هكذا كانت الحكاية .. نسائم بحر أصيلة، رائحة البحر والبحارة، وشاعرة اسمها إكرام عبدي التي ما فتئت تغوص في ماء القصيدة، عينان تعانقان العالم بكل رحابته وأحلامه وعمقه وصفائه، هكذا هي هذه الشاعرة المهووسة بالطفولة والقصيدة والحبر، هي كذلك وفي جعبتها ديوانان شعريان ‘لن أقايض النوارس′ و'يدثرني الغامض فيك' ثم كتابين اختارت لهما من الأسماء ‘سوف نضطر للكذب' و'مقالات في حالة حداد'، حول برق الكتابة وحرقتها، شموع القصيدة وغموضها وتضاريسها كان هذا الحوار : *ماذا عن البرق الأول في الكتابة؟ *تنسرب من بين شقوق الزمن صورة الطفلة التي كنتها، بجرعات أكبر من الألم والرهافة والحلم، تتفيأ ظلال عزلتها، تستوقفها تفاصيل بسيطة، ضحكة طفلة، نظرة زائغة لشيخ مسن...، مشدودة للإنسان البسيط بكل انكساراته وهزائمه وفرحه البسيط، كنت حرة فقط في هامش غرفتي التي أثثتها بصور نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد... صور كنت أجدها في مجلة ‘العربي' الكويتية تلك التي كانت والدتي تدمن قراءتها، وأتذكر ذلك الحوار اليومي المسائي الذي كان يجمعني بهؤلاء الكتاب في غرفتي، حوارات وجدانية أغبط فيها هؤلاء الكتاب على نعمة الكتابة التي يرفلون في بحبوحتها، وأشكوهم ما أعانيه من آلام وشقاء في حياة أجدني غير قادرة على تحملها ومجاراتها، ولكم كانت بهجتي أكبر، وأنا أجد كتاباتي منشورة في المجلة الحائطية للمدرسة، وبخط عريض كتب اسمي كضيفة الأسبوع الثقافي والإبداعي لمدرستنا، لتصلني رسائل القراء وتتفاعل مع كتاباتي.كانت ولا زالت قضية فلسطين حاضرة بقوة في وجداني ووجدان كل المغاربة، فكتبت عن أطفال الحجارة، عن الانتفاضة، عن الكيان الفلسطيني المغتصب بحسرة ومرارة. هي بدايات مشتتة تائهة، مع العلم أنني أحيا البداية مع بزوغ فجر كل قصيدة، فكتبت آنذاك شعورا ولا أقول شعرا، لكن صدور ديواني الأول ‘لن أقايض النوارس′ لملم شتات كلمات ألفت التيه والترحال، والسفر في احتمالات اللازورد، والانتشاء بوشوشات المحار، والتيه بين فوضى الطحالب، وحررني من أسر البداية نسبيا، وألقى بي في أرض الغواية من جديد، وأشرع نوافذي لولادات جديدة، فهو حبي الأول، الذي عشته على ضوء القمر، لكنه حب وإن كان يرد من معين الصدق الرقراق، يظل باهتا وباردا، لافتقاده للنضج والخبرة، لكن لن أمحوه من مساءاتي، سأظل وفية له كل مساء، في انتظار اكتمال بهائه وتألق سناه. *ما الذي يدفعك إلى القصيدة؟ *الذي يدفعني إلى القصيدة، هو حلم تحقيق كينونتي المشتهاة، والاكتمال بالحرف في جغرافيا مضاءة تذوب فيها التخوم والحدود بين الأزمنة والأمكنة، هو نشدان لمكان قصي خيانة لكل تلك المدن البودليرية الضخمة التي تنوي وأدنا. أهرع للقصيدة، كي أتنفس الحياة بشكل أجمل وأيسر وأبدع، فأنشد رحما ثانيا بالمعنى الفرويدي للكلمة، لأحلامي وطموحاتي وهواجسي، ودثارا صلدا لأغواري وطفولتي وجنوني واستيهاماتي وشفوفي وهشاشتي. في حضن القصيدة، أحلم بولادة روحية جديدة وبجسد آخر لي غير هذا الجسد المنمط الذي صنعه لي الآخرون، تهت في براري القصيدة حين تلبسني القلق واللا اطمئنان واليأس واستبدت بي شهوة اللغة ورحابة المخيلة، حين قررت ألا أملك شيئا كما لا يملكني شيء كما يقول المتصوفة، سعيت للقصيدة حين تيقنت أنني لا أجيد شيئا سوى القصيدة. *وأي جرح عمق فيك هذه التجربة الإبداعية؟ *هو جرح وألم وجودي سري فطمت عليه، طهرني من زيف وقبح ودناءة العالم، ورعى بهدوء وتؤدة جمرة ووهج القصيدة، هو نزيف دائم نقاوم كي نتعالى ونتسامى عليه، وتورط جميل يتنامى ويتعاظم كلما زاد وعينا وقلقنا على هذه الحياة، واشتد عشقنا وولعنا بها، هي معاناة ومكابدة يومية، لكنها تلقي بنا دائما في بهجة وفردوس القصيدة. *ما علاقة القصيدة بالجسد؟ وهل الجسد رؤيا؟ *ثقافتنا الإسلامية سيدت الروح على حساب عبودية الجسد، على عكس ديانات وحضارات أخرى كالفرعونية مثلا، عملت على حفظ الجسد كمحاولة لإضفاء سمة الخلود عليه وكمظهر من مظاهر التمجيد له. والفكر اليوناني عمل على التبخيس من قيمة الجسد المنذور للزوال على حساب خلود الروح وديمومته، حتى أن علاقة الإنسان العربي بجسده بدت متذبذبة وغير سوية تحوم في دائرة المسكوت عنه، ويشوبها الحرمان والنفاق والازدواجية واللاتصالح، الأمر ينعكس بشكل كبير على علاقة الكتابة بشكل عام والقصيدة خاصة بالجسد، بحيث بدت هي أيضا متذبذبة وخجولة وتفتقد للكثير من الجرأة والصراحة والمواجهة، فلا يمكننا الكتابة خارج محفل الجسد بكل خصوصياته وطقوسه وضجيجه وهدوئه وهمسه وفورانه وشغبه وتمرده وجنونه، ولا يجب التعاطي مع الجسد كأداة ومادة تتراوح بين المقدس والمدنس، بل كمعطى وجودي وهوية ذاتية إنسانية وبوعي جمالي وفلسفي وفني، ولن يستعيد الجسد عافيته الإبداعية مالم يتحرر من سطوة المحظور والممنوع والمحرم والتاريخي، ومن وازدواجية رهيبة بين تقديس الجسد ليلا وانتهاكه وتعنيفه والاستهانة... به نهارا، ومن ربط الجسد بالمرأة والجنس فقط، فالقصيدة يجب أن تظل في حالة إصغاء واحتفاء دائمين بالجسد، بعيدا عن أي تصنيف أو إحساس بالخطيئة والإدانة أو الخجل.فللجسد رؤيا إنسانية حضارية وجودية هوياتية تتجاوز كل حصا و ضيق أفق. *لم تكتفين بقصيدتك غموضا، مطرا، جنونا ،حلما ...عريا ومشاتل ورد؟ *أفق القصيدة أفق رحب ومدهش، تماما مثل هذا الأفق اللانهائي للحياة، حيث لا حدود ولا تخوم، نفترش بساط المخيلة ونعيد صوغ تجاربنا الإنسانية وفق أمزجتنا وقراءاتنا الخاصة، فتتناسل العناصر الأربعة، بحيث لا نكتفي بهاته التشكيلة الرباعية لإعادة تشكيل ذاتنا ووجودنا جماليا وفنيا، بل نسافر في المطلق لاجتراح المناطق الصعبة من الوجود البشري، بحرية وجمال وحب وتوق جمالي، فنبتكر عناصر جديدة قد تمتح من نسغ الماء والهواء والتراب والنار، لكنها تتبدى بأشكال وتعبيرات وتلوينات جمة حيث الغموض والجنون والمطر والعري ومشاتل الورد .... )*الكتابة شهوة الذاكرة) حسب شيكل، واكرام ما الكتابة عندها ؟ *بالفعل، بالكتابة نحرر ذاكرتنا من معتقل المقموع والمكبوت والمسكوت عنه، وفي أبهائها نتمرد على كل مؤامرة وتواطؤ خفي لاغتيال كل رغباتنا وجنوننا وشغبنا الإبداعي وتوقنا الجمالي، فتينع شهواتنا التي طالما أسرتها المؤسسات بمختلف أشكالها، حيث العشق والفرح والقول والمرايا والضوء والبحر والمدن والجسد... المشتهى، وحيث شهوة اللغة و السؤال والنقد وإعادة الخلق الجمالي والإبداعي، وحيث السفر في عوالم الصفاء والإشراق والغواية والحرية، والتحرر من كل الانساق المألوفة والجاهزة. ‘*شموعك صباحك'....من أي مشكاة تستلين هاته الأضواء؟ *من عزلة الكتابة التي نهتدي ببوصلتها، .من مساحات العتمة التي تقبض على أرواحنا، من أسوار اليأس والتيه التي تسيجنا، من أكوام المرارات والخيبات التي تتربص بنا، من الطمأنينة القلقة التي تتلبسنا، من الاحتراق الهادئ في جبة الحرف، من (الكتابة كصلاة، وكيد ممدودة في العتمة) فرانز كافكا . *ألا تخشين الضوء؟ كيف تكتبين ولا تحترق أصابعك؟ *السهاد في سماء القصيدة يزيدنا ضوءا، والاحتراق بنار الكلمة يزيدنا اشتعالا ووهجا وشفافية وصفاء نكاية في العتمة التي تسورنا، ونبدو أكثر تطهرا من خرابنا الداخلي وآلامنا، لنسمو إلى عوالم الماوراء، فالشاعر كائن نوراني ضوئي يمضي إلى احتراقه الشعري بوعي أو بغير وعي، فتنفجر المعاني على إثر هذا الاحتراق كبركان على حد تعبير دريدا، وتتحرر اللغة من جسديتها وتخترق حدود المألوف والمحسوس، لتبدو الذات والوجود بماهيات مختلفة أكثر نورانية وإشراقا وصفاء. بعض من قصائدك كالهايكو، هل يعني أن الزمن مكوكي أم هي لسعة القصيدة؟ أظن أننا أمام تشعب الحياة وتعقدها وزخمها، تبقى القصيدة الومضة أو اللمحة أحيانا الأقدر على التقاط تفاصيل خصوصيتنا وحميميتنا بتكثيف واختزال شديدين، الأمر لا يتعلق بالنسبة لي بزمن مكوكي، بل بلحظات تكون خاطفة لا تحتمل الاستطالة ولا أي حشو أو زوائد، لأنها لحظات إبداعية أشبه بالتماعات تدفعنا لوضع حدود معينة لمشاعرنا ولزمننا الشعري. وهذا الاكتناز الشعري يكون له أثر فني مشع أقوى من القصيدة الطويلة، إذا كان طبعا أكثر تركيزا وإيماء ورمزية وانسيابية وتدفقا. *القصيدة التي تحيكينيها هل تتطلب عملية تخزين أم أنها إفراز التخيل والذاكرة والخاطر؟ *قصيدتي كمرآة الأعماق، وكتورط وجداني جميل، ودفق شعوري حر متوقد ممسوس بنبض الروح والوجدان، هي أولا تخزين تلقائي لصور وحالات وتفاصيل قد لا يُنتبه لها في ضجيج اليومي، وانثيالات الروح وتجارب إنسانية وحالات شعورية وأزمنة وأمكنة بكل صخبها وهدوئها وصقيعها ودفئها...، وبعد ذلك، إعادة تشكيل كل ذلك على ضوء مخيلتنا وذاكرتنا وحسنا الجمالي والإبداعي وخصوصيتنا وأسئلتنا الذاتية والوجودية وبشروط جمالية وإبداعية متعارف عليها. *أين تنوين الوصول أنت المتلهفة بالسعي الحثيث والدائم للإمساك بالمعنى الجوهري للحياة؟ *لا أنوي الوصول، الوصول يعني الموت والنهاية، يعني انطفاء تلك الشعلة المتأججة التي تحمينا من اليأس والهزيمة وترعى وهجنا الإبداعي، الوصول يعني نهاية الحلم والجنون والعشق والانزياح وكل ذلك التوق الجمالي، الذي يجعل الحياة ممكنة ومحتملة العيش وكل ما يجعلنا جديرون بهاته الحياة التي نحياها، أنوي الغوص أكثر في بحر الذات والوجود، وتجديد نفسي الشعري، وتلميع لغتي وتطويعها أكثر، ونسج قصائد لا تتشابه أمواجها، والانتظار ولهى عاشقة شاخصة بأحداقي صوب زرقتي، في انتظار قصيدة لم تكتب بعد. *ترى ما الذي يمكن أن تكوني قد عثرت عليه في أرض الشعر بعد تجربتين شعريتين من الرؤى والأحلام؟ *عثرت على وطن حر معطاء ودود أبي شامخ، منحني وهج وبهجة اللحظة، دون أن ينتظر مني مقابلا أو هبات سلطانية، اللهم صدقا وكلمة ‘تخرج من القلب وتقع في القلب' (الجاحظ). احتواني هذا الحضن بكرم حاتمي، لملم شغبي جنوني فوضاي مزاجيتي، نسج كينونتي الحقيقية، جعلني أخوض من جديد في ‘لعبة الوجود'، ظل يسترق بحنو لرنين اللاشعور ولوشوشات وذبذبات وعطور وأحلام تنسرب من بين شقوق الزمن، ليجعلني في سفر دائم خارج مدارات الشائع والملموس والعياني. منحتني ‘الكتابة' وطنا حرا أمارس فيه بوحي بعيدا عن أجهزة التنصت وعيون الرقابة، دون استجوابي أو السؤال عن هويتي، أو جنسي أو مدارسي أو تياراتي، احتوتني وكل ما تعرفه عني أني قادمة من زمن الصمت والعزلة و'العزلة تعني الموت أو الكتابة' حسب مارغريت دوراس، وبقوة الكلمة وقدسيتها نزعت عن عزلتي كفن الموت وألبستها ثوب الحياة والنضارة والبهاء. احتواني هذا الحضن الدافئ، وهو يعرف أنني قادمة من تخوم القلق والسؤال، ولا أبغي سوى أن أكثف من نعومة العالم وأعيد الماء والرونق لواقع عقيم طافح بكل معاني القبح واليباب والدناءة. *ما قصة طلب اللجوء إلى المقالة؟ *فأنا لم أطلب اللجوء إلى المقالة، بل سأظل مقيمة في وطن الشعر، هل للطيور أسرار خارج أعشاشها؟ كما يقول أدونيس، أغوص في تراب عشقه، أودعه أسراري، وأرتحل بين الفينة والأخرى لجزر المقالة، لا تخوم بين الشعر والمقالة، روحي الأصلية تنبض فيهما معا، ولغتي الخاصة تنداح بحرية في سمائهما معا، وهي الأهم بالنسبة لي، أمارس عشقي وإياها، أبادلها أنخاب الحرية والعشق والجمال، فتطاوعني في كليهما وتمنحني نفسها بكل يسر ومرونة. المقالة بالنسبة لي سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، هي فرحة وابتهاج وإن كانت من ضلع الألم وانكسارات اليومي وخيبات وهزائم الإنسان البسيط، هي احتراق يومي، هي فرحة تضاهي فرحة القصيدة. *النوارس، الحب، الماء، أصيلة ... ماذا تثير فيك هذه الكلمات ؟ *النوارس/ وإن استهجنها البعض لكونها آكلة بقابا السمك، فلن أقايضها ما حييت الماء/ في غيابه أكتشف ضعفي الانساني وفي حضوره أستعيد نداوتي. الحب/ أستنشقه في كل ذرة هواء. أصيلة/ أحملها بداخلي أينما حللت وارتحلت.