I ثورة الكسكس كانت الجزائر على وشك التغيير. تعب الشعب من حكم العسكر، ذبلت «جبهة التحرير» وتحوّلت قياداتها إلى موظفين برتب عالية ومرتبات فخمة. ولكي لا يأتي التغيير من تحت، امتثلت السلطة الحاكمة والمتحكمة، لنصائح «الأصدقاء الأوروبيين والأميركيين»، فدعت إلى انتخابات نيابية، مطمئنة إلى أن تراثها كاف لإثبات جدارتها في الحكم واستمرارها فيه، وستبرهن صناديق الاقتراع على صدق توقعات الطغمة العسكرية الحاكمة وقادة «جبهة التحرير» العجوز. فلا أحزاب ولا يسار ولا قيادات غير القيادات الدينية. السلطة، في أنظمة الاستبداد، تصدق أرقامها. تكذب وتصدق كذبتها. لا تسمع غير صوتها. كل صوت آخر فحيح مؤامرة. السلطة دائماً على حق، ولو ارتكبت. تدّعي أنها تعرف كل شيء وعن كل شيء. عيونها المبثوثة والعسس، ينقلون إليها كل همسة وكل نأمة. لا يفوتها المكشوف او المستور. تطمئن إلى أن الصمت الشعبي، دليل على نجاح سياسة: نفذ ولا تعترض، ورأس الحكمة طاعة الحاكم بأمره. فات السلطة في الجزائر، أن اقتران الاستبداد والتسلط بالإفقار والإذلال، يؤلب العمق والسطح معاً. وفاتهم، أن شعب الجزائر، هو شعب المليون شهيد، وأن إسكاتهم بتعظيم الماضي، ينفع قليلا ويستفز كثيراً. خبز الثورة اليابس، طعمه مذل. كان زمن التحرير قد ولى، وهواري بومدين قد رحل، وتولت السلطة طغمة عسكرية، بواجهة كسولة يُطمأنُّ إلى ضآلتها وإلى طاعتها وعدم خروجها عما تقرره القيادة العسكرية، الممسوكة من قبل جنرالات، كلما ذكر اسم أحدهم، ارتعدت فرائص الناس. في ذلك الزمن، بدا كل شيء باهتاً ولا حياة فيه. السلطة لا تغري إلا أصحابها. ملعونة صارت. فضائحها بلغت حداً غير مسبوق. ديون الجزائر، سنتذاك (1991) تساوي حجم المنهوب والمودع في مصارف أوروبية. 25 مليار دولار من الديون، هي بالتحديد حجم أموال الفساد المهرب إلى الخارج. في ذلك الوقت... كان صحن الكسكس عزيزاً جداً. والشعب على وشك ان يعلن ثورة الكسكس... أو ثورة الجياع في الجزائر. II الإسلام يفوز على العسكر الجولة الأولى من الانتخابات التي حصلت في شهر كانون الأول 1991، حملت مفاجأتين، كل واحدة زلزال. الأولى: سقوط مرشحي «جبهة التحرير»، وعدم تأهل أي واحد منهم من الدورة الأولى. الثانية: فوز مرشحي «جبهة الإنقاذ الإسلامي»، برئاسة عباسي مدني وقيادة علي بلحاج، بالأكثرية المطلقة، وتوقع فوز كثيرين آخرين في الدورة الثانية، بنسبة تصل إلى ثمانين في المئة. لا يعود سبب الفوز الساحق للإسلاميين إلى الله والإيمان به، فالسبب الحاسم كان: «الكفر بالسلطة إلى درجة الإجماع... إلا قليلا». تغيّر المشهد. لقد عرّت الديموقراطية في خطوتها الاولى، كامل جهاز السلطة وزمرتها العسكرية. تغيرت لغة التخويف: «الاسلاميون سينقلبون على الديموقراطية بعد فوزهم... الاسلاميون سينقلبون على صناديق الاقتراع... معهم يقال: وداعاً للحرية». قد يكون ذلك محقاً نظرياً، ولكنه لم يكن قد حصل بعد. غير أن الذي حصل، هو انقلاب العسكر على العملية الديموقراطية، قبل إتمام الدورة الانتخابية الثانية. العسكر قطع عنق الديموقراطية فور ولادتها. أحياناً، يكون العسكر أفدح من الحركات الإسلامية. لقد ثبت ذلك بالبرهان التاريخي، العرب في تاريخهم الحديث، وقعوا فريسة عدوانين: واحد عسكري خارجي، وآخر عسكري داخلي... سجل العسكر العربي لا يشرّف الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والكرامة والحياة الطبيعية بمستوياتها الدنيا.. تراث العرب الحديث معلون. لعنته، طغيان العسكر فيه. ويبدو ان لدى الحركات الدينية ميل لوراثة العسكر، والسير على نهج تسلطهم. بئس هذا الإرث المزدوج. III مسدس في رأس الرئيس شاهد عيان يروي ما يلي: «كنت في مكتبي في المجلة، على وشك عقد اجتماع تحرير للبحث في العنوان الجزائري وصورة الغلاف. فجأة يدخل عليَّ مسؤول الشركة التي تتولى شحن المجلة، مع سواها، إلى الدول العربية، المتسامحة مع المجلة. سألني إن كنت مستعداً لسماع أمر هام، لا يتعلق بالشحن وهمومه ومواعيده. وهو أمر كنا نشكو منه ويشكو منه أكثر. استمعت إليه بخفة أولاً، ولما بلغ المقصود أصبتُ بذهول: «ستلغى العملية الانتخابية». لم أسأله لماذا، بل كيف وما هي العواقب، فالرئيس الشاذلي بن جديد، مستمر في إجراءات إكمال الدورة الثانية. وجدني محدثي في مقام التحليل، وليس في موقع رصد المعلومات، فأماط اللثام عن مصدره: «إن ما أقوله لك، مصدره الجنرال خالد نزار وزير الدفاع الجزائري». بعد أيام قليلة، سيكون أمام الشاذلي بن جديد إما أن يوقع قرار الإلغاء، وإما يوقع قرار استقالته. ممنوع أن يرفض. سيوقع والمسدس مصوب إلى رأسه». يقول شاهد العيان هذا، إن مندوب الرجل القوي خالد نزار، اقترح عليه حتى صورة الغلاف للمجلة: «بن جديد خلف مكتبه والمسدس إلى رأسه». استغربتُ ذلك. ولم أستوعب الخبر، لإدراكي حجم المخاطر التي ستتعرض لها الجزائر، خصوصاً أني عشت أيام القمع فيها، وصعود الإسلاميين القوي، وضمور اليساريين المخيف، بسبب ما تعرضوا له من قمع واضطهاد. أفاض في التفاصيل وقال: كل شيء بات جاهزاً. السجون في تندوف وبيشار في الصحراء، وأطراف المدن النائية باتت جاهزة لاستقبال أكثر من عشرين ألف معتقل». يقول شاهد العيان: لم أقتنع. قلت لمحدثي، هذا جنون، لا يقدم عليه إلا مغامر دموي. ستدخل الجزائر في نفق دموي، مقفل من الأمام ومغلق من الخلف. ومثل هذا القرار يشبه «عليَّ وعلى أعدائي يا رب». شاهد العيان، رئيس التحرير في المجلة الصادرة في باريس، انحاز إلى عقله السياسي، حيث صح ما توقعه، وخسر السبق الصحفي. أهمل المعلومة المدمرة والمخيفة، التي تحققت فصولها بسرعة. ففي الحادي عشر من كانون الثاني سنة 1992، استقال بن جديد ودخلت دبابات خالد نزار المدن وألغيت العملية الانتخابية وامتلأت السجون بالإسلاميين. وغرقت الجزائر في دمائها، واستمر نزفها عشر سنوات، دفعت فيها ثمن إلغاء الحرية ما يوازي ما تكبدته من أثمان، لاستعادة الحرية من فرنسا، في معارك التحرير. فماذا عن مصر؟ مسدس الجنرال نزار، أطاح الإسلاميين والديموقراطية. مسدس «الجنرال» في مصر... بمن سيطيح بعد مرسي؟ IV مصر لا تشبه الجزائر الميادين في مصر لا تمت بصلة إلى باحات المساجد في الجزائر. حملة الثورة الأولى والثانية، لم يتسلحوا بالآية ولا بالدين. جموع مصرية لم تأت من تفسير أو اجتهاد. ولدت من المعاناة الحقيقية والإحساس بالظلم والقهر، والشعور بالمهانة والحاجة إلى «الحرية والخبز والكرامة». جموع مصرية ليست من صناعة حزبية متزمتة ومن نتاج إيديولوجيات فوقية، ومن معتنقي مذاهب دينية سياسية، هي جموع تصنع ثقافتها من خلال وعيها ومعرفتها وتجربتها واتصالها بالمعارف الكونية المتاحة عبر وسائل التواصل الحديثة. الذين بدأوا الثورة في مصر، شعب بكر، ما مرت عليه من قبل انتهاكات محبطة. أما الذين جاؤوها بعد ذلك، من الإسلاميين متعددي الاجتهاد والفتاوى، فقد تواءموا مع جماهير الشعب في إزالة الاستبداد وإسقاط طغمتها، واختلفوا معها، على كل ما بعد ذلك. حتى «الإخوان»، بصيغتهم الجديدة، ما قبل الثورة التي فجرها جيل الشباب، لا يشبهون إسلاميي جبهة الإنقاذ الجزائرية، ولذلك فضل زعيم شبكة الإخوان المسلمين في الجزائر محفوظ نحناح، الانضمام إلى «الإنقاذ». علماً أن نحناح هذا، كان إخوانياً كلاسيكياً قطبياً جعل من الاسلام المتعدد «ديناً ودولة، إيماناً وقانوناً، كتاباً وسيفاً، أعراقاً وأمة، أخلاقاً وسلوكاً». وهذا يختلف عما يقوله دعاة جبهة الإنقاذ، بلسان علي بلحاج: «إن كلمة حرية هي من السموم الماسونية واليهودية الهادفة إلى إفساد العالم على نطاق واسع... لذلك سنمحو قدر المستطاع، هذه الكلمة من القاموس». وبالغ هؤلاء في وضع العنف في مصاف المقدس: «سنقضي عليهم بالكلام الحق... إننا لا نقلل من قيمة السلاح، فلا تستحق السلطة الفاسقة والكافرون الموت بالرصاص، لأن في أثناء حرب التحرير، كان يجري ذبح الخونة، ولم يطلق عليهم الرصاص. للثورة على الاستبداد السياسي، مبررات كثيرة. وللثورة على الاستبداد الديني مبررات وجيهة. الذي اصطدم في الجزائر هو استبداد عسكري مقيم، ضد مشروع استبداد إسلامي محتمل. فاز الأول وخسر الثاني، غير ان الخسارة الكبرى كانت في تأجيل الحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة، إلى أجل غير مسمى. مصر ليست كذلك. لن تتجزأر أبداً. فالثورة نهضت بأدوات مدنية، بلغت في الربيع الثاني، ما يقارب الثلاثين مليوناً. وهذا حشد يستطيع ان يكون القاعدة الصلبة التي عليها يعلو بنيان الدولة المدنية الديموقراطية العادلة. الإسلاميون في مصر، كانوا طارئين على الثورة. لم يكونوا في بدايتها، وما كانوا أمناء لها قبل «نهايتهم» من على منصة السلطة. جيش مصر لا يشبه جيش الجزائر. الطغمة العسكرية بعد هواري بومدين، قبضت على مقدرات البلاد بالكامل، الجهاز السياسي فيها يسير «بالروموت كونترول». ما تقرره القيادة العسكرية تنفذه الارادة السياسية. هذا لم يحدث في مصر، برغم الثقل المعنوي للجيش فيها. ظلت المسافة معقولة، بين نفوذ العسكر ونفوذ أهل السياسة. وعندما اندلع الربيع العربي، عملت القيادة العسكرية، على تأمين الانتقال السلمي، من عهد الاستبداد، إلى الديموقراطية، ولما قبض الاسلاميون على الديموقراطية، وخرجت الملايين إلى الميادين، التف الجيش حول ما يطالب به الشعب. الجيش المصري ليس طغمة عسكرية، حلت أو تسعى لأن تحل محل السياسيين. V لا خوف على الإسلاميين مصر الديموقراطية غداً، لن تكون ضد الإسلاميين. المجتمع المصري متعدد، قواه السياسية متباينة، مدنية وقومية وناصرية وليبرالية وإسلامية بأشكال مختلفة. هذه القوى لها حضور شعبي وازن، لا يستطيع أحد إلغاء أحد. ولا أن تستأثر جماعة بالسلطة. درس استئثار «الإخوان» بليغ. الطريق أمامهم في السياسة مفتوحة على مصراعيها، إذا راجعوا تجربتهم واعتبروا. الإسلاميون في الجزائر، تطلب إلغاؤهم عن المسرح السياسي عشر سنوات من العنف والقتل والمجازر. هذا لن يحدث في مصر. الإخوان، جزء من تاريخ مصر الحديث، والتعامل معهم لا يكون بالإقصاء بل بالندية. وإذا أقصوا أنفسهم، فتلك ليست مسؤوليتهم وحدهم، بل مسؤولية القوى كافة، لاستعادتهم إلى الساحة السياسية. لأن الإقصاء والنبذ، يولدان العنف، ولو كان عنفاً لا يصل إلى فداحة العنف في الجزائر. هل الأبواب مفتوحة للإخوان؟ الإسلاميون الآخرون مشاركون في المرحلة الانتقالية وسيشاركون في السياسة في ما بعد، بالحجم الذي يحوزون عليه. وإذا كان الإسلامي يخيف المدني، بسبب تلازم عقيدته الدينية بالسياسة، فلا يجب ان يخيف المدني الإسلامي، عبر لجوئه إلى العسكر. أمام مصر حقبة جديدة، لتبتدع فيها صيغة حكم ودستور وعقد اجتماعي وسلطة سياسية، تكون استجابة لمقتضيات الواقع وتعدد الاتجاهات والانتماءات، وتشابك المصالح. الصيغة الجديدة لمصر، تؤمن لها السلم الأهلي، وإطلاق عملية الإنتاج، كدولة حديثة، قادرة على ممارسة دور القيادة، والأهم ان تكون الدولة النموذج. هل هذا حلم؟ هذه الثورة المليونية، جديرة بأن يكون لها حلم بمصر دولة ديموقراطية حاضنة لجميع أبنائها، عصرية، منتجة، وعاملة على ردم الهوة التي تجعل من القلة القليلة، في بحبوحة فاحشة، والأكثرية الكثيرة في فقر مدقع. مصر تستحق، بملايينها، ألا تكون تحت هيمنة أميركية، وألا تعامل كمتسول وصاحب حاجة، يتكرم عليها أهل النفط، لشراء ولائها في القضايا الإقليمية. مصر، أم الدنيا؟ فلتكن اليوم وغداً، أم العروبة، وهذا يكفي. "السفير" اللبنانية