ثلاث ثورات هائلة تبدو متزامنة لا نعرف لأي منها بداية أو نهاية، وربما لم يحدث في التاريخ الإنساني أن اجتمعت هذه الثورات في لحظة واحدة، ولا بدا الإنسان عاجزا إزاءها كما يبدو الآن. ربما لا تكون وجهة النظر هذه سليمة تماما، فقد يعرف المؤرخون لحظات فارقة وحرجة أخرى في أحقاب سابقة، لكن ذلك لا يخفف ولا يعزى للحظة واحدة من فداحة ما يحدث. الثورة الأولى هي ثورة الطبيعة وما جرى على الشواطئ اليابانية من تكامل الزلازل، والتسونامي، وثورة البحر، والهجوم على المفاعلات النووية، والتسرب الإشعاعي يدل على خلل ما في الكون، أو أن الخلل كان موجودا منذ وقت طويل، لكنه قرر أن يعلن عن نفسه الآن. وبعد أن شاهدت أول تسونامي جرى على الشواطئ الإندونيسية والتايلاندية منذ فترة ليست بعيدة، وما حدث على الشواطئ اليابانية، مؤخرا، جعل كل الأفلام السينمائية عن الكوارث العالمية ليست أفلاما على الإطلاق. ولن تختلف مشاهد فيلم 2012، الذي طرح بالأسواق منذ عام والذي تنبأ بأن الطوفان سوف يلف العالم كله وجاء فيه مدن تُدمر، وقارات تنتقل من مكانها، عما شاهدته مؤخرا ساعة طوفان المياه على الساحل الياباني وما تلاه من تسرب الإشعاعات من ثلاثة مفاعلات نووية لم تستطع تحمل غضب الطبيعة فأضافت لها غضبها الخاص. الثورة الثانية لا تبدو لها نهاية، بدايتها كانت مع الأزمة الاقتصادية العالمية منذ ثلاثة أعوام، وعلى الرغم من كل ما يقال عن تعافي الاقتصاد العالمي فإن أحدا لم يعلن نهاية الأزمة حتى الآن؛ لأن نتائجها أنتجت ثورات متعددة في اقتصادات إقليمية ومحلية لا أحد يعرف لها أول ولا آخر. حركة العملات والسلع والبضائع والخدمات مضطربة، ولا أحد يعرف إلى أي حد سوف ترتفع أسعار النفط أو حتى تنهار. المعضلة هنا أن العالم ارتعد بعد الكارثة اليابانية، وباتت الطاقة النووية رعبا ما بعده رعب، لكن دول الشرق الأوسط كلها عازمة على أن تبني - ما شاء لها البناء - مفاعلات نووية تعطي الشعبية والإحساس بالتوازن النووي في المنطقة حتى لو كان مفاعل إسرائيل لصنع الأسلحة، ومفاعلاتنا كلها لصنع الكهرباء. هذه نقطة فرعية على أي حال، وما يهم أن الأزمة الاقتصادية باتت سلسلة من الأزمات، لا تخرج من واحدة منها حتى تدخل في الأخرى. وفي وقت بدا أن الأزمة معضلتها أميركا المتورطة في حروب تستنزف قواها الاقتصادية، وتجعلها تعيش كلها على العجز، وطبقتها الرأسمالية متحرقة لجني أرباح حتى قبل أن تأتي. وكلما أفاقت من حرب دخلت أخرى، أليس ذلك هو واجبات الدولة العظمى؟ لكن معنى ذلك أن تظل الدولة العظمى في أزمة دائما، وحتى عندما بدا أنها سوف تخرج من الأزمة يوما كانت الأزمة قد تفجرت في اليونان وإسبانيا وإيطاليا وآيرلندا غير من كانوا معجزات اقتصادية قبل سنوات في شرق أوروبا؛ حيث ظهر أن هذه الدول كذبت حتى تتواءم مع معايير الاتحاد الأوروبي القاسية. وبعد أن بدأ علاج الظاهرة، إذا باليابان، القطب العظيم والأكثر انضباطا في المنظومة الرأسمالية، تدخل في تسونامي حمى إشعاعية. الثورة الثالثة جاءت من قلق عالمي عام جاءت بؤرته هذه الأيام في العالم العربي؛ حيث الثورة دائمة والكفاح دوار، كما كان يقال في أيام أخرى. ومن يصدق هذه الأيام كيف تبدو الصورة واحدة في ميادين عربية كثيرة من التحرير في القاهرة إلى التغيير في صنعاء؟ وكيف يتعامل القادة بالطريقة نفسها دائما؟ فالاختيار المطروح أولا هو أنا أو الثورة، ثم بعد ذلك يجري الاتهام بالتدخل الأجنبي واختراق تنظيم القاعدة، ثم تقديم التنازل تلو التنازل للثوار والمتظاهرين وأصحاب التحركات «المليونية» التي تسد وجه الشمس وكل عدسات التلفزيون. وبعد ذلك يجري الاعتراف أن ثمة شيئا خطأ في النظام كله، ويعترف القائد بعين مفتوحة أن ذلك كان معروفا ويجري إصلاحه لولا أن أحداثا عالمية وكونية وكوكبية حالت دون تطبيقه. والآن بات ممكنا أن تجرى الإصلاحات، وحتى يذهب الرئيس، وربما ترفع قوانين الطوارئ وتنكشف الدولة العربية تدريجيا حتى لا تبقى عورة لا تعريها الأحداث والهتافات. وهكذا جاءت الدولة الثورية العربية كمنطقة وسطى بين الدولة العربية التي لا تزال قائمة وتعمل مؤسساتها كما كانت، وهي دولة ملكية على الأغلب، والدولة العربية الفاشلة حيث لا يُعمل شيء على وجه الإطلاق ولم يتبق منها إلا أجزاء وأشلاء مبعثرة. الدولة الثورية الجديدة ما زالت في طور التكوين، وقد يظهر فيها بونابرت، أو تظل ثورية لفترة طويلة، وليس معلوما إلى أين سوف يذهب حديث الديمقراطية في هذه البلدان، لكنها أوضاع عربية جديدة على أي حال. الثورات الثلاث تبدو بعيدة عن بعضها البعض، لكننا نعيشها في اللحظة نفسها؛ لأنها توجد حتى بتفاصيلها الصغيرة أمامنا على جهاز التلفزيون الذي بات يفرز مئات بل آلاف المحطات والبرامج التلفزيونية. والخلاصة أن العالم يعيش في ثورة متصلة لا يعرف كيف يمكن الإمساك بتلابيبها، ويبدو وضع الخبراء والمتخصصين بائسا عند تناولها، فلا العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية أهلتنا لهذه اللحظة، ولا أعطتنا مفاتيح تحليلها. ومع ذلك فإن الخبراء يتكاثرون ويتوالدون، وبعضهم من خبراء بلدان لم يكن أحد يسمع عنها الكثير، أصبحوا نجوما من كثرة وجودهم على الساحة. لكن المشكلة أن معظم هؤلاء المتخصصين في البيئة لم يعرفوا الكثير عن هذه الحالة من التسونامي الياباني، ولا دخل أحدهم إلى المفاعلات النووية حتى يعرف ما يجري فيها. وذلك المتخصص في ليبيا أو اليمن أو البحرين لا يزيد أبدا على مهاجر ظل بعيدا عن بلاده لعشرات السنين، وليس لديه أدنى فكرة عما جرى لها خلال هذه الفترة غير كراهيته لنظام تعفن من طول زمن البقاء. لكن الخبير هو أيضا تعفن من طول زمن الغربة، والبعد عن الحقيقة، ولم يبق منه إلا مشاعر يجري تلوين الحقيقة بها عشرات المرات. والمسافة بين الخبير المصري وجماعة ميدان التحرير لا تقل عن المسافة بين الخبير البريطاني وما يحدث داخل المفاعل الياباني، ولن تزيد كثيرا على قدرة الخبراء الأوروبيين على تفهم ماذا يريد باراك أوباما تحديدا، أما إذا كان الغرض معرفة ماذا سوف يفعل بوتين فقل على الدنيا السلام. فمتى تنقشع السحب ويزول الغمام ويأتي شعاع من الشمس يظهر الحقيقة أو يخلق الرابط بين ما لا يرتبط يبدو هو الآخر مختفيا حول ركام اليابان، وركام الاقتصاد العالمي، وركام نظم عربية منهارة أو محترقة؟