رحل الروائي الجزائري الطاهر وطار، لكنّ "مقامه الزكي" ما يزال قائمًا بوسط الجزائر العاصمة، ومقام وطار الزكي، ليس سوى جمعية "الجاحظية" التي نذر لها فصلا طويلا من فصول حياته، وحاول أن يجعل منها ملتقى للمثقفين والأدباء الجزائريين مهما كانت توجُّهاتهم الفكرية والأدبية، وشعاره في ذلك "لا إكراه في الرأي". ثلاث سنوات مرّت على رحيل شيخ الروائيين الجزائريين الطاهر وطار، وخلف من بعده على رأس الجاحظية الدكتور محمد تين منذ أكثر من عامين، حدث فيهما ما حدث. عندما زرنا مقر الجاحظية بوسط الجزائر العاصمة، التقينا رئيسها محمد تين، وهو يدخل لتوّه إلى المقر، فأخبرنا أنه منشغل بوضع اللّمسات الأخيرة على الملتقى الفكري الدولي الطاهر وطار في دورته الثانية، وسيُخصّص لموضوع "المثقف وقضايا الأمة"، بعدما تناولت الدورة الأولى التي جرت فعالياتها بالمركز الثقافي عزالدين مجوبي بالجزائر سنة 2011، موضوع الأعمال الروائية للطاهر وطار. ومن المنتظر أن تقام هذه الفعاليات الثقافية، في الفترة ما بين نهاية نوفمبر وبداية ديسمبر، وتكون متزامنة مع الإعلان عن الفائز بجائزة مفدي زكريا العربية للشعر، وهي الجائزة التي أطلقها الراحل الطاهر وطار في حياته. الجاحظية والاستراتيجية الجديدة على عكس ما سارت عليه هذه الجمعية الثقافية، يؤكد رئيسها الجديد محمد تين، بأن الجاحظية اختارت أن تخرج بفعالياتها إلى كلّ ربوع الجزائر ولهذا، من المنتظر أن تحتضن ولاية غرداية ملتقى الطاهر وطار الثاني، ويتمّ الإعلان عن جائزة مفدي زكريا العربية للشعر من هذه الولاية التي تُمثل مسقط رأس هذا الشاعر الجزائري الفذ. وينوي خليفة وطار على رأس الجاحظية، أن يذهب بهذه السياسة إلى أبعد الحدود في السنوات المقبلة من خلال إخراج أغلب نشاطات الجمعية إلى بقية ولايات الجمهورية. وكشف محمد تين عن قائمة الأساتذة الجزائريين والأجانب الذين حدّدت اللجنة العلمية للملتقى مشاركتهم، وأبدوا موافقتهم على الحضور، على رأس هؤلاء الدكتور العوفي من المغرب، عبد المجيد الربيعي عراقي مقيم بتونس، محمد العليان من الأردن وآخرون، إضافة إلى 16 أستاذا مشاركا من الجزائر. وعن موضوع الملتقى يؤكد محمد تين "اشترطنا لتناول التزام المثقف بقضايا الأمة أن يُعرّج المتدخلون في هذه الفعاليات على موقف الطلبة الجزائريين سنة 1956، عندما اختاروا مغادرة مقاعد الدراسة والالتحاق بالثورة، كتعبير منهم عن أقصى درجات الالتزام تجاه قضايا أمتهم، وتأتي بعدها مسائل الربيع العربي، المثقف والخصوصيات الثقافية مع تقديم نماذج عن مثقفين عُرفوا بالتزامهم". جائزة مفدي زكريا العربية للشعر نشأت جائزة مفدي زكريا مع ميلاد الجاحظية، وبدأت جزائريةً محضة، ثم تطوّرت إلى المستوى المغاربي، لتصبح سنة 2007 جائزة عربية وكانت سنوية، غير أنّها نُظمت كل سنتين بدءا من دورتها العربية عام 2009. وفاز بهذه الجائزة اثنان وستون شاعرا وشاعرة من مختلف البلدان العربية، وتوّجت الجاحظية الجائزة المغاربية، بملتقى شعراء جائزة مفدي زكريا المغاربية للشعر الذي انعقد في نوفمبر 2007 في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية. عن جائزة هذا العام يقول خليفة وطار "تمّ الإعلان في الصحف عن الدعوة إلى المشاركة حتى تتاح الفرصة لأكبر عدد من الشعراء الجزائريين والعرب. أما عن قيمة الجائزة فبلغت 500 ألف دينار جزائري، ما يعادل 6 آلاف دولار أمريكي، تكفل بتمويلها الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة". منشورات الجاحظية كشف محمد تين بأنّ "نشريتيّ القصة والقصيدة توقّفتا في عهد المرحوم الطاهر وطار، أما المجلة التي عُرفت بها الجاحظية، وهي "التبيين"، فهي مستمرّة في الصدور، مع أننا قرّرنا توقيف مطبعة الجاحظية لعدم صلاحيتها لأنها تشتغل منذ سنة 1993، وقد طبعنا العدد الأخير من مجلة التبيين لدى الشركة الجزائرية للطباعة، وبعد هذا العقد الموقّع مع هذه الشركة، تعود هذه المجلة إلى الصدور بانتظام باعتبارها مجلة فصلية. وبشأن النشر دائما يرى رئيس الجاحظية، "أنّه بالرغم من توقُّف مطبعة الجمعية، إلا أنّ النشر مستمرٌّ تشجيعا للأدباء الشباب، ونحن نحاول من خلال الاتفاقية التي عقدناها مع إحدى دور النشر الخاصة كما أسلفنا، تجسيد هذا الدعم، خاصة وأنّ الجمعية معفاة من دفع الضرائب، والمؤلف الذي يطبع عندنا، يستفيد من نسبة بين 30 و35 بالمائة، مقارنة بالطبع لدى دور النشر الأخرى. جائزة الرواية تختفي باختفاء الشقة اشتغل الروائي الطاهر وطار من خلال جمعية الجاحظية، على مشروع ثقافي متكامل، لذلك لم يقتصر اهتمامه على فن من فنون الأدب، ولكنّه صبّ جهده ووزّعه على أكثر من صعيد، فبعث جائزة الهاشمي سعيداني للرواية، ولهذه الجائزة قصة طريفة رواها لنا محمد تين كالآتي "..عندما أسّس المرحوم الطاهر وطار جائزة الهاشمي سعيداني للرواية، خصّص لها عائدات عام من كراء شقة كان قد اشتراها تقع بساحة أول ماي بالجزائر العاصمة، وحصل على هذه الجائزة في دورتها الأولى والأخيرة في حياة وطار، الروائي سمير قسيمي عن روايته "تصريح بضياع" سنة 2010 ، وأظنُّ أنّ وطار باع الشقة قبل وفاته، ولم يعد لهذا الوقف وجود الآن وقد آلت إلى الورثة، لكن بالنسبة لنا في الجاحظية، فليس لدينا أي مانع من إعادة بعثها إذا ما وجدنا من يقوم بتمويلها، وكان من المفروض أن تُوزّع جائزتا الشعر والرواية بالتداول على أساس أن تُخصّص بالتداول سنة للشعر، وأخرى للرواية. مقام وطار الزكي لطالما اشتكى الطاهر وطار في حياته من العيوب التي كانت تُميّز مقر الجاحظية، وكانت كثيرا ما تُعيق عمل الجمعية، خاصة في فصل الشتاء عند هطول الأمطار، والتسرُّبات التي تنتج عن السقف المهترئ. تُوفي الطاهر وطار، وما تزال الجمعية تعاني من المشاكل نفسها، حيث لم يتردّد محمد تين في الكشف عنها ".. كون الجاحظية تتوفر على مقرّ به عدة مرافق، فهذا شيءٌ إيجابي، غير أنّ موقع المقر بوسط العاصمة الذي يميّزه عادةً الاختناق المروري، فهذا لم يعد مشجّعا على العمل، هذا إضافة إلى نقص التهوية بالمقر، ما جعل بعض عُمّالنا وكذا المنخرطين يعانون من الحساسية بسبب الرطوبة العالية، أضف إلى ذلك السيول التي تنزل من السقف كلّما أمطرت. كلّ هذه العوامل مُجتمعة تعيق عملنا، ونحن لا نقدر على إجراء إصلاحات على المقر، لضعف إمكاناتنا المالية، ما جعلنا نفكر في تقديم خدمات عمومية لصالح أبناء مدارس بلدية سيدي امحمد، وتنظيم مسابقات خلال الأعياد الدينية والوطنية، في المقابل ننتظر أن تساعدنا السلطات على ترميم المقر. وإذا لم نجد آذانا صاغية، سنكون مضطرين لبيع بعض تجهيزات الجمعية للقيام بعمليات الترميم، ومضطرين أيضا لغلق المقر لإجراء هذه التحسينات، وكذا لإعادة توزيع مختلف مصالح الجمعية كمحاولة لاستعمال أحسن للمكان. نقول هذا مع العلم أنّ الطاهر وطار ظل يبذل قصارى جهده في سبيل البحث عن مقر ملائم، لكن عالجه المرض ورحل، ونحن من جهتنا نحاول جاهدين، مع العلم أنه ليس من السهل الحصول على مقر في الجزائر العاصمة". ميراث روائي يبحث عن الاهتمام ربما يقف السؤال الأهمّ عالقًا، وهو ذلك المتعلق بآثار الطاهر وطار الروائية، وما هي الإستراتيجية التي تعتمدها الجاحظية للاهتمام بهذا الإرث الأدبي، هنا يجيب خليفة وطار ".. تعرفون أنّ آخر عمل كتبه المرحوم الطاهر وطار وهو على فراش المرض كان "قصيد في التذلل" وطُبع، لكن للأسف توزيعه في الجزائر يكاد يكون محدودا أو منعدما، وقلَّما تجد مثقفا جزائريا يملك نسخة عن هذا العمل الذي هو جدير بإعادة الطبع، لأنه يطرح مسألة علاقة المثقف بالسلطة، هذا بالإضافة إلى مجموعة من القصص القصيرة منشورة بالصحف، وجديرة بإعادة النشر أيضا، ونحن على الأقل نفكر في إعادة طبع رواية "الزلزال"، وهي من الأعمال الروائية الأولى للطاهر وطار، في إطار احتفالية قسنطينة باعتبارها عاصمة للثقافة العربية سنة 2015، والرواية تتضمن وصفًا دقيقًا لمدينة قسنطينة عمرانًا وثقافةً وأنفاحًا". ويطرح محمد تين فكرة "إعادة طبع أعمال الطاهر وطار بجدية تلبيةً لاحتياجات القارئ الجزائري أولا، والعربي ثانيًا، خاصة إذا علمنا أنّ مئات الطلبة والباحثين يزورون مقر الجاحظية باستمرار بحثًا عن نسخ من أعماله، وقد سلّمناهم كلّ ما لدينا، وتعلمون أنّ أعمال الطاهر وطار مُقرّرة ضمن مناهج الدراسات العليا في الجامعات الجزائرية، وهذا واجبٌ نحو القارئ الجزائري، قبل أن ننهض بواجبنا نحو القارئ العربي". التنشيط الثقافي تعتزمُ الجاحظية تنظيم ندوات شهرية خلال الموسم المقبل تكون البداية مع موضوع "العربية والأمازيغية.. وطن واحد قضية واحدة"، تتبعها ندوات تناقش عددًا من قضايا الراهن الجزائري والعربي. كما تحاول الجمعية توسيع نشاطاتها في اتّجاهين، الأول التركيز على تجاوز الحواجز القائمة بين مختلف القطاعات الثقافية، وهذا من خلال تأسيس نوادي متخصّصة، وقد تمّ تنصيب عدد منها الموسم الماضي على غرار نادي الشعر بأنواعه الفصيح، الشعبي، والأمازيغي، نادي السينما، نادي المسرح، نادي الإعلام، نادي الفنون التشكيلية.. وغيرها، أما الاتجاه الثاني فتحاول الجاحظية أن تخرج من العاصمة إلى الولايات، وهذا بفتح مكاتب لها للنشاط الثقافي.