عرف القضاء الإداري المغربي مجموعة من التطورات التاريخية قبل وصوله إلى شكله الحالي. فإذا كانت نشأة القضاء الإداري الفرنسي ارتبطت بالثورة الفرنسية لسنة 1789، وذلك بخلق جهة مختصة بالبت في النزاعات التي تكون الإدارة طرفا فيها. فإن المغرب اعتمد أول تجربة له في مجال القضاء الإداري في عهد ولاية المظالم، وتمثلت هذه التجربة في وزارة الشكايات التي كانت تشكل جزءا من حكومة السلطان. ورغم ذلك فإن القضاء الإداري بشكله المعاصر لم تبدأ إرهاصاته الأولى إلا مع التوقيع على معاهدة الجزيرة الخضراء بتاريخ 07 أبريل 1906، والتي تضمنت مقتضيات تعلقت بنزع الملكية، والنزاعات المرتبطة بالأشغال العامة، وعقود الامتياز، وهو ما يمككنا من القول: أن هذه التجربة هي الأولى على مستوى إدخال نصوص قانونية متميزة عن القانون الخاص، والتي لها ارتباط بالقانون الإداري. ومع توقيع المغرب على معاهدة الحماية بتاريخ 30 مارس 1912، تم إصدار ظهير 13 غشت 1913، الذي بموجبه تم إحداث تنظيم قضائي حدد اختصاص المحاكم العصرية في مجال القضاء الإدراي. وتم بعد ذلك تعزيز هذا الظهير بمجموعة من النصوص القانونية المواكبة، أبرزها الفصلين 79 و 80 من قانون الالتزامات والعقود الذي بمقتضاهما حددت مسؤولية الدولة والبلديات عن الإخطاء الصادرة عنهما بسبب تسيير إدارتها، والأخطاء الصادرة عن مستخدميهما. كما تم إصدار قانون نزع الملكية سنة 1914؛ وقانون المنازعات الضريبية سنة 1924؛ وقانون المعاشات المدنية والعسكرية سنة 1930؛ وقانون تحصيل الديون العمومية سنة 1930. غير أن هذه التطورات التي عرفها المغرب في مجال القضاء الإداري، لم تمتد لتشمل قضاء الإلغاء، وإنما انحصرت في القضاء الشامل الذي تبت فيه المحاكم المدنية في إطار ازدواجية القانون، وهو ما يعرف بوحدة المحاكم وثنائية القانون. بعد حصول المغرب على الاستقلال، عمل على إلغاء جميع المحاكم التي تتنافى مع السيادة المستقلة له، فأحدث محاكم جديدة منها المحاكم العادية والمحاكم العصرية، ومحاكم الشغل، تم المجلس الأعلى بموجب الظهير رقم 1.57.223 الصادر بتاريخ 27 شتنبر 1957، والذي ضم عدة غرف منها الغرفة الإدارية التي لا تعتبر محكمة مستقلة، وإنما غرفة كباقي الغرف المكونة للمجلس الأعلى. وذلك قبل أن يصدر قانون التوحيد والمغربة والتعريب في 16 يناير 1965، الذي ألغى ضمنيا المحاكم العصرية والمحاكم الشرعية والمحاكم العبرية، ليصبح التنظيم القضائي المغربي مكونا من محاكم السدد والمحاكم الإقليمية ومحاكم الاستئناف والمجلس الأعلى الذي صاحبه إحداث دعوى الإلغاء من أجل الشطط في استعمال السلطة، والتي تعتبر من الدعائم الرئيسية للقضاء الإداري، وأهم الوسائل القانونية لضمان حريات وحقوق الأفراد. ونتيجة للتطورات التي عرفها المجتمع المغربي، والتي تؤثر بشكل مباشر على المنظومة القضائية، أحدثت كمرحلة أولى بتاريخ 10 شتنبر 1993، المحاكم الإدراية، ثم كمرحلة ثانية المحاكم التجارية بتاريخ 12 فبراير 1997، وبعدها محاكم الاستئناف التجارية ومحاكم الاستئناف الإدارية. بعد إحداث المحاكم الإدارية بموجب القانون 19/41 الصادر بتاريخ 10 شتنبر 1993، أصبحت القضايا الإدارية التي كانت تدخل ضمن اختصاص المحاكم الابتدائية، اختصاص خالص للمحاكم الإدارية. ويمكن أن نجمل انطلاقا من المادة الثامنة من القانون المذكور أعلاه ، اختصاصات هذه المحاكم، وهي كالتالي: فحص شرعية القرارات الإدارية؛ البت ابتدائيا في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدراية بسبب تجاوز السلطة؛ البت في النزعات المتعلقة بالعقود الإدارية ودعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام؛ النظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمعاشات ومنح الوفاة المستحقة للعاملين في مرافق الدولة والجماعات الترابية وموظفي إدارة مجلس النواب ؛ النظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات والضرائب ونزع الملكية لأجل المنفعة العامة؛ البت في الدعاوى المتعلقة بتحصيل الديون المستحقة للخزينة، والنزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين والعاملين في مرافق الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية. إلى جانب ذلك تمارس المحاكم الإدارية قواعد الاختصاص المحلي المنصوص عليه في الفصل 27 وما يليه إلى 30 من قانون المسطرة المدنية، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. كما تختص المحكمة الإدارية بالرباط إلى جانب باقي الاختصاصات الموكولة لجميع المحاكم الإدارية، بالنظر في النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للأشخاص المعنيين بظهير شريف أو مرسوم، وكذلك بالنظر في النزاعات الراجعة إلى اختصاص المحاكم الإدارية التي تنشأ خارج دوائر جميع المحاكم. ولدراسة دور ومكانة القضاء الإداري في حماية الحريات والحقوق الأساسية للمواطنين، وجب علينا أولا أن نتطرق لمبدأ المشروعية ( الفقرة الأولى)، ثم بعد ذلك دور القضاء الإداري في حماية حريات وحقوق الأفراد، مع استحضار أمثلة عملية لبعض القرارات ( الفقرة الثانية) الفقرة الأولى: مبدأ المشروعية تعتبر أعمال السلطة الإدارية أعمالا عامة مادية كانت أم قانونية، وتختلف الأحكام القانونية التي يخضع لها كل نوع من هذه الأعمال. فالأعمال القانونية هي تلك النشاطات والتصرفات التي تقوم بها الإدارة بصفتها سلطة عامة، وذلك إما بإرادتها المنفردة، أو بالإشتراك مع إدارة أخرى ( العقود الإدارية). أما الأعمال المادية فهي تصدر عن الإدارة بإرادتها المنفردة، أي من جانبها وحدها، بما لها من امتياز السلطة العامة، وبأساليب القانون العام، دون الحاجة إلى مشاركة الأفراد في ذلك. وعلى اعتبار أن القرار الإداري عمل قانوني صادر عن سلطة عامة، ومظهر رئيسي وأساسي لوسائل الإدارة في مباشرة نشاطاتها، والأسلوب الأكثر شيوعا في أعمال الإدارة التي لا يمكنها الاستغناء عنه، والذي من شأنه إحداث أو إنتاج آثار قانونية. فإنه يتعين على هذا القرار، أن يكون خاضعا لمبدأ سيادة القانون، وذلك تطبيقا لمبدأ حتمية خضوع الإدارة وجميع أعمالها لسيادة القانون، حتى لا يستعمل لغرض الشطط في استعمال السلطة وتقييد والمساس بحريات وحقوق المواطنين. وبما أن أصل القرار الإداري مشروعيته، فإن هذه المشروعية لا تكون إلا إذا سلم القرار من جميع عيوبها. ما يعني، عدم خروج هذا القرار عن أحكام ومبادئ المشروعية التي تسود الدولة، إذ أن فكرة سلامة القرارات الإدارية مرتبطة بمبدأ المشروعية في الدولة، وهذه ضمانة لصون حريات وحقوق الأفراد. إذ يكون محتما على الإدارة، إصدار قراراتها وفق الشكل والضوابط التي يحددها القانون، فإذا خرجت الإدارة عن تلك الضوابط، يعد القرار حينها غير مشروع، ويحق للأفراد المتضررين جراءه الطعن بإلغاءه أمام المحاكم المختصة ( دعوى الإلغاء). ونظرا لأهمية هذا المبدأ على مستوى تقييد عمل وتصرفات الإدراة، والحيلولة من غير الوقوع في تجاوزات استعمالها لسلطاتها العامة، ومساسها إثر ذلك بحريات وحقوق الأفراد كما أشرنا سالفا، فإن جميع دساتير المملكة المغربية، بما فيها دستور 2011، نصت على إلزامية الإدارة باحترام مبادئ المشروعية أثناء ممارستها لسلطاتها العامة، ونص الفصل السادس من دستور 2011 على " القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له". وبذلك يكون من واجب الإدارة العامة، العمل في دائرة القانون، والالتزام به والخضوع له، بحيث يأخذ القانون هنا بمدلوله العام، أي جميع القواعد الملزمة، سواء كانت مكتوبة أو غير مكتوبة، وأيا كان مصدرها، مع مراعاة التدرج في قوتها. وبما أن الدستور جزء لا يتجزء من كتلة المشروعية، وقواعده تتخذ قمة التسلل الهرمي في سلم تدرج القوانين، أي أن قواعده تسمو على جميع التشريعات، وهو ملزم بالنسبة لجميع القرارات الإدارية سواء كانت فردية أو تنظيمية، فإذا ما ثبت مخالفتها لأحكامه جاز الطعن فيها بعدم المشروعية. وبذلك فقد حدد الدستور في فصله 71 مجال القانون، وأسند مجال السلطة التنظيمية للحكومة في فصله 72، وجعل كل ما لا يدخل في مجال القانون يدخل ضمن مجال السلطة التنظيمية. ما يعني أن جميع القرارات التي تتخذها الحكومة في إطار ممارستها لسلطلتها التنظيمية المستقلة، تعتبر قرارات إدارية، وبالتالي وجوب خضوعها لمبدأ المشروعية، والطعن فيها بالإلغاء إذا كانت تمس بحريات وحقوق الأفراد المكفولة دستوريا. وهو نفس الأمر الذي ينطبق على المراسيم التي تتخذها الحكومة بناء على قوانين الإذن التي نص عليها الفصل 70 من الدستور، وكذا مراسيم بقوانين التي تتخذها الحكومة خلال الفترة الفاصلة بين دورات البرلمان بناء على الفصل 81، التي تتم باتفاق مع اللجن البرلمانية المعنية. وهنا لا بد من الإشارة لحالة خاصة، وهي حينما نكون أمام قرار إداري مطابق لنص تشريعي، وهذا الأخير مخالف لأحكام الدستور. بمعنى، نكون أمام عمل إداري مشروع، أي مطابق للنص التشريعي الذي اتخذ على أساسه، إلا أنه غير دستوري، وهذه لا دستورية مستمدة من لا دستورية النص التشريعي. في هذه الحالة طرح السؤال، هل يجوز لقاضي الإلغاء أن يحكم بإلغاء القرار، لأن النص التشريعي الذي استمد منه مشروعيته مخالف لأحكام الدستور؟ والجواب سيكون بالنفي، لأنه لا يمكن السماح للقاضي الإداري بإلغاء عمل من هذا القبيل، لأنه بذلك نجعل منه قاضي فحص دستورية القوانين التشريعية، وهذا اختصاص أوكله الدستور للقاضي الدستوري. وهو ما عبر عنه المشرع من خلال الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية، في عدم جواز السلطات القضائية مراقبة دستورية القوانين، وذلك لأن صلاحية البت في دستورية النصوص التشريعية اختصاص مسند للمحكمة الدستورية في إطار الرقابة القبلية الاختيارية. إلا أن هذا الاختصاص مشروط بضرورة إحالة القوانين عليها من قبل الهيئات التي مكنها الدستور صراحة من ذلك، تطبيقا للفصل 132 منه، وفي حالة العكس فإن القانون يتحصن ولو كان مشوبا بعيب دستوري. في مقابل إمكانية الدفع بعدم دستورية القانون كآلية رقابية بعدية حديثة تجيز للأفراد التمسك بعدم دستورية قانون ما عند وجود منازعة جارية أمام أية جهة قضائية، وإن كانت ولا تزال معلقة على شرط صدور قانون تنظيمي يؤطرها. وبالتالي، فلا يحق للقاضي الإداري التدخل لإلغاء قرار إداري صحيح، رغم أن صحته هذه مستمدة من نص تشريعي غير دستوري، ذلك مادامت أن مهمة بسط الرقابة على دستورية القوانين اختصاص أصيل للقضاء الدستوري. وعودة إلى الفصل 118 من الدستور الذي منح حق الطعن في جميع القرارات الإداية أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة، سواء كان هذا القرار تنظيميا أو فرديا، والذي يأتي ذلك في سياق اعتبار القاضي الإداري حامي للحريات والحقوق. فإنه في كثير من الحالات ما بسط القاضي الإداري رقابته على مثل هذا النوع من القرارات المشار إليها، و هناك حكم رقم 60 صادر بتاريخ 20 يناير 2009 في ملف رقم 96/08/5، الصادر عن إدارية وجدة، يقضي يإلغاء قرار للمحافظ العقاري القاضي بتأسيس رسم عقاري، و نحن نعلم أن مسألة الفصل 62 من القانون14.07 أسالت الكثير من المداد قبل صدور دستور 2011، لأن هذا الفصل غير دستوري. إضافة لما سبق فالمحكمة الإدارية بالرباط، قد استبقت إعمال مقتضيات الفصل 134 من الدستور في هذا الباب، حيث أكدت في أحد أحكامها الصادرة بتاريخ 31 مارس 2013 في الملف رقم 420/5/2012، استنادا لقاعدة عدم قابلية القرارات الإدارية للتحصين القضائي (الفصل 118 من الدستور) على أن: "… سمو القاعدة الدستورية على ما عاداها من نصوص قانونية يشكل تكريسا للشرعية وسيادة للقانون باعتبارهما من مبادئ دولة الحق والقانون، التي تأبى تحصين أي قرار إداري مهما علا شأنه وتعددت مصادره واختلفت مجالاته، من الرقابة القضائية، لكون القضاء هو الحامي الطبيعي والحارس الأمين للحقوق والحريات، الذي لا تصدر أحكامه إلا على أساس التطبيق العادل للقانون". وفي نموذج آخر، فمقتضيات الفقرة الثانية من المادة 12 من الظهير الشريف الصادر في 27 أبريل 1919، قبل تعديله، و المتعلق بتنظيم الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية ،وتنظيم تسيير وتفويت أراضي الجموع حسبما وقع تغييره وتتميمه، كانت تمنع الطعن في القرارات الصادرة عن مجلس الوصاية المختص إزاء الأراضي السلالية، والذي يرأسه ممثل وزير الداخلية. وهو المنع الذي حاول القضاء الإداري تجاوزه بعد دستور 2011 (رغم التذبذب الذي ساد قبل هذا التاريخ)، مستندا في ذلك على مقتضيات الفصل 118 من الدستور. حيث قضت محكمة النقض بغرفتيها الإدارية والمدنية في إحدى قراراتها التي تحمل رقم 174/1 بتاريخ 29/01/2015، أنه: "… حيث لما كان دستور المملكة، وفي إطار حماية حقوق المتقاضين وقواعد حسن سير العدالة، قد نص في الفصل 118 على أن كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة، مانعا بذلك تحصين أي قرار إداري من الخضوع للرقابة القضائية، ولما كانت دعوى الإلغاء هي بطبيعتها دعوى قانون عام يمكن أن توجه ضد أي قرار إداري دونما حاجة إلى نص قانوني صريح يجيزها، ورغم وجود نص قانوني يحظرها، باعتبار أن حق التقاضي هو من المبادئ الأساسية التي لا يجوز إطلاقا المساس بها. فإن المحكمة مصدرة القرار المطعون فيه بما أوردته في قضائها من أن قرارات مجلس الوصاية تعتبر قرارات إدارية بطبيعتها (...) فإنه سليم ولم تخرق أي مقتضى قانوني محتج بخرقه ". وهكذا، يتضح أن السلطة القضائية الإدارية قد حاولت الانتصار في العديد من المناسبات للمقتضيات الدستورية، في إطار رقابتها على قرارات وأعمال السلطات الإدارية، إلا أن آثار التدخل القضائي الإداري لا يتعدى أطراف النزاع، كما أنه لا يعد ضمانة كافية لاستبعاد التشريعات الغير الدستورية، ما دام الاجتهاد القضائي لا يحل بشكل آلي محل التشريع. وبالتالي، فإن أهمية إعمال المقتضيات الدستورية عن طريق القوانين التنظيمية والتشريعات العادية وفق روح ومنطوق الوثيقة الأسمى، يعتبر ضمانة حقيقية لقيام دولة القانون وتكريس الأمن القانوني وتعزيز الشرعية الدستورية . الفقرة الثانية: دور القاضي الإداري في حماية الحريات والحقوق الأساسية – أمثلة عملية لبعض القرارات- للقاضي الإداري دور مهم في تجسيد الحماية الفعلية للحريات والحقوق الأساسية واقعيا، فهو باعتباره قاضي يفصل في المنازعات الإدارية يشكل حامي لحريات الطرف الأضعف في مواجهة الإدراة التي تتمتع بسلطات وامتيازات في مواجهة الأفراد، وبذلك يكون الإنسان وحرياته وحقوقه الأساسية في مركز ضعف في مواجهة الإدارة، وهذا مايستدعي تدخل السلطة القضائية للحد من تجاوزات الإدارة في مجال الحريات والحقوق الأساسية. ومن ثم فإن الرقابة القضائية على مشروعية أعمال السلطات العامة تشكل الضمانة الحقيقية للحريات والحقوق الأساسية، لما في ذلك من تبني لشرعية دولة الحق والقانون، بحيث يشكل قاضي الإلغاء مفتاح الالتزام بسيادة القانون، ويتوقف عليه احترامه بمعناه الواسع الذي يتجاوز التقيد المجرد بالنصوص، إلى احترام مضمون القانون من حيث وجوب حمايته لحريات وحقوق الأفراد. ويعتبر الخطاب الملكي ل 08 ماي 1990 أمام أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، نقطة التحول الكبرى في اتجاه تعزيز وتدعيم دولة الحق والقانون والمؤسسات، وذلك عندما نص على الإرادة الملكية في إحداث إصلاحيين أساسيين في المنظومة المؤسساتية المغربية من أجل احترام مبدأ الشرعية من قبل السلطات الإدارية، الأول يتعلق بإنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، و الثاني متعلق بإحداث المحاكم الإدارية، حيث ركز الخطاب على وضع الإطار العام لمراقبة القضاء للإدارة، وتحديد الإجراءات العملية لإنجاح الإصلاح. وقد عمل القضاء الإداري بعد إنشاءه، من خلال الدعوى الإدارية بشكل خاص بقسميها – دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة أو دعوى القضاء الشامل- بممارسة الرقابة القضائية على أعمال السلطة الإدارية، ومراقبة مدى احترامها للحريات والحقوق، وضمان الزامها باحترامها في حالة وجود أي خرق من قبلها. وهو ما عمل عليه من خلال إلغاء مجموعة من القرارات الإدارية التي تمس بحريات وحقوق الأفراد. حيث نجد مثلا فيما يخص ترقية الموظفين أن المجلس الأعلى قضى بأن (..مبدأ مساواة الموظفين أمام القانون و أمام الفرص المتاحة لترقيتهم يفرض على الإدارة أن تستجيب لطلب الطاعنين الذين يوجدون في نفس الوضعية القانونية التي كان عليها أحد زملاءهم ورفض إدماجهم في سلم واحد جميعا، قرار يتسم بالتجاوز في استعمال السلطة…) كما عمل القضاء الإداري المغربي على تكريس حماية حرية الاجتماع، و يتضح ذلك جليا من خلال دعوى الإلغاء بسبب تجاوز السلطة المتعلقة بتأسيس الجمعيات، إيمانا منه بأن العلة لا تكمن فقط في تطبيق القانون، وإنما في مدى ملاءمة هذا القانون لتحقيق العدالة. وفي هذا الصدد، قضت المحكمة الإدارية بأكادير بأن: "… تأسيس الجمعيات في القانون المغربي يقوم على نظام تصريح غير خاضع لأي ترخيص مسبق، والإدارة ملزمة بحكم القانون بتسليم وصل الإيداع، و يختص القضاء وحده بمراقبة المشروعية أو الملاءمة لنشاط الجمعية…". فكثيرا ما تتخذ السلطة المحلية مراقبة ملاءمة ومشروعية أنشطة الجمعية كذريعة لرفض تسليم الوصل، وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بمراكش في قرار لها بهذا الخصوص، عندما صرحت بأنه: "…لا يحق للسلطة المحلية رفض تسليم وصل الإيداع المتعلق بتأسيس الجمعيات، فالقضاء وحده هو المختص بمراقبة المشروعية و مدى احترام الجمعيات للقانون والتزامها به".. كما أكد القضاء الإداري المغربي في العديد من المناسبات أنه حريص على عدم المساس بحرية التجول، ويتضح ذلك جليا سواء في قرارات المجلس الأعلى أو أحكام المحاكم الإدارية. ففي قرار للمجلس الأعلى جاء فيه: "… ينص الفصل التاسع من الدستور على حرية التجول، وأنه لا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحرية إلا بمقضي القانون..". وقد كان لإنشاء المحاكم الإدارية دور مهم في ضمان ممارسة هذه الحرية، حيث أنها تجاوزت أحيانا التصريح بإلغاء القرارات الإدارية المطعون فيها إلى التصريح بكونها معدومة، وهذا اتجاه سليم و محمود ذهبت إليه المحكمة الإدارية بالرباط، حيث اعتبرت بأن: "… القرار المعدوم هو القرار المشوب ،بعيب صارخ أو متناهي الجسامة، كما لو كان مخالفا لمقتضيات الدستور، فإن الطعن بالإلغاء ضد مثل هذا القرار يكون جائزا في أي وقت دون التقيد بميعاد رفع دعوى الإلغاء. وقرار الامتناع عن تجديد جواز السفر دون تبرير الأسباب، مخالفة لمقتضيات الفصل التاسع من الدستور، و بالتالي يعتبر تجاوزا في استعمال السلطة وموجبا للإلغاء…". وإذا كان القضاء الإداري المغربي في البداية يضع لنفسه حدودا، وذلك بتقييده لاختصاصه في مراقبة السلطة التقديرية للإدارة في قضايا نزع الملكية، فإنه تطور إلى حد أصبح يصدر قرارات جريئة لاقت استحسانا من قبل العديد من الفقهاء والباحثين، وتوازت مع ترسيخ دعائم دولة الحق و القانون. ففي قرار للمجلس الأعلى اكتفى فقط بأن الإدارة أشارت إلى تواجد المصلحة العامة دون البحث أكثر "…حيث يعيب الطاعن علة المقرر المطعون فيه إساءة استعمال السلطة، وانعدام سبب نزع الملكية متوفرة ولهذا فإن القرار المطلوب إلغاؤه لا يشوبه أي شطط…" و هكذا فإن القضاء الإداري المغربي أرسى قواعد مهمة من شأنها تكريس حماية حق الملكية، وهو ما أجمله أحد قضاة المحاكم الإدارية في القواعد التالية: 1 – الطعن بالإلغاء ضد مشروع نزع الملكية مقبول ما دام هذا المشروع نشر في الجريدة الرسمية وقامت الإدارة نفسها بترتيب الآثار القانونية المترتبة عليه، وأثبتت عنه حقوقا للغير وأسقطت أخرى ( قرار المجلس الأعلى عدد 212 بتاريخ 29/06/1998)؛ 2 – يجب أن لا يتضمن المشروع ما من شأنه التأثير في مراكز المنزوع ملكيتهم أو المس بحقوقهم، ومن ذلك تضمينه إجراءات وآجالاً لا يتضمنها عادة إلا مرسوم نزع الملكية (قرار المجلس الأعلى عدد 533 بتاريخ7/12/1995) 3 – يجب على الإدارة أن تقف في المشروع عند الحدود التي رسمها المشرع للمشروع المتعلق بنزع الملكية، والمتمثلة في الإفصاح عن نية الإدارة في ممارسة سلطتها في هذا المجال، دون أن تعطي له أثرا قانونيا، وترتب عليه حقوقا و تسقط أخرى. 4 – يجب تضمين مشروع نزع الملكية كونه اتخذ باقتراح من الوزير المعني بالأمر تحت طائلة البطلان. 5 – لا يوجد ما يمنع الإدارة من تلافي اختلالات سابقة، وذلك بإصدار مرسوم جديد تحترم فيه الإجراءات القانونية، وتتلافى فيه العيوب التي شابت مقررا سابقا. أما بخصوص الحق في الإضراب، فقد صرحت المحكمة الإدارية بمكناس في قرار لها على أنه: "… حق الإضراب حق دستوري أكدته جميع الدساتير المتعاقبة… عدم صدور تشريع تنظيمي يحدد كيفية ممارسة حق الإضراب لا يعني إطلاق هذا الحق بلا قيود، بل لا بد من ممارسته في إطار ضوابط تمنع من إساءة استعماله، و تضمن انسجامه مع مقتضيات النظام العام و السير العادي للمرافق العمومية، على نحو لا يمس سيرها المنتظم بشكل مؤثر…" كما أن القضاء الإداري المغربي أصدر مجموعة من المواقف المعارضة للحق في الإضراب، ويتعلق الأمر هنا بحكم متعلق بالسيد محمد الحيحي الذي كان قد أضرب عن العمل كأستاذ في وزارة التربية الوطنية والشبيبة والرياضة، والذي اتخذت الحكومة في حقه قرار يقضي بتوقيفه عن مهامه بدون راتب اعتمادا على الفصل الخامس من مرسوم 1958، الشيء الذي أدى بهذا الموظف إلى القيام بطعن أمام الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى، والتي اعتبرت عقوبة التوقيف قانونية، على أساس أن السلطة التنظيمية العامة لرئيس الحكومة تمكنه من اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الإضراب في المرافق العامة. ويشاطر الأستاذ بودالي عزيز أحد القضاة الإداريين لرأي الأستاذ محمد ضريف، في كون القضاء المغربي، وإن لم ينكر مشروعية حق الإضراب، فإنه تعامل معها بنوع من الحذر، وذلك حسب الظروف الزمنية و المكانية و المناخ السياسي السائد وأهميته، وحجم المطالب المهنية، وأن القضاء يميل في هذا الصدد إلى التضييق من ممارسة حق الإضراب. وفي ختام هذه المقالة التي حاولنا من خلالها رصد الإطار الحقوقي من منظور القضاء الإداري، والذي له ارتباط وثيق بمبدأ المشروعية، وللعلاقة الجدلية القائمة بينهما، والمعهود ضمانها إلى مؤسسة القضاء الإداري الذي شهد تطورا ملحوظا بالمغرب، رغم أن هذا التطور الذي يعرفه مجال القضاء بشكل عام لا يرقى إلى مستوى ازدواجية القضاء كما هو متعارف عليه. وهو ما تظهره سمات الوحدة سواء من الناحية الهيكلية، بوجود وحدة القمة بين جهتي القضاء الإداري والقضاء العادي، فازدواجية القضاء تستدعي بالضرورة التدرج في التقاضي على ثلاث درجات إدارية. بمعنى، وجود هيئة عليا للقضاء الإداري تشكل درجة تقاضي ثالثة مستقلة عن القضاء العادي. بمعنى آخر، أننا أمام ضرورة ملحة لإحداث مجلس دولة مغربي، أو هيئة قضائية إدارية عليا مهما اختلفت تسميتها. كما أن من سمات ازدواجية القضاء وجود محكمة تنازع، وهو ما يفتقر إليه المغرب، بحيث نحتاج لتجاوز إشكاليات تنازع الاختصاص، إنشاء هذه الهيئة. هذا من الناحية الهيكلية، أما من ناحية الاختصاص فإننا نرى أن القضاء الإداري كهيئة قضائية تبت في النزاعات التي تعد الدولة ومؤسساتها العمومية طرفا فيها، فإنه يجب أن تسند إليها وظائف استشارية عوض الاقتصار على الوظائف القضائية المتمثلة في البت في النزاعات المعروضة عليها. * باحث في القانون العام والعلوم السياسية