بروكسيل : مصطفى منيغ الزَّارع للخير فلاَّح حصاده من الحُسنَى وَفِير ، يُقَابَل حيثما اتَّجه بالتّبجيل والتَّوْقير ، ومهما جلسَ تحت شجرة أفعالِه وتصرفاتِه مدَحَتْه بشداها الحنون ما تجمَّعت فوقها لتَحِيَّتِهِ العصافير ، وإن وقفََ على أبواب سوقٍ ذاب الغوغاء وحضرت في المبادلات التجارية أطيب المعايير ، وإن تجوَّل بين أزقة "المَرْكَز" غارت منها الدواوير ، فالاشتياق واحد واستعجال اللقاء لا يتم بدقّ الطبول والنفخ في المزامير ، وإنما بنداء مشتركٍ بين القلوب تَبَّثَ مَنْ زَرَعَ فيها ما يستحقّ انتظار طلعته بالطوابير ، الأقْوَام تتحدَّثُ بما تركَه فيهم مِن الأقْوَمِ تضامناً وتكافلاً لفرض ما يناسبهم من تدابير، أسلوباً حضارياً يُقنع كل المؤسسات والدوائر ، السائرة لِضَبْطِ المطلوب ضَبْطه ليتساوَى في الحقوق حاملي البطاقة الوطنية أكانوا في الأرياف أو الحواضر. … وصلت الآنسة (ث) للمقهى لتقاسمنا شرائح اللحم اللذيذة الطعم والرَّائحة ، واجدة معنا الطبيب الاسباني صديقي "خِرْمان" الغارق في حديثة مع "التطوانية" بلغة تتفوّق بها حتى عليه ، وقد أشارت عليَّ التنحِّي جانباً لتكلّمني على انفراد قائلة : – الكل تمام التمام ، أوامركَ نفَّذتُها بالحرفِ الواحد . خطّطتُ لتقضي اللّيل في "وجدة" ، سأرافقكَ إلى هناك ومع الفجر نعود إلى هنا ، لنقضي بقية صباح الغد ، ثم ترحل ثانية برفقة "التطوانية" وأمها ، لقد تدبَّرتُ الأمر مع شقيقي الذي ينتظركَ بباب المجزرة الخلفي المؤدِّي لدوار "الزّياني" ، لنلتحق به حالاً كي نرجع وبسرعة دون أن يفطن أحد بغيابنا . بالمكان المعلوم وجدتُ الشَّريف (بو…) وهو على أعصابه ، ليبلغني بالحرف الواحد : – ثمة أشخاص ثلاثة سيتسلَّلون في ساعة متأخرة من هذه الليلة لإلحاق الضَّرر بك إن لم يستطيعو خطفكََ ، لذا قرَّرنا أن ترحل بمجرَّد ما تطلبُ منكَ شقيقتي أن تتبعَها لتركبا سيارة غير سيارتها ، يسوقها أحد معارفي الذين أثق بهم ثقة عمياء ، الباقي اعتقد أنَّك مطَّلع عليه . أخبرتني شقيقتي العزيزة ، بكل ما دار بينكما ، وما عليَّ إلا مباركة ما أقدمتُما عليه ، أتمنّى لكما كل السعادة والصحة وطول العمر . عدنا لنجد "التطوانية" مستعرضة عضلاتها اللُّغوية على "خِرمان" ، الذي استحملَ ثرثرتها إلى الأقصى ، وما كاد يراني حتى نهض مغادراً ليرتاح ممَّا سبَّبته تلك المرأة من صداع في رأسه ، هامساً في أذني : كان الله في عونكَ صديقي الوفي . … تشرّفتُ بالسلام على أصدقاء أكنّ لهم المودة والاحترام ، ومنهم الأستاذ "بُورَاسْ" الذي فتح "مَلْبَنَة" لترويج منتوج ضيعته ، والأستاذ "الزبير بن جلون" مدير المدرسة وشقيق عمر بن جلون ، والسيد "عبد المالك" صاحب متجر المواد الغذائية ، والسيد "بولقرون" صاحب متجر ، الوحيد في "عين بني مطهر" الواضع فوق رأسه طربوشاً أحمر ومنذ أعوام ، والسيد "محمد" أبن نجار المركز ، والعديد من الإخوة لا يتَّسع المقال لذكرهم جميعا . أخيرا وصلنا الخيمة المعلومة لنجد العشرة قد لبوا الدعوة مشكورين ودون ضياع للوقت قدمتُ لهم الأخت "التطوانية" لتشرح لهم موضوع اللقاء طالباً منها الاختصار ما أمكن ، لتخاطبهم قائلة ، – أدركتُ مقام الاستاذ مصطفى منيغ عندكم ، لاشك أنه قدم لهذه الناحية الأشياء التي جعلت منه مسموع الكلمة ذائع الصيت ، اختصاراً جمعَكم هذه الأمسية المباركة ، ليسمع رأيكم الذي يعتزّ بسماعه ، والذي سيبني عليه قراراً مُهماً يخصّه ، له ارتباط بحياته وسلامتها ، تعلمون أن السيد أحمد عصمان رئيس الحكومة ، رشَّح نفسه في الانتخابات البرلمانية عن دائرة وجدة الشمالية بما فيها "عين بني مطهر ، وطُُُلِبَ من الاستاذ منيغ الانضمام للجنة من مهمتها الرئيسية تنظيم الحملة الانتخابية ، على أساس أن يتكلَّف الاستاذ منيغ بناحيتكم ، فهل تسمحون له بمباشرة الأمر أم تنصحونه بالابتعاد ؟؟؟. وقف أحدهم ليرد بلغته الواضحة الصريحة قائلا: – خيراً فَعَلَ بالاستشارة معنا وهو يعلم استعدادنا للمضي معه أينما أراد ، لكن ظهوره في هذا التوقيت بالذات يشكل خطراُ جسيما على حياته ، ولن نقبل بأي حال من الأحوال أن نكون السبب في إصابته بأي مكروه مهما كان حجمه ، فالأحسن أن يوجهنا ونحن معه في سرية مطلقة ومن بعيد ، أعتقد أن الاستاذ مصطفى فهم بدقة القصد ، وسيوفر الخطَّة المناسبة لذلك لنطبِّقها في الوقت المناسب . انتهى الكلام ، ليُفسَحَ المجال للطعام ، ولتظهر الآنسة (ث) فأتبعُها مستسلماً لما دبّرت بأسلوب مُحكم، متسلِّلاً دون إشعار حتى "التطوانية" التي تكفَّلت نفس الآنسة (ث) بكل ما يضمن سلامتها من مبيتٍ ووالدتها مع صاحبة الدار وما يحيط بها من نساء الأهل وقريب جوار. …وصلنا إلى وجدة في تمام التاسعة ليلاً وبدل التوجه مباشرة إلى بيتي ، ألحت أن نقضى الليلة في بيتها حتى تنتهي الخطة على أحسن ما يرام ، وافقتها الرأي حتى النهاية لأقف على حقيقة عمدت على التيقن من خباياها. في باب الفيلا الفخمة التي أنسبت ابتياعها من نصيب ما ورثته عن والدها منذ سنوات مضت ، بعد ما أضافت لها تدريجياً بعض المرافق لتجعل منها الإقامة التُّحفة المناسبة لمقام ساكنيها أصاحب ثروة وجاه. لو وصفتها من كل جانب لأودعني البحث لاكتشاف الفوارق الاجتماعية المسيطرة على عدم المقارنة بين الفقير الذي يزداد فقراً والغني الذي لا يزداد غنى وحسب بل نفوذاً أيضا ممًّا شكَّل خللاً أخَّر المغرب في مرحلة لتتقَّدم فئة من سكانه على جميع الأصعدة ، على العموم ورجوعا للنَّّص ، قدمتني (ث) لخديجة الطبَّاخة و زوجها الحارس والمكلف بالحديقة ، لننتقل إلى حجرة الطعام المُطِلّة على فضاء لم أتبيَّن بعد حجمه ولا الغاية المحددَّة فيه كجزء من المساحة الإجمالية لتلك الإقامة البعيدة عن تصوّر مَن كان مثلي ، إلى أن وصلت اللحظة الحاسمة التي عادة ما يُطلق عليها ليلة العمر … (يتبع)