لقد أصبح من المتجاوز الحديث عن علوم الاتصال ووسائط المعرفة الإعلامية، وتجوزت تلك النظرة التي ترى في «علم وسائل الإعلام والاتصال» أو ما يصطلح عليه بMass – Médiologie مجالا للانبهار من خلال أدوات اشتغالها ووظائفها المتعددة بل تم خلق علم جديد عرف باسم «علم الإعلام العام» أو «الميديولوجيا» الذي يعتبر الإعلامي ريجيس دوبريه أحد المنظرين الحقيقيين له إن لم نقل أحد مؤسسيه. لقد سعى علم الإعلام العام منذ نشأته إلى ملء بعض الفجوات المعرفية التي تركها التاريخ وعلم الاجتماع التقليديان مفتوحة حتى الآن. في كلمة الميديولوجيا حسب ريجيس دوبريه، يوجد الجذر ميديو (وسيط) الذي يعني في مقاربة أولى المجموع، التقني والاجتماعي المحدد، لوسائل النقل والتنقل الرمزية، إنه مجوع يسبق ويزيد على دائرة الوسائل الإعلامية المعاصرة، المطبوعة والإلكترونية، المعتبرة كوسائل للنشر المكثف (الصحافة، الراديو، التلفاز، السينما، الإعلان إلخ..) إنها وسائل إعلام لا تزال وحيدة الجانب، تسمى خطأ وسائل «اتصال» (وهي تفترض العودة واللقاء والارتجاع (feed-back) . إن تعريف علم الإعلام العلمي بمجال المواضيع يبدو للوهلة الأولى مأزقا لسبب بسيط هو أن الوسيط Médium لا وجود له. فهو أشبه بتجريد تشييئي يغطي مستوعبا تجريبيا معينا. يمكننا أن ندخل فيه المؤسسات (المدرسة) والأشياء التقنية (الراديو، شاشة التلفزة، أنبوب التحويل الكهربائي) والمرتكزات المادية (الورق والقماش، الشرئط المغناطيسية، القرميد) والأنظمة الاجتماعية (النحو والقواعد) وأعضاء الجسد (الحنجرة والحبال الصوتية) والأشكال العامة للاتصال (الشفوية والمكتوبة والمطبوعة والسمعية – البصرية والمعلوماتية). إلا أن التساؤل المطروح حسب ريجيس هو «هل تسمح إضافة جميع هذه العناصر باستخلاص مفهوم مترابط للوسيط؟ ظاهريا لا، فهذا يعني أن كل شيء رسالة هنا، وأن كل شيء توجه اتصالي (العطر يوصل إلى المعلومة عن امرأة معينة، والرموز تعلمني عن محيطي إلخ..) حتى لو اقتصرنا على الاتصال الكلامي وحده، الرمزي وغير «المئشاري» الاتصال الذي يستدعي الترميز وفك الرموز، فإن تعبير الوسيط يمكن أن يطبق على اللغة الطبيعية المستخدمة (الانجليزية أو اللاتينية)، كما يطبق على العضو الجسدي للإرسال والتصور(الصوت الذي يفصل، اليد التي ترسم الإشارات، العين التي تتفحص النص) وكذلك على المرتكز المادي للآثار (الورق أو الشاشة) وعلى الطريقة التقنية للالتقاط وإعادة الإنتاج(الطباع والأجهزة الإلكترونية): أي هناك على الأقل أربع مجالات. فهل يكون علم الإعلام عندئذ فن الكلام الغامض حول موضوع غامض؟ لعل من خصوصيات علم الإ علام العام (الميديولوجيا) يمثل مستويات معرفية تدرجت فيها علوم الإعلام من مراحل تاريخية يحددها ريجيس دوبريه إلى ثلاثة عصور «ميديولوجية»: 1/ عصر الإنتاج الخطي (وركيزته المخطوطة). 2/ عصر الإنتاج المطبوع (وركيزته الكتاب). 3/عصر الإنتاج السمعي البصري (وركيزته الصورة أي السينما والتلفزيون والكمبيوتر إلخ). وفي رأي دوبريه فإن كل عصر من هذه العصور الثلاثة قد بقي مرتبطا ماديا بالوسيلة الناقلة للمعرفة فيه. لقد طالب ريجيس دوبريه باستقلالية الميديولوجية (كعلم مستقل) ولم تكن هذه المطالبة مجرد طرح مزايدة معرفية أو امبريالية كما يقول هو نفسه بل جاء هذا الطرح بناء على استيعاب دوبريه لجدلية الهدم والبناء عند نيتشه والتي تؤكد أن العلم الذي لا يتقدم يُتجاوَز أو بالأحرى يتم استبداله بعلم أكثر قوة واستمرارية. فتاريخ العلوم هو تاريخ القطائع الإبستمولوجية، كما يقول باشلار، ودوبريه يعي جيدا أن أنماط التواصل متعددة لكنها زئبقية تستعصي على التقيد بمبدأ واحد أو تفسير مستعجل. يقول دوبريه «ومع ذلك أطلب لعلم الإعلام الحق في الوجود كعلم مستقل.هل في هذا تناقض؟ علم الاجتماع موجود، مع أن المجتمع لا وجود له. عند أي حد من السلم الحيواني يبدأ المجتمع- عند النحل أو النمل أو القطعان؟ عند أي عتبة من الترابط – الأسرة أم العائلة أم القبيلة؟ هل المؤسسة مجتمع أم حزب أم جمهرة أم إنسانية؟ و«مجتمع الأمم» هل هو أيضا «واقع اجتماعي». لم يقدم أي عالم اجتماع إجابات قاطعة ومقبولة بشكل شمولي على هذه الأسئلة التي تبدو مع ذلك أولية. لقد كانت نظرية دوبريه في «علم الإعلام العام (الميديولوجيا) تنهض سلفا على زعزعة بعض الثوابت في بعض العلوم الإنسانية (كعلم الاجتماع) مع مؤسسه أوكست كونت باعتباره لم يرق كعلم وضعي واعتبار علماء الاجتماع مجرد مؤرخين فاشلين أو فلاسفة مكبلين. لم يكن باستطاعة علم الإعلام أن يظهر قبل أن نتمكن من اكتساب الشعور بأن وسائل النقل، كأي شيء آخر في العالم، تخضع لقوانين تنبثق بالضرورة من طبيعتها، وهي تعبر عن هذه الطبيعة. إلا أن هذا التصور كان بطيئا في تكونه.لقد اعتقد الناس طوال قرون من الزمن بأن الآلات الإعلامية لم تكن تحكمها قوانين محددة، بل كانت تستطيع أن تتخذ جميع الأشكال وجميع الخصائص الممكنة، شرط أن تقوم إرادة قوية بشكل كاف للاهتمام بهذا الأمر. لقد كان يعتقد أن بعض السياسات أو بعض القرارات كانت لها فضيلة تحويل الجهاز التلفازي إلى وسيلة للتثقيف العام، وصورة الفيديو إلى مفهوم للعقل، وبالعكس، وهذا الوهم الذي يتملكنا نحوه نوع من الميل الغريزي سوف يدوم وقتا طويلا في مجال وقائع النقل.