يعتبر ريجيس دوبري من كبار المفكرين المعاصرين الذين وهبوا حياتهم للتفكير العلمي والفلسفي في الوسائط الحديثة للاتصال، بحيث تعد كتاباته في الموضوع منارات ساطعة يهتدي بها الباحثون والمهتمون والطلبة والصحافيون، وكل من له صلة من قريب أو بعيد به. ففي هذا الإطار، يمكن اعتبار كتابه "حياة الصورة وموتها" الذي ترجمه فريد الزاهي إلى اللغة العربية (إفريقيا الشرق، 2002) نصا مفصليا في التفكير في تاريخ الصورة، ومفتاحا أساسيا للتمييز بين الوسائط الحديثة وإدراك الفروقات الخفية فيما ما بينها. وقد لفت انتباهي بشكل خاص نظرته الثاقبة إلى كل من التلفزيون والسينما بوصفهما وسيطين كانا ولا يزالان يحتلان موقعا مركزيا في المشاهدة البصرية الحديثة والمعاصرة. كما أن الوضع الإخباري للسينما كفن سابع، وللتلفزيون كوسيط إعلامي لا يرقى إلى اعتباره فنا يثير أسئلة شيقة لفهم ما يجمع بينهما من اتصال، وما يفرق بينهما من حدود. كما تساهم في الوقوف على البعد المحلي للتلفزيون و ارتباطه بالهوية و المجتمع. من الواقع إلى اللذة تشتغل السينما وفق مبدأ الواقع، فيما يشتغل البصري/ التلفزيون وفق مبدأ اللذة (ص 241). وهذا ما يجعل السينما تنتمي إلى مجال الصورة العتيقة التي تحيل إلى الواقع وتضع عناصر المأساة. بالمقابل، يشتغل التلفزيون وفق مبدأ اللذة حيث يشكل واقع ذاته الخاص، وقد اعتبر دوبري. الأمر بمثابة انقلاب لن يمر بدون مخاطر قد تؤثر على التوازن الذهني للجماعة. وهذا ما فسر به علاقة الوسائط الإعلامية ببعضها البعض، حيث تتحدث عن نفسها وتدير وجهها للواقع. كتب دوبري: " البصري يتواصل ولا رغبة له في غير ذاته. ذلك هو دوار المرآة، فالوسائط الإعلامية تتحدث أكثر فأكثر عن الوسائط الإعلامية. وفي الجرائد تتوسع صفحة "التواصل" أكثر فأكثر مقلصة بذلك من حصة الأخبار (المتعلقة بالعالم الخارجي)، بما أن الوسائط لا يمكنها في عالم إعلامي كلية إلا أن تشهر نفسها في الوسائط الإعلامية إلى حد محو تلك الخانة الفارغة وذلك النقصان الخارجي الذي ظل ينظم بواطننا والذي كنا نسميه "الواقع" (ص 244). من المسجل البارد إلى الراهن الساخن كان الشريط السينمائي ولا يزال غير متزامن في عرضه (للمشاهدة) مع زمن تصويره، مما يجعله "مجرد آثار باردة ومنزاحة عن زمن مرجعها" ( 243) من ثمة، تكون للسينما عامة، والفيلم بصفة خاصة، علاقة مرجعية إحالية إلى زمن التصوير وموضوعه. وهي بالتالي "إشارة" تحيل إلى الماضي قطعا. بالمقابل، تعرض "الإشارة التلفزيونية" وقائع الحياة في حرارتها حيث يعرض العالم الحسي نفسه بنفسه، والواقع والحقيقة أصبحا شيئا واحدا. وهذا ما جعلنا بحسب دوبري نلج ألوهية جديدة هي الراهن، أي "الجديد وقد تم السير به إلى حدوده القصوى" (ص 243). من الفن إلى التواصل ثمة فن حين يكون بإمكاننا تصور عرض الصور باستقلال عن الطلب (السينما)، أما التواصل فيتم حين يتطابق العرض مع الطلب (التلفزيون)، ويتم قياسه على البث الذي ليس سببا في وجود الإبداع (السينما) ص (247). ويخلص دوبري أإلى نه حتى عندما ننتظر من آلة لبث الصورة كالتلفزة ما ننتظره أصلا من آلة لإنتاج الصور كالسينما، فإن صناعتي المتخيل هاتين لا تتعارضان كما لا يملن الخلط بينهما. ذلك أن العمل الفني السينمائي قابل للتوصيل لكنه ليس معمولا للتواصل كالمنتوج التلفزيوني. بناء على ذلك، باعتبار السينما عملا فنيا، فإن لها متفرجوها المتطوعون الذين تحملوا عناء التنقل إلى قاعة السينما. أما المنتوج التلفزيوني، فله مستهلكوه الذين يرضون طلباتهم عن بعد دون أن يتركوا قاعة جلوسهم ( ص 248). لذا، يحيل التلفزيون على الهاتف وعلى تاريخ الاتصالات السلكية واللاسلكية، فيما تحيل السينما على الفنون الجميلة. عالمية السينما ومحلية التلفزيون يؤكد دوبري أن الشاشة الصغيرة هي مرآة القرية: فكل بلد متقدم له تلفزيونه الذي يستحقه. لذا، لا تصادف البرامج التلفزية (المنزلية) تصديرا جيدا لبلدان أخرى. بالمقابل، تسافر السينما الجيدة، حيث تشاهد في جميع بقاع العالم كفن عالمي رحال. وإذا كان التلفزيون يستهلك الأخبار والصور الأجنبية، فإن ذلك يتم في حضرة العائلة أو القبيلة: "للتلفزيون روح الأغلبية مثله في ذلك مثل الديموقراطية. إنه بتدعيمه للقلاع يضمن العلاقات الاجتماعية للأفراد الاجتماعيين ويجعل منشرحي النفوس يبتسمون" (ص 251). لذلك، فإن عاشق التلفزيون هو كائن منزلي قابل للتحكم والمراقبة، أما عاشق السينما فإنه بدوي مرتحل غير قابل للضبط والمراقبة. يصنع التلفزيون الناجح جمهوره. أما السينما الجيدة فإنها تهشم المرآة العاكسة، يصنع التلفزيون الأهالي. أما السينما فتنشئ الخونة لوسطهم الأصلي" أو الإنسان الكوني الرحال. (ص 252). طمأنينة التلفزيون وانفلات السينما يضطلع التلفزيون بوظيفة اجتماعية في المقام الأول، حيث تمنح الصورة المنزلية الطمأنينة وتعمق الروابط الاجتماعية. إنه جهاز إيديولوجي نرجسي يؤكد انتماء معينا. بالمقابل، تنمي السينما الانفلاتات الذهنية والجسمية وتقتلعنا من جذورنا لتجعل منا شيئا آخر. من ثمة، تكون وظيفة الصورة السينمائية المعروضة هي وظيفة الحلم الهروبية والهاربة في القاعة. ويخلص دوبري إلى أن التلفزيون / الصورة التلفزيونية تكون في أحسن حالاتها شهادة مشدودة إلى الواقع الحالي والماضي. فيما تكون الصورة السينمائية تنبؤية، لكن من دون أن تعلم ذلك أو ترغب فيه (ص 252-253). رشد السينما ومراهقة التلفزيون تملك السينما الحرية في التحكم الداخلي في العالم الخارجي من خلال "تقريب البعيد وإبعاد القريب" وذلك بواسطة سلسلة من المسافات والهروب والتقهقر، حيث تنتج الذات حريتها باختيار ما هو قريب أو بعيد منها كل لحظة. وهذا ما يعطي السينما القدرة على النجاح في المرور إلى الرمزي. بالمقابل، يؤكد دوبري أن الصورة التلفزيونية تتلقى قضاءها عوض أن تنظمه، مما يجعلها حبيسة مجال الإشارية signalétique أو المتخيل (ولا ترقى إلى المجال الرمزي). من ثمة يخلص الباحث إلى أن ما تقدم "يجعل من الصورة السينمائية حافزا على النمو والصورة التلفزيونية سببا في التقهقر، فالمراهق يصبح راشدا عبر الشاشة الكبرى والراشد صبيا عبر الشاشة الصغرى" ( ص 256). بين المسؤولية الفردية والمسؤولية الجماعية ينتمي التلفزيون إلى مجال التعاليم والواجب، حيث يفرض على نفسه واجب أن يرينا كل ما هو مهم. وبذلك فإنه يجسد حكم وقضاء المجتمع، ويحيل إلى مسؤولية جماعية. التلفزيون واقعة اجتماعية لها نزوع نحو الأعمال ذات الطابع الإنساني. "ومع أن التلفزيون "لا أخلاقي" إلى حد كبير في وسائله الداخلية ونساء وخداع وصائد مغر، ولا يهتم كثيرا بالنتائج الناجمة عن صوره وبمتابعة مواضيعه، فإنه ينجح كثيرا في وعظ الآخرين، أي نحن فهو يقدم لنا أخيار وأشرار كل يوم..." ( ص 256). بالمقابل، يؤكد دوبري أن الفيلم يحمل لصاحبه مسؤولية شخصية مثله في ذلك مثل أي موقف مسؤول في المجتمع. من ثمة، تكون السينما واقعة أخلاقية وتنتمي إلى المنزع الإنساني لأنها تبني واقعا تحت مسؤولية نظرة معينة هي نظرة السينمائي. خلود السينما وموت التلفزيون يقر دوبري أن السينما تحتفظ بتقدمها على التلفزيون بالوقت الذي تضيعه. فحظها يكمن في طولها، وفي فتورها ووقفاتها. تلك الأوقات الثمينة الميتة التي بدونها تفقد الحذوف أو القفزات الحكائية كل أثر أو معنى". من ثمة، تعانق الصورة السينمائية زمن عصر الكتابة باعتباره زمنا جامعا. الفيلم الجيد يبني مددا للعيش الطيب. إنها أشبه بحيوانات مصغرة في الحياة، أو مآوي مفتوحة لكل واحد. فكل فن هو سيادة على الزمن بوصفه السيد الأول والأخير للبصري الذي يقي نفسه من التنقل بين القنوات بصورة "أسرع فأسرع" على طريقة الكشافة" (ص 257). بالمقابل، يقوم التلفزيون على اللحظة باعتبار أنها وحدها هي الواقع ( في نظره). وهذا ما يجعل الحاضر التلفزيوني يجري دائما بسرعة أكبر من المشاهدين... (ص 259). وهذه السمعة الهروبية هي التي تقر في رأي الباحث قلقه بجعل المشاهدين أوفياء له وهوسه ب "الموعد المنتظم" مع المشاهد. "فهو بحاجة إلى رفع أعلام الزمن لأنه يحوله إلى زمن تافه، وهو يشكل الزمن الجاري والزمن الحالي، لا الزمن الذي يسهر على البلورة والتنظيم" أي المكتسب مرة إلى الأبد" ( ص 258). من ثمة، يستنتج دوبري أن هناك تاريخ للسينما، والسينما بدورها تاريخ. إنها مثل رواية. على العكس من ذلك، ليس هناك تاريخ للتلفزيون لأنه اللحظة، وهو في ذلك مثله مثل الجريدة. "أما البرنامج التلفزيوني الذي "لاقى النجاح" حتى ولو احتضنه المركز الوطني للسمعي البصري بمعاييره الصارمة، فهو يموت مباشرة بعد بثه"..." ( ص 257). شمولية السينما وشذرية التلفزيون تخضع الصورة المعروضة على الشاشة الكبرى لمنطق الشمولية، أما الصورة المبثوتة فلمنطق التشذر، ولشمولية ومقطعية المدة والأجناس والأحداث وأنماط الجمهور. توقع السينما عقدة رؤية مع كتلة مفترضة سواء كانت شعبا أو جمهورا لتقترح عليها خطابا أو حكاية. بالمقابل، يكتفي التلفزيون بهز جمهوره عبر التماس مع توترات محلية صغيرة. في الماضي، كانت هناك أندية سينمائية، ولا توجد اليوم أندية تلفزيونية. ولأن عاشق التلفزيون متخم فهو لا يخضع لنظام غذائي أوديبي كما هو حال عاشق السينما. ليس للتلفزيون قوة تكوينية وتكونية وجنيالوجية، وهو لا يبحث عن التماهي. يعني التفكير قول لا، وسواء صار التلفزيون أو رفض، فإنه يقول نعم للعالم كما هو يسير، في حين تقول السينما" نعم، ولكن" ( ص 258-259).