بقلم الدكتور أيوب بنجبيلي باحث في القضاء الإداري إدا كانت المحاكم الإدارية بالمغرب لم تتوان منذ نشأتها في إعطاء صورة إيجابية للمواطنين عن العدالة الإدارية، إذ منحت خدمات مثلى للمتقاضين في نزاعاتهم مع الإدارة، كما أنها مارست وظيفة إيجابية جديرة بالاعتبار من خلال تقويم اختلالات الإدارة، والارتقاء بثقافة الديمقراطية تكريسا لدولة الحق والقانون عن طريق الحد من التجاوزات، مما جعل جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله يعلن في خطابه التاريخي ليوم 8 ماي 1990 عن إحداث محاكم إدارية إلى جانب إحداثه للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي جاء فيه "لذا قررنا(….) إعطاء المواطنين الوسيلة القانونية والسريعة والجدية وذات الفعالية، للدفاع عن حقوقهم كمواطنين إزاء الإدارة أو السلطة أو الدولة نفسها (…) إذا أردنا حقيقة أن نبني دولة القانون، فعلينا كذلك، أن نأخذ بعين الاعتبار حقوق المواطنين بالنسبة للسلط وللإدارة وللدولة" . الا أن هذه الوسيلة اليوم حرفت عن الغاية التي ولدت بها، وأصبحت المحاكم الادارية مرتعا وفضاء لاستصدار أحكام قضائية ضد الجماعات الترابية في إطار التواطؤ وصناعة المنازعة تلزمها بأداء مبالغ مالية هي في أمس الحاجة إليها الشيء الذي يثقل كاهل ميزانيتها، مما يحول بينها وبين قيامها بالمهام الرئيسية الموكولة لها في مجال التنمية المحلية . لهذه الأسباب حظيت المنازعات القضائية للجماعات الترابية خلال السنين الأخيرة بأهمية كبيرة من لدن مديرية المؤسسات المحلية بوزارة الداخلية نظرا لما لها من تأثير مباشر على تدبير الشأن الترابي وقد تجسد هذا الاهتمام في الدوريات والمناشير التي ما فتئت هذه الوزارة تصدرها من أجل تنوير وإرشاد الجماعات الترابية وتحسيسها بأهمية تدبير هذا الميدان على النحو المطلوب. فقد تبين من خلال دراسة جداول القضايا التي عرفتها الجماعات الترابية كمدعى عليها خلال الفترة الانتدابية السالفة، أن عدد المنازعات القضائية و الأحكام الصادرة ضدها وحالات عدم تنفيذ هذه الأحكام قد تصاعد بشكل كبير نتيجة لعدد من الثغرات والإختلالات القانونية و المسطرية التي شابت عملها أثناء تدبيرها لهذا القطاع فضلا عن تسجيل تهاون وعدم اهتمام من جانبها طيلة مدة سريان الدعوى أمام القضاء. وبهذا الصدد، أصدر السيد وزير الداخلية الدورية رقم D.1747 بتاريخ 22 دجنبر 2021 حول تدبير المنازعات القضائية للجماعات الترابية موجهة إلى كل من ولاة الجهات وعمال العمالات والاقاليم وعمالات المقاطعات وكذا رؤساء مجالس الجماعات الترابية دعت إلى الحرص على التأكد من مدى صحة ادعاءات المدعين، موضحة أن تتبع المنازعات القضائية للجماعات الترابية أظهر لجوء بعض المتقاضين إلى رفع دعاوى بسوء نية، من أجل استصدار أحكام قضائية بأداء مبالغ مالية لفائدتهم. حيث حذر وزير الداخلية الجماعات الترابية بمختلف أنواعها، في مثل هذه الحالات، بالمبادرة إلى رفع دعاوى في مواجهة المعنيين بالأمر، من أجل المطالبة باسترداد تلك الأموال، وتحريك الدعوى العمومية في مواجهتهم عند الاقتضاء، خاصة وأن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية ساهمت في منح القاضي الإداري دورا مهما في ممارسة رقابة موسعة على المجالس المنتخبة، ابتداء من تشكيلها، مرورا بضمان حسن سيرها، وصولا إلى مزاولة مهامها، وفق المبادئ والأهداف التشريعية والتنظيمية المسطرة لها، وذلك إسهاما منه بالرقي بممارسة الشأن العام الترابي التي أخذت مع هذه المستجدات مَنْحًا جديدا، قوامه ربط المسؤولية بالمحاسبة، وأساسه الديمقراطية التشاركية والحكامة الجيدة. تعبيرا عن رغبة المشرع في تقوية دور القضاء في تعزيز الجهوية المتقدمة والرقي بها، وضمان المشروعية، من خلال تحقيق التوازن بين ممثلي السلطة المركزية والمجالس المنتخبة، من جهة. ومن جهة ثانية ، مساءلة الإدارة الترابية عن أعمالها وأنشطتها سواء في محيطها الداخلي أو في علاقتها بالمرتفقين. إن خطوة بحجم إحداث المحاكم الإدارية وما تستهدفه من تقريب القضاء من المتقاضين وإقرار دولة الحق والقانون، تستدعي الآن أكثر من أي وقت مضى الضرب على أيدي كل من سولت له نفسه المس بالمال العام خاصة ونحن أمام مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب . ونظرا لتداعيات عدد الدعاوى وعدد الأحكام القضائية الصادرة ضد الجماعات الترابية على ميزانياتها وما تخلفه من انعكاسات سلبية على السير العادي لمرافقها العمومية، فإن معالجة هذه الإشكالية والحد منها أصبحت ضرورة ملحة، وهذا لن يتأتى إلا بتحسيس المجالس الجماعية بمدى خطورتها والعمل على ضبط منازعاتها القضائية احتراما لسيادة المشروعية وقدسية القضاء ودعما لدولة الحق و القانون.