تسلم الأمير الحسن بن طلال، أول من أمس في مدينة مراكش المغربية عن الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، وجون دانييل، الكاتب والصحافي الفرنسي، مؤسس مجلة «لونوفال أوبسرفاتور»، عن الضفة الشمالية، جائزة ابن رشد الدولية، في دورتها الأولى، التي أطلقت بشراكة بين جامعة القاضي عياض في مراكش، وجامعة قرطبة الإسبانية، ومؤسسة مرصد البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا. وترمز جامعة القاضي عياض وجامعة قرطبة، من خلال المدينتين (مراكش وقرطبة) اللتين توجدان فيهما إلى مسار الفيلسوف الكبير، ابن رشد، منذ مولده في قرطبة حتى وفاته في مراكش. وتأتي الجائزة لتمثل، بحسب المنظمين، تفعيلا ل«رغبة مشتركة لخلق فضاء للتذكر والنقاش والتقاسم وتعزيز الحقيقة كما فكر فيها ابن رشد، رابطا العقل بالإيمان، وقبول الاختلاف مع الآخر والاعتراف والاحترام المتبادل»، وهي تدخل في إطار مشروع مهم يتعلق بالتميز في منطقة الحوض المتوسطي، يسمى «ميد»، جرى إطلاقه بمبادرة من المرصد المتوسطي. ونظم حفل تسليم الجائزة تحت رعاية العاهل المغرب، الملك محمد السادس، وتميز بحضور رفيع ونوعي من المغرب ومن خارجه، ضم وزراء من الحكومة المغربية، فضلا عن شخصيات، من عالم الفكر والسياسة والاقتصاد. وقال الأمير الحسن بن طلال، الذي تسلم الجائزة من يد أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية لعلماء المغرب، إن اللقاء يمثل «مناسبة تعظم حوار الأفكار بين الشمال والجنوب والمشرق والمغرب»، ملاحظا أن «من يعرف نفسه ويعرف الآخرين لا بد أن يعرف أن الشرق والغرب لا ينفصلان»، متوقفا عند «المنظور المتسامح للإسلام الذي يستوعب السلوك الإنساني في مظاهره المتعددة»، مشددا على الحاجة إلى «مواجهة عوامل التكفير والانغلاق والتزمت والإقصاء التي تفرق ولا توحد»، مشيرا إلى أن «العودة إلى ابن رشد ستؤكد انحياز الثقافة العربية إلى العقل والبرهان واحترام الاختلاف والتسامح والانفتاح على الثقافات الأخرى»، داعيا إلى «البدء بالقواسم المشتركة» في العلاقة مع الآخر، و«الأخذ بمبدأ تجنب الإكراه» وب«الأبعاد الاقتصادية والسياسية في حوار الحضارات». من جهته، استعاد جان دانييل، الذي تسلم الجائزة من يد أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي، ورئيس مؤسسة «أنا ليند»، علاقته بالمغرب وملوكه، وقال «كانت لي فرصة التعرف على ثلاثة ملوك. وأنا أشعر، حين أزور المغرب، أنني في بلدي». وتحدث عن ابن رشد، قائلا إنه ارتبط بالأنوار، في حين يجري الحديث عن عصر الأنوار في فرنسا كشيء مقدس، وبالتالي ظل ابن رشد، دائما، مرادفا للعقل والمقدس. وانتقد دانييل، الذي ولد سنة 1920 في مدينة البليدة بالجزائر، ما يجري في فرنسا، حيث «يوجد هناك من يناهض التسامح والتعددية»، داعيا إلى «استعادة روح قرطبة وفكر ابن رشد»، حتى تشع فضيلة التعايش ويجري القبول بالاختلاف وبالآخر مهما كان أصله وديانته. وتحدث عبد اللطيف ميراوي، رئيس جامعة القاضي عياض، عن ابن رشد، قائلا عنه إن قراءة مؤلفاته تجعلنا «ندرك، بداية، ليس، فقط، خطا فكريا متميزا، بل قوة تحمل سليمة، رغم تحولات الزمن ومحن التاريخ، وخاصة أن حياة الفيلسوف توحدت مع مسار فكري، قام على الترحال والاختيارات الحاسمة، مواجها، بهذه المكانة التي تلخصها صفة (الرجل الواقف)، الظلامية والتعصب في زمنه، ليتجلى أثره الفكري، بالضبط، على خط رفيع بين العقل والإيمان، من دون أن يتوقف عن التقريب والتوفيق بينهما، في إنكار واضح للتعصب وتشتت العقائد من كل نوع». وأضاف ميراوي: «لقد رغبنا في أن نمنح ابن رشد جائزة، تكريما وتخليدا له، وأن نجعل من هذا التكريم، في نفس الوقت، شكلا من أشكال الدعوات الفكرية الملحة والمستعجلة، رغبة في المحافظة على ما يمثله»، قبل أن يتساءل: «أليست الجامعات متعودة على أن تكون كراسي للفهم الإنساني والثقافي؟ ثم، من يمكن أن يكون مؤهلا أكثر من جامعة قرطبة، المدينة، حيث ولد ابن رشد، وجامعة مراكش، المدينة، حيث توفي، لتخليد ذكرى هذا الفيلسوف المتميز، من خلال توشيح شخصيتين تنتميان لضفتي المتوسط». وسجل خوصي مانويل رولدان نوغيراس، رئيس جامعة قرطبة، أن «إطلاق جائزة للاعتراف بقيم التسامح والحوار بين الضفة الشمالية والضفة الجنوبية من الحوض المتوسطي هو تكريم لذكرى ابن رشد وإعادة اكتشاف لهذا المفكر الكبير خلال القرن الواحد والعشرين، الذي تجد فيه فلسفته، أكثر من أي وقت مضى، ولادة جديدة»، مبرزا أن الجائزة تلخص «رغبة مشتركة لنقل النظارة التي يمثلها فعل استعادة فكر عالم ولد بقرطبة، بجنوب أوروبا خلال القرون الوسطى، والذي صار مفكرا مؤثرا من الإسلام بمنطقة الغرب الإسلامي، وفاعلا أساسيا في بناء الفكر المعاصر». وبدوره، أشار محمد عزيزة، المدير العام للمرصد المتوسطي بإيطاليا، إلى أن الأزمة التي يعيشها العالم اليوم «تتميز بتعدد أشكالها، كما أن التشويش الذي نعيشه يهدد القناعات الفكرية القديمة والأخلاقيات، ويحبط الممارسات الاقتصادية والاجتماعية التي سادت قبل الصعود القوي لليبرالية المالية غير المنظمة التي عمقت، من دون توقف، عدم المساواة بين الأمم وداخلها». ولاحظ عزيزة أن «الإسهام في بلورة إنسانية من دون ضفاف، هو ما يفسر احتضان فلسفة ابن رشد ضمن دوائر ثقافية أخرى، خارج دائرته الثقافية الأصلية، وخصوصا ضمن الفكر المتوسطي، خلال العصور الوسطى»، ليختم كلمته قائلا: «اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يتعين علينا إعادة السحر والألق إلى فكر ابن رشد، لنجد فيه الغذاء الأساسي الذي يمكن أن يساعد رجال الزمن الحالي على بعث أنسنة جديدة، يكون في مقدورها أن تقلص مخاطر التعصب والإقصاء، وإعادة تعلم فضائل التسامح، وقبول الآخر والانفتاح على مختلف أشكال التفكير». وتمنح جائزة ابن رشد لمفكرين معاصرين يتموقعون ضمن الخط الفكري لابن رشد، مع سعيهم، من خلال أعمالهم، إلى المساهمة النوعية والراهنة في سبيل بلورة أنسنة حديثة للقرن الواحد والعشرين، في منطقة الحوض المتوسطي، وفي غيره من مناطق العالم. وستمنح، سنويا، إلى مترشحين، ينحدر أحدهما من الضفة الشمالية والآخر من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، على أن ينظم حفل تسليم الجائزة، كل سنة، على التوالي، بمراكش وقرطبة. ويعد ابن رشد، الذي ولد سنة 1126، بقرطبة، وتوفي سنة 1198، بمراكش، من أبرز الوجوه الفكرية التي طبعت تاريخ الأندلس، إذ عرف عنه تنقله باستمرار بين ضفتي المتوسط، في حين يشهد منفاه ومحنته على الثمن الذي يمكن أن يؤديه الفكر الحر والمتنور. ومن بين ما كتب عنه أن عظمته ترجع إلى «الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون».