لا يكفي في الوقت الراهن أن يعرض فيلم بقاعة سينمائية حاصل على رخصة تصوير فيلم سينمائي و حاصل على تأشيرة العرض لنفس الغرض أن يحقق القيمة السينمائية. إن ظروف العرض السينمائي و تقنيات التصوير وحجم التمويل لا ترسم الحدود الفاصلة بين الفيلم سينمائي و الفيلم تلفزيوني ، أو بين السينما و السمعي البصري خصوصا بعد انقراض الشريط الخام و التطور التكنولوجي التي جعل السينما و التلفزيون يستعملان نفس الآليات . أصبح الإنتاج التلفزيوني خصوصا في جنس المسلسلات في أوربا و أمريكا يعرف انتشارا و إقبالا منقطع النظير من جميع فئات الجمهور ، و لم تعد هذه النوعية من الأعمال حكرا على مخرجي التلفزيون ، و لكن أصبح حتى مخرجي السينما يخوضون غمار هذا التمرين ،أعمال تنجز بمستوى تقني عال و بإمكانيات ضخمة و جمالية فذة ، تجعلها تنافس السينما حتى على أرضية الإبداع والبحث. لم تعد هذه الأعمال تقتصر على جنس سينمائي معين ، و لكنها أصبحت تجرب كل إمكانيات الكتابة بما في ذالك التجريب ك " مستشفى الأشباح " للمخرج الدانماركي " لارس فون تريي " أو أعمال تتقاطع فيها الأجناس السينمائية بأسلوب جد شخصي . ويمكن أن نذكر كمثال سلسلة " بينكوين الصغير " للمخرج الفرنسي " برونو ديمون " و التي بثت على قناة أرتي ، و كانت ضمن الأعمال المبرمجة في مهرجان "كان " ، و توبعت عند البث من طرف مجلة دفاتر السينما كأي عمل سينمائي ، حيث خصصت لها مساحة أكثر من الأفلام السينمائية التي وزعت في نفس الفترة ، و قبل ذالك بعشر سنوات عرضت بنفس المهرجان السلسلة الإيطالية " أفضل سنواتنا " و وزعت بالقاعات السينمائية كفيلم في جزأين . ماذا يتبقى للسينما ، إذن إذا كانت هذه الأعمال التلفزيونية تحترم ذكاء المتفرج وتخلق فرجة تعادل الفرجة السينمائية ، خصوصا و أن البيوت تتوفر الآن على تجهيزات عالية الجودة من حيث الصوت و الصورة ، ويمكن أن تشبه إلى حد كبير ظروف العرض في قاعة سينمائية حاليا . أصبحت السينما هي الفن الأكثر شعبية، و ذكرى بعيدة نحن إليها بكثير من النوستالجيا ، وتجد السينما نفسها مرغمة أن تقترح فرجة بصيغة أخرى ، بعيدة عن التلفزيون الذي أمم كل ما يمكن أن يجلب الجمهور الذي تفقده تدريجيا . ربما يفترض من السينما أن تعود لماهيتها ، أن تتخلى عن ما هو ليس بسينمائي ، أي بما علق بها من مكونات موروثة ، من أنماط فنية أخرى كالمسرح و الرواية والتي استعارتها السينما مؤقتا لتجد لغتها الخاصة و شكلها النهائي كنمط تعبيري جديد. إجرائيا ، أن تتخلص السينما من الخطاطات الدرامية الجاهزة و السابقة الوجود على الفيلم لتجعله يبدو متوقعا و حيث الشخصيات و الواقع ، لا توجد إلا كمبرر لتحقيق هذه الخطاطات ذاتها ، بعيدا عن لعبة التشويق و الإبهار و المفاجآت المفبركة ، أي فرجة تجعل من " الميزانسان " نقطة الانطلاق و الوصول فقط لا غير لخدمة النص و إخراجه . ملامح السينما رسم إرهاصاتها الأولى المخرج الفرنسي " روبيربريسون " بأعماله السينمائية ، و نظريا جمعها في كتابه " نقط حول السينما " . هو مشروع نستعيده و نحن نشاهد فيلما ك " تاكسي طهران " لجعفر بناهي ، وهو فيلم سينمائي بامتياز و دون أي شكل من أشكال التنازل في قطيعة تامة مع قواعد الدراما التقليدية و محاكاة السرد الروائي الأدبي . فيلم لا يمكن أن يكون إلا سينما ببساطة. لأنه يصعب تلخيص حكايته ، بمعنى أن حكايته لا يمكن أن تحكى بنمط تعبيري أخر غير السينما .إنك لا تعرف حدود الارتجال و حدود الكتابة ، حدود الوثائقي و حدود الفلم الروائي ، لا تعرف أين ينتهي السيناريو و أين يبدأ الإخراج ، وحتى و إن وجد سيناريو فلا يمكن أن يكون إلا المخرج ذاته ، أو ربما لا يوجد سيناريو ، لكن توجد ورقة عمل و سيرة نوايا تتوقع الطريق نحو الفيلم ، تاركة الباب مواربا حتى يتمكن الواقع من أن يلتحق بالعمل و يجد مكانه في علاقات تحددها الصرامة و الانسجام . من مكان قصي ، بعيدا عن ما يعتقد أنه مركز العالم و حيث اكتشفت السينما ، ستولد الأخيرة ولادة ثانية على يد " عباس كياروستامي " مند أفلامه الأولى ، و جعفر بناهي ، و آخرون ، يعيدون السينما إلى جوهرها و يحررونها من المنافسة مع التلفزيون ومن نمط إنتاج مكلف ، وأصبح ينمط الإبداع و يجعله متوقعا حتى الملل ، مكتشفة مناطق للكتابة السينمائية تبدو للوهلة الأولى بديهية لكنها ليست كذالك.