مصر أم الدنيا.. أرض الكنانة.. مصر المتخيل والتاريخ والواقع، أبداً حبلى بالعطاء والجديد. ظلت مصر أبداً منارة للاجتهاد والتنوير. حملت مشعل العروبة والإسلام والفكر الحديث منذ عصر النهضة، وظلت مشاركتها طليعية في مختلف محطات التحول العربي، فكانت بذلك قلب العروبة النابض بالحياة. ظل هذا القلب النابض أبداً في وجدان وذاكرة العرب جميعا. عرفناها من خلال صادق الرافعي والعقاد، ومن خلال طه حسين والبهبيتي، وسيد قطب ومحمود أمين العالم، كان الإبداع والفن والفكر ينبع من أرض الكنانة متنوعا ومتعددا، وقد صارت قبلة للفنانين والمفكرين من مختلف البلاد العربية. وكانت المعارك الأدبية والثقافية والسياسية مجالا خصبا للتحفيز على التفكير، ودعوة إلى الحرية الفكرية والفنية بمسؤولية ووعي. ظلت هذه ال«مصر» اختزالا لكل «الأمصار» العربية، ولا يمكن مهما تحولت الظروف أو تغيرت الأحوال إلا أن نفرح لفرحها، ونحزن لما يصيبها من مدلهمات. فرحنا لمصر في ربيعها الينايري الذي اعتبر بداية للتحول نحو استرجاع أرض الكنانة مكانتها باعتبارها منارة للتفكير والتجديد والحرية. وها نحن نحزن الآن لصيفها الحزيراني الذي يفتح المجال واسعا للتساؤل عن الحال والمآل. من المحير أن ما وقع منذ 25 يناير أثار أسئلة كثيرة حول طبيعته: أهو ثورة؟ أم حركة شعبية؟ وتثار الأسئلة نفسها عما حدث بعد 30 حزيران: أهو انقلاب أم ثورة؟ والأعجب أن الإدارة الأميركية، بخبرتها وخبرائها واستراتيجييها، لا تزال في وضع الباحث عن الجواب الذي لا تريد الانتهاء إليه؟ لكن الإجوبة الحاسمة تجدها لدى الشعب المصري، وعند وسائل الإعلام العربية حسب اصطفافها وموقفها مما يجري في أرض الكنانة؟ لا تخرج الإجابات عن ثنائية الموقف: مع أو ضد ما يجري. وبحسب الموقف المسبق: هناك من يؤكد أنها الثورة أو يسجل أنه الانقلاب. هذا الازدواج في الموقف لا يعني إلا أننا أمام رؤية الواقع كما يريد أصحاب الموقفين المتضادين، وليس كما هو في الحقيقة. وبحسب الثنائية نفسها، صرنا أمام شرعيتين، وساحتين تتقاسمهما المواقف والرؤيات. وفي خضم هذه الصيرورة وقد باتت البلاد على صفيح ساخن، اشتدت المناداة حول «المصالحة الوطنية». ألا تستدعي هذه المصالحة بدورها أن هناك موقفين، وأن أحدهما يريد فرض ما يقع لفائدته مع إنكار مطالب الآخر؟ من «الثورة» إلى «التمرد» جاء الربيع العربي ليضعنا أمام مرحلة جديدة من التطور. والتف الشعب العربي، في الأقطار التي تحقق فيها، بكامله حولها مرددا شعار «رحيل» مرحلة، لتحل محلها أخرى. كانت الميادين تتسع لكل الأطياف السياسية والاجتماعية، ولسان حالها، وهو يرتفع ضد الفساد، يحلم بحقبة جديدة. وكانت الانتخابات التي أوصلت الإسلاميين إلى السلطة. أليست هذه هي الديموقراطية التي جاءت لتضع المجتمع أمام مرحلة جديدة من التطور والتغيير؟ لكن، الآن، وفي خضم أحداث 30 حزيران، بتنا نقرأ ونسمع محاولات للتشكيك في إمكان تحول المجتمع عبر صناديق الاقتراع؟ ولا بد من انتهاج أساليب جديدة للتغيير. جاءت حركة «تمرد» رد فعل على سياسة الإخوان وأخطائهم، وانتهت بوضع الرئيس رهن الإقامة الجبرية، واعتقال مسؤولين إسلاميين وحجب قنوات إسلامية. انقسم الشعب المصري إلى ساحتين، إحداهما للتحرير، وأخرى لرابعة العدوية. وفي المغرب، بعد 30 يونيو، رفعت أصوات شبابية صدى «التمرد» ليكون في 17 غشت 2013؟ وانسحب حزب الاستقلال من الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، أملا في ممارسة محتوى ما آلت إليه الأوضاع في مصر. وفي تونس تم الإعلان أن ما يجري في مصر لا يمكن أن ينسحب على ما يقع في تونس. لا نريد التوقف أمام التطورات التي أعقبت الربيع العربي، وما صاحبتها من أحداث ووقائع، لأنها معروفة، بشكل أو بآخر، للجميع. لكن ما نود التنبيه إليه هو أن ما تراكم من ممارسات سياسية وتصورات إيديولوجية لدى «النخبة» السياسية ولدى الشعب لا يمكن إلا أن يسلم إلى أن الأوضاع مرشحة للمزيد من التعقيد، وأن الأفق غير قابل للتحديد، وأن التدبير الذي يمكن ان يسهل عملية التطور والتغيير غير ناضج لدى كل الأطراف التي يمكن أن تسهم في وضع «خارطة الطريق» المؤدية إلى برالتشييد والبناء. من أجل المصالحة لقد أدت صناديق الاقتراع التي ساهم فيها الشعب إلى إحلال الإسلاميين موقعا على رأس هرم السلطة. لكن هذا الصعود ورَّط الصاعدين، وأزَّم المناوئين. لم تحترم إرادة الناخبين (الشعب) سواء من لدن من صاروا في الحكومة، أو ممن ظلوا في المعارضة، لأن كلا منهما يشتغل بوحي أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة. فكان التجاذب والتنابذ. ولا يمكن أن ينجم عن ذلك غير العنف والعنف المضاد. ولن تكون النتيجة غير تقسيم الساحة، وتوزيع «الشرعية»، وكلٌ يدعي الحق إلى جانبه، وهو يدافع عن أطروحته، مخونا الآخر، أو مكفرا إياه. إن المشتغل بالسياسة في العالم العربي، لأنه ترعرع في ظل عقود طويلة من الاستعباد والاستبداد والفساد، يحمل في متخيله صورته، ولذلك فهو عندما يصبح في موقعه، لن يكون إلا هو؟ ولذلك فهو مع الهيمنة، وضد احترام الآخر، ولن يعدم المبررات التي تسوغ له ادّعاء امتلاك الحقيقة والشرعية. إن تنازع الشرعيتين والساحتين في 30 حزيران، ليس تنازعا حول من يمثل الشعب، وقد صار «شعبين»، أو يحكم باسمه، أو يحقق آماله، ولكنه تنازع حول من يمكنه أن يتسلط، أو يلغي الآخر النقيض؟ وما دامت هذه هي الرؤية السائدة، فأي حديث عن المصالحة الوطنية محض افتراء وادّعاء، ما لم تتغير نظرة النخبة إلى السياسة والمجتمع. كان من نتائج تخلف النخبة السياسية العربية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أن ساد سوء الثقة بين مكونات المجتمع السياسي، وهيمن إلغاء الآخر بين المشتغلين بالسياسة لحسابات سياسوية ضيقة. فكانت الحصيلة أن تسيدت الانتهازية والوصولية، وغابت القيم والمثل الوطنية والديموقراطية في التصور والممارسة. ولقد ساهم كل ذلك في غياب التواصل بينها وبين من تدّعي تمثيلهم أو الدفاع عن قضاياهم... وكل الشعارات التي كانت ترفع حول احترام الآخر المختلف معه، بل والذهاب إلى حد الدفاع عنه، (كان هذا شعار مجلة الطليعة المصرية) صارت نسياً منسياً. الكنانة الثقافية دجنتها نبال السياسة البئيسة وقتلتها منذ أواخر السبعينيات. وحين تستعيد أرض الكنانة عمقها الثقافي التاريخي، ويصبح أطراف الصراع فيها قادرين على خوض المعارك السياسية والثقافية بالحوار والنقاش الجاد والرصين، وباحترام الآخر، والقدرة على ممارسة الاختلاف، يزول التخوين والتكفير، وترتد النبال السياسية على أصحابها، فتكون الشرعية الحقيقية، وتستعيد الساحة إشعاعها وألقها وريادتها على المستوى الوطني والعربي. وبذلك تكون «المصالحة» الوطنية الحقيقية بلا تأولات بعيدة وعابرة، أو تهويمات تحليلية زائفة.