محمد الشريف الطريبق الإرهاصات الأولى حسن نرايس عرفت أفلام الويسترن ومازالت تعرف، إقبالا جماهيريا وشعبية كبيرة في مختلف بقاع العالم منذ بدايات السينما، ولم يطرح ولو للحظة أننا في كل مرة نشاهد نفس الحكاية أو أن الأمر يتعلق بنوع من التكرار. يكفي أن يتغير المخرج والممثلين لرسم أفق الانتظار. تخضع إذن هذه النوعية من الأفلام، الجنس السينمائي الأمريكي بامتياز، كما باقي الأجناس السينمائية الأخرى لنفس الخطاطة الدرامية ولنفس المعايير التي تحدد طباع الشخصيات والأجواء العامة للفيلم، والكيفية التي تتطور بها الأحداث المؤدية في النهاية إلى مشهد المبارزة النهائية المعروف. كان على هوليود في عصرها الذهبي،ألا تتوقف عن صنع الأفلام لأن الطلب كان في تزايد والسوق يطلب بشراهة، الجديد والقديم. كان كاتب السيناريو يشتغل بعيدا عن الأجواء الاعتيادية للكتابة حيث كان يكتب تحت الطلب كموظف ليعطي جسدا للحكايات المقترحة من طرف المنتج أو أن يجد تنويعات لنفس الجنس السينمائي، وغالبا ما كان المخرج يستدعى لإدارة الفيلم كأي تقني مع هامش ضيق لتغيير السيناريو والقيم التي كان ينبني عليها (مجتمع محافظ) . منذ اختراع السينماتوغراف ، استطاعت سينما القارة العجوز أن تحقق شعبية دون أن تقيم أية قطيعة مع إرثها الثقافي حيث جاءت الأفلام بطابع أدبي ومسرحي وجاء المخرج كاستمرارية للمؤلف والمخرج المسرحي. اندمجت السينما بسرعة في السياق الثقافي السائد بينما كان على السينما الأمريكية أن تنطلق من واقع حديث وبالتالي أن تخلق تقاليد جديدة . في غياب إرث ثقافي وبدون تاريخ، كان على أمريكا أن تنطلق من واقع حاضرها وأن تحوله في فترة وجيزة إلى نمط تعبيري. انطلق إذن جنس أفلام الويسترن من قصص رعاة البقر وغزو الغرب، حيث شكلت هذه الأفلام مرحلة مهمة في تبلور السرد السينمائي وخلق ألفة بين المتفرج والسينما، أي أن المتفرج يذهب لمشاهدة الفيلم في إطار نوع من التعاقد الغير المعلن بينه وبين الفيلم الذي سيشاهده. أمام أفلام تستعيد نفس الحكاية مع تغييرات طفيفة وبنفس المكونات متناولة من طرف مخرجين مختلفين نكون مجبرين على القيام بنوع من المقارنة، ليست تفضيلية فقط ولكن للوقوف على ملامح أسلوب كل مخرج على حدة ، ينتبه المتفرج إلى اختلاف المعالجات، وحيث يصبح ممكنا أن نميز بين مخرج يعمل كتقني ينفذ ويدير عملا ومخرج آخر يحور المعنى ويجعل حكاية متوقعة غير متوقعة ، راسما من عمل إلى آخر خيطا بين أعماله على اختلاف أجناسها. بفعل هذا التكرار بدأ الميزونسين (الإخراج كمفهوم) يطفو إلى السطح، الوضع الذي جعل جيلا من النقاد الفرنسيين الذين سيتحولون فيما بعد إلى مخرجين ، ينتبهون إلى أن المؤلف الحقيقي في الفيلم هو المخرج و ليس النجم وبالتالي ظهور سياسة سينما المؤلف التي انطلقت أولا من إعادة الاعتبار لكبار مخرجي هوليود كهتشكوك وهوارد هوكس ... بشكل يتجاوز إرادة مسيري استوديوهات شكلت هذه السينما المنطلق لسينما بعيدة جغرافيا وسياسيا عن هوليود :الموجة الفرنسية الجديدة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي. إن درس التاريخ يعلمنا أن أي سينما شابة ليس مفروضا عليها أن تعيش تاريخ السينما و الفن بشكل كرونولوجي وليس مفروضا عليها أن تعيش كل المراحل كل على حدة، لكنها مطالبة بأن تحاول أن تنطلق من حاضرها. قد يصبح ذلك ممكنا حينما تتصالح مع حاضرها وماضيها إن وجد، كما هو شأن السينما الهوليودية. لا يهم إن أخطأت الطريق لأنه في كل الحالات الجميل في الطريق أنه مرتجل والجميل فيه أنه يسمح بالتوقف أو العودة للخلف للحظة، ربما هذه العودة قد تكون هي الطريق المختصرة للالتحاق بركب التاريخ. موت المخرج، ولادة المؤلف أتيحت لنا أثناء مهرجان مراكش 2015 فرصة متابعة درس عباس كياروستامي السينمائي الأخير ،وفرصة مشاهدة مقطع من الفيلم الذي كان يشتغل عليه ، وهو عبارة عن تحريك (أو تنشيط) بالصوت و الصورة لمجموعة من اللوحات المشهورة من تاريخ الفن ربما كانت ستكون أربعون، باستعمال التقنية الرقمية. عمل يتخلى فيه عباس كياروستامي عن دوره كمخرج تقليدي و يحتفظ بدور المؤلف، أي أن الفيلم لا يوجد كسيناريو أولا (مكتوب من طرف المخرج أو من شخص أخر) ثم كإخراج من خلال تصور إخراجي ثم تنفيذ هذا التصور أثناء التصوير، لكن يوجد كتصور مندمج في نمط التعبير السينمائي، تصور مكثف يهيكل كل مراحل الفيلم وكل العمليات التقنية ومراحل الإنتاج دون أن توجد أية قطيعة بينها. بذلك يكون عباس كياروستامي قد أنجز، وهو ربما لا يعي، فيلمه الأخير الذي يقتل فيه نهائيا المخرج ،التسمية التي ولدت في فترة تاريخية كان المخرج يعتبر كتقني فقط، ويعلن بذلك عن ولادة المؤلف السينمائي، وتكون سينما كياروستامي قد وصلت إلى مرحلة الاكتمال الأسلوبي والانسجام التام إلى درجة أنه في السنوات الأخيرة بدأ يبتعد عن السينما في شكلها التقليدي وبدأ يبحث عن سينما مغايرة وأنماط تعبيرية أخرى كالفن المعاصر، لأنه كان قد تجاوز خط الوصول وأن ما صنعه من أفلام إلى حدود «تين» «عشرة» شكلت ثورة سينمائية بدون شعارات، ثورة تجعل السينما تستقيل عن الفنون الأخرى كنمط تعبيري و تعيدنا في نفس الآن إلى زمن البدايات . كان على الموجة الجديدة الفرنسية أن ترسم صورة قاتمة عن وضع السينما الفرنسية لنهاية الخمسينيات، وتقتل جيل الآباء، لكي تجد لها مكانا كجيل جديد ،لكنها فشلت في مواجهة ما كانت تعتبره نوعا من الرتابة التي كانت بدأت تعرفها السينما الفرنسية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، والتي وصلت إلى حد أزمة أسلوبية وصفت بالأكاديمية على حد تعبير نقاد دفاتر السينما بزعامة فرانسوا تريفو François Truffaut وجون لوك كودار Jean Luc Godard . لكنها، أي الموجة الجديدة فشلت رغم أنها سافرت عبر العالم، حيث أن كل دولة وجدت لنفسها ،بعد فرنسا، نسختها من الموجة الجديدة بتسميات مختلفة. بعد فترة من ظهور هذه الموجة لم تتجاوز العقد من الزمان وخصوصا بعد الثورة الطلابية لسنة 1968، عادت السينما بشكل تدريجي إلى ما قبل الموجة الفرنسية وتخلى جمهورها عنها واقتصر على حلقات صغيرة جدا من المهتمين والمثقفين. شكلت سنوات التسعينيات أي سنوات التوافقات و النظام العالمي الجديد، سنوات مرحلة الدفن الكلي لهذا المشروع خصوصا مع ظهور أصوات تدعو للعودة إلى سينما السيناريو والحبكة الدرامية، دافعا عن سينما شعبية (في الأصل شعبوية)، واعتبرت الموجة الجديدة نخبوية و أفلامها لا تهم إلا صانعيها، وأصبح ما يشبه اليأس يعم الساحة السينمائية. في هذا السياق التاريخي جاءت السينما الإيرانية من بعيد، سينما قطعت طريق الحرير لكي تقترح سينما أخرى، ولتنظم إلى لائحة المخرجين المعروفين، أسماء غريبة لم يكن لها إلى حدود تلك الساعات أي حضور، مثل عباس كياروستامي، محسن مخملباف وآخرون...تعرف العالم وهواة السينما بحماس أعاد نوعا من الأمل على فيلم «أين منزل صديقي» ثم «كلوز-اب»، «من خلال شجر الزيتون»، «وتستمر الحياة»... سينما تتميز بأسلوب يوهم بأنه بسيط وسهل لكنه ممتنع، أسلوب متقشف يمزج بين الوثائقي والروائي وبلغة أدق يدمج الوثائقي وفي حالات واقع التصوير في المتن الروائي للفيلم ليتحول هذا المزج إلى مكون بنيوي للعمل وللانسجام الداخلي له أي سينما بنفس جديد وكتابة مختلفة لكنها في نفس الآن منخرطة في تقاليد سينما المؤلف دون أن تكون نخبوية. يبدأ عباس كياروستامي يمحو الحدود الفاصلة بين الوثائقي والروائي بين لحظة التصوير والفيلم النهائي حيث يحتفظ الفيلم في شكله النهائي ببقايا المسار الذي أدى إلى وجوده، يعري الحكاية ويجردها من كل ما قد يخلق تأثيرا ما قد يكون حجابا أو وسيطا بينه و بين جوهر الأشياء أو وما قد يحسه زائدا ليصل في النهاية إلى خط درامي بسيط إلى حد البداهة يمكن تلخيصه مثلا في جملة: أين منزل صديقي التي هي في نفس الآن عنوان الفيلم .رغم ذلك يحس عباس كياروستامي أن ذلك ليس كافيا فيعري ويظهر أكثر ليحتفظ بأدنى ما يمكن أن يحتفظ به ليوجد العمل (مستعيدا منطق المسرح الفقير لكروتوفسكي) . في الفيلم الوثائقي «أ-ب-س إفريقيا» يذهب في سفر أول بحجة التحضير برفقة مدير التصوير وكل منهما يحمل كاميرا يدوية صغيرة ، لكنه عندما يعود يقرر أن ما صوره هو الفيلم. هنا أيضا يتخلى كياروستامي على ما يمكن أن يكون وسيطا بينه و بين الواقع أي عن تحضير الفيلم وبرنامج عمل، عن الطاقم التقني وجودة الصورة والصوت لأن خطة العمل التي يقترحها تجعله يقتنص الواقع في عفويته دون أي ميزانسان . في فيلم «تين» «عشرة» وحدة المكان لا تتجاوز فضاء تاكسي تقوده امرأة حيث الكاميرات صغيرة مثبتة عند مقدمة السيارة وحيث الأشياء تحدث وكأنها لحظات مقتطعة من الحياة، وفي نفس الآن نحس أنها ليست كذلك ولا نتوقف عن طرح أسئلة محيرة ومقلقة حيث لا نعرف الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، بين الكتابة والارتجال، وكيف وصل المخرج المؤلف إلى هذه النتيجة التي تشبه السحر. تطورت سينما عباس كياروستامي بشكل طبيعي ووفقا لمنطق ذاتي، ولكنها في نفس الآن كانت دائما مواكبة لتطورات التي عرفتها السينما، خصوصا من الناحية التكنولوجية، وتطورت نحو ما لايشبه بداياتها وأخذت مسارات غير متوقعة لكن منسجمة، وكأن هذا المسار ترجمة حرفية لمشروع جمالي سابق الوجود، لكننا نعلم أنها ليس كذلك لأنها استمرت بنوع من العفوية وجاء كل فيلم كنتاج للحظة ولادته وإنجازه. تشكل المشروع الجمالي لسينما عباس كياروستامي ،من خلال تبلور فكرة الفصل التدريجي بين المخرج والمؤلف (المؤلف هنا ليس يعنى كاتب السيناريو) وتطورت في أفق التخلص عبر مجموعة من الأفلام من المخرج ولتحتفظ في النهاية بالمؤلف. يموت المخرج وتموت معه إدارة الممثلين ونمط إنتاج تقليدي ينبني في أغلبه على وجود نص سيناريو ثم قراءة إخراجية أي سينما لا تتخلص نهائيا من التراث الأدبي الذي التجأت إليه في بداياتها لاختصار الطريق إلى الجمهور. ربما لن ينتبه العالم بعد ،أنه هناك السينما قبل عباس كياروستامي و السينما بعده، لأن ثورته ثورة هادئة وبدونشعارات وبدون أية استراتيجية دعائية، في زمن العولمة وهيمنة مطلقة لنفس النمط الهوليودي على السينمات الوطنية وعلى العقول. في زمن نجد في بلدان نامية مخرجين يحاولون بإمكانيات بسيطة متواضعة وفي غياب أي رؤية أو مشروع ثقافي، انجاز أشباه الفيلم الأمريكي أو سينما مفبركة بوصفات أفلام المؤلف تتموقع داخل السوق من خلال الحصول على جوائز مهرجانات الكبرى وهيمنة حلقة ضيقة من المخرجين الذين تختفي وراءهم كبريات دور التوزيع والإنتاج الأوروبي...أمام هذه الهيمنة من الصعب أن ينتبه العالم لما أنجزه عباس كياروستامي، يلزمنا القليل من الوعي النقدي والكثير من المقاومة، مقاومة الكليشيهات والأفكار الجاهزة التي نتقبلها على أنها بديهية . عباس كياروستامي مخرج ذكي وعفوي لايحسب الخطوات ولا تتطور أعماله بمعرفة الوصفات السحرية للحصول على السعفة الذهبية وجوائز باقي المهرجانات خمسة نجوم . عندما يتحدث باعتزاز بلغة فارسية، تحس أن الرجل هنا رغما عنه ،لأنه ربما كان يفضل أن يكون في مكان قصي من العالم يصور أو يرسم أو يكتب، تحس كذلك أن النجاح و النجومية شيء ثانوي بالمقارنة مع تجربة انجاز الفيلم أو أي عمل فني أو لقاء أشخاص حقيقيين الذين يجعلونك تتعلم درس الحياة. في أخر عمل له، يعيد عباس كياروستامي ،بتواضع، الحياة للوحات مهمة من التاريخ التي أثرت في تكوينه، يعود إلى نقطة الصفر إلى ما قبل السينما، يعود بدايته كمُتخرج من مدرسة الفنون الجميلة .لأن السينما انتهت بالنسبة له بعد فيلم «تين» «عشرة».