأولى والشرارة التي تؤجج المظاهرات والاضرابات والعصيان المدني إذا لزم الأمر. وقد قامت الثورات الشعبية العظيمة حتى العسكرية منها بعد التحرر من الخوف، بل إن تحرير الأوطان من الاحتلال لا يتحقق إلا في ظل التحرر من عقدة الخوف، حتى لو قال الحاكم 'سأظل في الحكم حتى آخر نبضة' كما قال يوما ما مبارك. اما الدرس الثالث: فيتمثل في إن النظام الفاسد الذي يسد كل أبواب التعبير، ويقتل الحريات، ويفتح المزيد من السجون والمعتقلات، ويسدد الضربات المتلاحقة لشعبه كله، خصوصا الى الحركة الاسلامية في أكبر الدول العربية سكانا وربما حضارة مثل مصر، ويعدل الدستور حتى يحظى بسلطات شبه مطلقة لكي يتصرف في الدولة كيف يشاء، ويستمر في الحكم حتى آخر نبضة أو نفس، ويشكل تشكيلات أمنية ضخمة تعيث في الارض فسادا، لن يجد أنصارا عندما تقع الواقعة، ويجد الجد، ويتوقف خوف المواطنين وخاصة الشباب كما شاهدنا في ميدان التحرير في مصر. وسيلجأ النظام وأعوانه إلى وسائل ما أنزل الله بها من سلطان مثل الجمال والخيول لتفريق المتظاهرين، وإبراز فروسية في غير موقعها، وبطولة في غير موضعها. وهذا دليل الضعف وليس القوة، القوة تؤدي الى الحب فيحب الناس الحاكم لعدله وفضله وشوريته لا لقوته على الشعب وقهره الدائم وظلمه المستمر لهم. هذه بعض الدروس، وبقية الدروس المستفادة من هذه الثورات تأتي تباعا بمشيئته تعالى. هل هناك من يتعظ ؟ 'لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب' سورة يوسف