مصر تنحرف يمينا. سمعت هذه العبارة يرددها أصدقاء في مصر وخارجها. عبارة من ثلاث كلمات تلخص حالة وتعبر بصدق وصراحة عن تطور في مصر لا تخطئه عين. يراه بعضنا تطورا مفاجئا وخارج سياق، فمصر التي ما زالت نظريا على الأقل في حالة ثورة، نراها تبدو كما لو كانت تعرض التنازل عن حقوق الشعب في المشاركة السياسية وعن شيء من كرامته وانسانيته وعن جانب من حرية المواطنين في التعبير عن الرأي وتنظيم أنفسهم سياسيا ونقابيا، والقبول بالعودة إلى أوضاع ما قبل الثورة. مصر ليست وحدها على كل حال. أتطلع حولي فأجد القارة الأوروبية من أدناها إلى أقصاها «جانحة» نحو اليمين، فالناخبون هناك يصوتون بنسب متصاعدة لتيارات وأحزاب متطرفة في مواقفها المناوئة للحريات والحقوق، أحزاب لا تخفي اصرارها على الوصول إلى السلطة عن طريق صندوق الانتخاب والعملية الديموقراطية وتعلن أنها فور توليها الحكم لن تتوانى عن تكميم الأفواه وخنق الحريات كإجراءات ضرورية لتثبيت مواقعها وانها ستقوم باستئصال خصومها. الأمر الذي دفع بمفكرين غربيين لإعادة النظر في نظرية الديموقراطية وأدواتها. معنى هذا أن قطاعات من شعوب اوروبا ومصر أيضا وسوريا وليبيا وتونس قطاعات ليست صغيرة الحجم مستعدة لأن تختار بإرادتها الحرة من يتولى السلطة ليمارس الاستبداد، ويكبل «هذه الإرادة الحرة» حتى لا تأتي بغيره إلى السلطة بعد انتهاء مدته. لماذا هذا الجنوح لليمين المتطرف عندهم، ولماذا هذا الميل للانحراف بالثورة يمينا عندنا؟ لكل بلد في أوروبا مشكلته الخاصة، للنمسا مشكلتها وكذلك لبريطانيا وبلغاريا وتشيكيا وفنلنده وهولنده وفرنسا والمجر. ولكن لها مجتمعة مشكلة عامة أوروبية، أو قل رأسمالية. فقد تجرعت هذه الشعوب على مدى السنوات الأخيرة كأس «كوكتيل» مريعة، بل لعلها شديدة السمية. يتكون المزيج من مكونين كل منهما ضار وهما: البطالة والتقشف. شعب يشرب هذه الكأس حتى الثمالة، وكثير من شعوب أوروبا شربتها، هو فريسة سهلة وطيعة لتيارات اليمين المتطرف، فريسة لا تحتاج إلى جهد كبير للغواية أو الاقناع. هناك في كل هذه البلدان، وفي الولاياتالمتحدة حيث نشأت وترعرعت حركة يمينية متطرفة على هامش الحزب الجمهوري أطلقت على نفسها اسم «حزب الشاي»، هيمنت البطالة وتفاقمت مشكلة الهجرة وتراجعت الدخول الحقيقية للأفراد واستحكم اليأس حتى أن المستقبل في بلد مثل أميركا التي اختارت منذ قرون الحلم عقيدة سياسية، صار موضوعا ثقيلا تتهرب منه الأحزاب والقوى السياسية. لا نبالغ ان قلنا إن هذا الوضع استفحل خلال العامين الأخيرين حتى أصبح في نظر معلقين ومحللين أمرا عاديا. يطلقون عليه «العادي الجديد» في دول عديدة مثل روسيا والبرازيل ودول في شرق اوروبا. هناك غضب في قاع المجتمع وغليان فوق السطح. العين لا تخطئ رؤية خليط من غمامة اكتئاب وغبار تشاؤم وسموم يأس تخيم في سماوات دول عديدة نعرفها ومصر واحدة منها. أجواء تتنفسها قوى اليمين المتطرف فتزداد قوة وثقة بنفسها وتعيد بثها في آذان الشعوب لتصوت أو تتحمس لها كبديل أوحد. وبالفعل راحت قطاعات في الشعوب الأوروبية تصوت لممثلي التيارات النازية والفاشية والشعوبية والإرهابية والعنصرية، ووصلت نسبة الفوز في انتخابات عديدة إلى 20 في المئة. هذه النسبة غير مألوفة في التاريخ الحديث باستثناء المرحلة السابقة على وصول الفاشيين إلى حكم ايطاليا والنازيين إلى حكم ألمانيا و«الإخوان» إلى حكم مصر وتونس. لذلك يسود اعتقاد بأن الانحراف الراهن نحو اليمين قد يكون إشارة مبكرة من الشعوب تتضمن رسالة منها إلى بعض النخب السياسية المهترئة تحت ضغط الأزمة السياسية الاقتصادية بأنها تعتزم زيادة تصويتها لقوى ومؤسسات حاضنة لليمين، سواء الدينية منها كما في أفغانستان والعراق، أم غير الدينية، مثل التيارات الجديدة في أوروبا وأنظمة حكم عسكرية أو شعبوية في دول مثل مصر وتونس والجزائر وسوريا واليمن، وكذلك في دول في أميركا اللاتينية و أفريقيا مرشحة هي الأخرى لانتكاس ثوراتها. لن انضم إلى المثقفين الذين يحملون مسؤولية هذا الانحراف كاملة للأحزاب الليبرالية، والمدنية عموما، التي فشلت في إقامة أنظمة حكم ديموقراطية مستدامة. المسؤولية تتحملها جهات متعددة. في مصر مثلا لا نستطيع أن ننكر أن المجتمع، على عكس ما ندعي وندعو، يتصف بالعنف. فقد عرفت مصر الاغتيالات السياسية والتظاهرات العنيفة والخلافات الحادة بل الشرسة أحيانا بين الأحزاب السياسية. عرفت العنف ربما أكثر مما عرفته معظم دول العالم الثالث. يذكر أبناء جيلي جيدا الصراعات الدموية التي كثيرا ما كانت تنشب في ساحات جامعة فؤاد الأول قبل ثورة 1952 وبعدها. نحن نبالغ عندما نصف المجتمع المصري بالمجتمع المسالم وغير العنيف. هذا المجتمع لو كان مسالما بطبيعته كما درجنا على وصفه، لما اخرج جماعات إرهابية وما سمح بقيام أحزاب دينية متطرفة وما دعم وشجع حكومات استخدمت قوى الأمن وأساليب القهر للاستمرار في الحكم أكثر مما استخدمت الحوار والتعبير الحر عن الرأي، بل لعله ما كان ليسمح بأن تتردى البلد إلى منحدر الاستقطاب الراهن. يحاول أكثر من مراقب للتطورات السياسة في أوروبا تصوير المجلس التشريعي الراهن في اليونان كنموذج لبرلمانات سوف تتشكل نتيجة انتخابات تجرى في معظم دول أوروبا وكذلك في مصر في العام المقبل. ففي المجلس التشريعي اليوناني المنتخب في العام الماضي يوجد متطرفون من التيارات كافة، يوجد ستالينيون وماويون ويساريون شعبويون ويمينيون متطرفون ويمينيون عنصريون شديدو التطرف والتعصب. فيه أيضا ممثلون لجماعات «أنصار نظريات المؤامرة». أغلب هؤلاء لا يثقون بالديموقراطية والحريات والحقوق. أغلبهم يمينيون «سياسيا «وأقلهم يساريون اجتماعيا وفكريا أو أكاديميا. جاء هذا المجلس في أعقاب مرحلة هيمن فيها على اليونان اليأس والاكتئاب وانتشار الكراهية الشعبية لكل السياسيين المدنيين الذين جروا اليونان إلى حافة الكارثة. مرحلة عاد فيها الناس يفكرون في جدوى اللجوء إلى المؤسسة العسكرية لإقرار النظام والتخلص من الفاسدين والمفسدين من السياسيين ورجال الأعمال، مرحلة شهدت تلميع جهابذة الفكر الضيق المحدود والانعزالية في السياسة الخارجية وشيوع ظاهرة العمى الإيديولوجي وتغلغل الانتهازية العميقة في شتى الأنشطة السياسية والاجتماعية. في اليونان حدث كل هذا. حدث أيضا أن القدر رفض أن ينعم على شعب اليونان بحكومة تضم كفاءات على مستوى هذه الأزمة. "السفير" اللبنانية