تعيش الطبقة العاملة و عموم الشغيلة مفارقة على واجهتين: بيروقراطية نقابية جاثمة على رقابها، و سياسة طبقية من طرف الدولة و الباطرونا قائمة على الإستغلال و التفقير. مما يضع المناضلين الديمقراطيين الجذريين أمام صعوبات جمة و خيارات صعبة، في ظل البؤس السياسي و النزعات الإنهزامية والتسليم بأمر الواقع. وإذا كانت المنظمات النقابية إحدى واجهات الصراع الطبقي التي على المناضلين الإنخراط فيها لممارسة هذا الصراع، فإن البيروقراطيات المتحكمة فيها حاولت وتحاول إبعاد كل صوت ديمقراطي وعزله عن العمال والشغيلة، مما يجعل مواجهتها من بين المهام الراهنة الملقاة على عاتق كل مناضل ديمقراطي للقيام بدوره التاريخي. لكن ما معنى البيروقراطية؟ و ما هي سياقات تشكلها ومظاهرها؟ ثم ما هي الأليات التي تشتغل عبرها؟ و كيف السبيل لمواجهتها؟ يتضح من خلال كلمة "بيروقراطية" bureaucratie أنها مركبة من شقين هما bureau و تعني مكتب و cratie و تعني الحكم أو السلطة أو القوة، وهي مشتقة من الأصل الإغريقي krati. وبهذا تعني سلطة المكتب أو قوة المكتب. ومفهوم البيروقراطية بمعناه الحالي ورد لأول مرة علم 1745م في مؤلفات الإقتصادي الفرنسي فانسان دي غورني vincent de gourny باعتباره أول من نظر إلى المكاتب العامة كأداة عاملة في الحكومة وتحدث عنها باسم بيروقراطي bureaucrates، أي فئة من العاملين في المكاتب الإدارية. بينما في قاموس المنهل فإنها وردت كمرادف للديوانية، بمعنى أن البيروقراطي يحيل على الديواني أي موظف ديوان أو مكتب، وهو موظف إداري في ديوان حكومي، يؤدي عمله بنمطية جامدة مستغلا سلطته على الجمهور. أما معجم le petit larousse فقد عرف البيروقراطية على أنها سلطة الجهاز الإداري للدولة أو الحزب أو المؤسسة.. وهي مجموع الموظفين الذين يتعسفون في استخدام السلطة بشكل روتيني، إذن مفهوم البيروقراطية حسب هذا المعجم يحيل على الموظف الذي يستغل أهمية دوره في اتجاه الجمهور، و بالتالي فإن البيروقراطية مرتبطة بالجهاز الإداري و يمكن أن توجد في مختلف التنظيمات الموجودة بالمجتمع بما فيها المنظمات النقابية، و ينظر إلى البيروقراطية نظرة سلبية باعتبارها تشكل معوقاً وظيفياً تحول دون أداء التنظيم لوظيفته الحقيقية. و قد عرفها عالم الإجتماع الفرنسي مشيل كروزيه Michel Crozier بكونها تنظيم لا يستطيع تصحيح سلوكه عن طريق إدراك أخطائه السابقة، إذ أن القواعد التي تعتمد عليها البيروقراطية غالبا ما يستخدمها الأفراد لتحقيق أغرضهم الخاصة. سنقتصر في هذه الورقة على الحديث عن البيروقراطية داخل المنظمات النقابية و تحديدا في ظل النظام الرأسمالي، و ليس في منظمات أو مؤسسات أخرى، لذلك لابد من القول بداية أن البيروقراطية ليس كما يروج لها البعض مجرد مجموعة من الأفراد عديمي الشرف و الأخلاق و مجموعة من الفاسدين قادهم القدر للتسلط على الطبقة العمالية و باقي الشغيلة و على منظماتهم، و بالتالي يكفي إزاحتهم و تغييرهم حتى تتخلص المنظمات النقابية منهم. بحيث هناك أسباب عميقة جدا لتشكل البيروقراطية في أوساط المنظمات النقابية، و هو ما عبر عنه لينين في كتابه "الدولة و الثورة" بالقول:" إن الرأسمالية تضطهد البروليتاريا و تَسْتَعْبِدُ جماهير الشغيلة، وفي الرأسمالية تكون الديمقراطية مقيدة و مضغوطة و بَتْرَاء يشوهها المحيط الذي تخلقه عبودية العمل المأجور و فاقة الجماهير و بؤسها. و لهذا السبب و ما من سبب اخر، يُفْسِدُ الموظفون منظماتنا السياسية و النقابية (أو بالأحرى يظهرون ميلا إلى الفساد) من جراء المحيط الرأسمالي و يظهرون الميل للتحول إلى بيروقراطيين، أي أشخاص ذوي امتيازات منفصلين عن الجماهير و يقفون فوقها، هذا هو جوهر البيروقراطية، و ما لم تصادر أملاك الرأسماليين، ما لم تسقط البرجوازية، يظل حتما شيء من "التَبَرْقُط" عند موظفي البروليتاريا أنفسهم"، إذن البروقراطية لصيقة بالنظام الرأسمالي من حيث المبدأ، من حيث أن الرأسمالية تحصر العمال في وضع تخلف ثقافي و علمي يستحيل معه أن يصبح المناضلون من العمال قادة، مع استمرارهم في العمل المنهك و المضني، مما يدفعهم لإسناد مهمة القيادة إلى أفضل مناضليها تعلما، و هنا بمجرد ما يتفرغ الأفراد للعمل النقابي حتى تكون سيرورة التَبَقْرُط كامنة، ناهيك عن الفهم الملتبس بين الهدف و الوسيلة حول المنظمة النقابية لدى بعض القادة النقابيين، إذ تتحول المنظمة النقابية من وسيلة إلى هدف خاصة في ذهن الأفراد الأشد ارتباطا بها (خاصة المتفرغون)، و بالتالي يمكن التضحية بكل شيء في سبيل الحفاظ عليها، و على المصالح الشخصية التي تدره عليهم. إضافة إلى ذلك المنح أو الإعانات (الرشاوي/الريع) الذي تقدمه الدولة و الباطرونا للمنظمات العمالية الأكثر تمثيلية، أو حتى لكافة المنظمات، و تعيين المنتخبين في كل المستويات (المحلية، الجهوية، الوطنية…) ممثلي العمال و محرري الصحف العمالية في أجهزة الدولة، مما يؤدي إلى التداخل بين الأجهزة العمالية و أجهزة الدولة/البرجوازية، و يؤدي بالمقابل إلى الإنفصال المتزايد بين القيادة العمالية و قواعدها و تطورا متسارعا للنزعة البيروقراطية المحافضة، و هنا تتحول البيروقراطية من سلوك تنظيمي إلى ممارسة سياسية تعكس تصورا طبقيا للديمقراطية العمالية، من حيث هيمنة قيادة غير عمالية على سلطة القرار و التوجيه، و ما على القواعد سوى خدمة تلك القيادة المسنودة من قبل الباطرونا و الدولة، و هذا ما يؤدي إلى قلب الخط السياسي للنقابة من شعار الصراع الطبقي و التحرر من الإستغلال نحو التعاون الطبقي و الإندماج الواعي في النظام الرأسمالي، و مع تعدد الإمتيازات المادية و الإجتماعية تتشكل في أوساط الطبقة العاملة شبكة من الزبونية البيروقراطية و الوصوليين المنحطين مما يفضي إلى الإنحطاط اابيروقراطي الذي نشهده اليوم. و بذلك تكشف البيروقراطية عن وجهها البشع عبر تكبيل النقابة بسياسة التعاون الطبقي من خلال ترديد شعار "الشراكة الإجتماعية مع الباطرونا و الدولة" و ينتج عن هذا تعمق الإنفصال بين القيادة و القواعد مقابل تزايد ارتباط القيادة بأجهزة الدولة سواء على المستوى الوطني أو القطاعي المحلي، و بالتالي لم يعد هدف النقابة هو التحرر من الإستغلال الرأسمالي كهدف تاريخي، بل مساعدة الدولة و الباطرونا في تمرير قراراتها و مخططاتها نمودج ( التوقيع على مدمونة الشغل المذلة سنة 2003 من قبل قيادات المركزيات النقابية بالمغرب). كما تسعى دوما البيروقراطية إلى فصل السايسي عن النقابي. فقد سبق و أكد لينين على أنه " في ظروف الثورة يتلاشى الحد الفاصل ما بين الوعي النقابي التفاوضي و ما بين الوعي الثوري، لكن في الأوقات غير الثورية تبدأ المسافة في الإتساع و تبدأ البيروقراطية النقابية في الظهور" لذلك يحاول البيروقراطيون الإصلاحيون الترويج لفهم الإستقلالية عبر فصل النقابي عن السياسي، و بالتالي تحويل النضال النقابي هذا إذا فرض على القيادة النضال، إلى مجرد نضال "خبزي" في ما يصطلح عليه بالإقتصادوية النقابية، و هو ما يشكل حرف النقابة عن مسارها الصحيح الذي من أجله أنشأت، بحيث تقوم البيروقراطية بدمج الصراع الطبقي ضمن المنظومة الرأسمالية لتتحول النقابات من أدوات للصراع الطبقي ضد الرأسمالي إلى أدوات للتفاوض و التعاون مع الرأسمالي لتحقيق بعض الفتات ( إصلاحات جزئية ضمن المنظومة الرأسمالية سرعان ما تتراجع عنها الدولة و حتى لا تفي بها)، و هو ما يعتبر تدليسا واضحا يصب ضمنا في مصلحة النظام. و ما دامت المنظمة النقابية هي في الأصل مجموعة ضغط للدفاع عن الحقوق و المصالح المادية و المعنوية الجماعية و الفردية لأعضائه، و بالتالي كل ما يتعلق بهذه المصالح أو يسعى للمساس بها يصبح من اهتمام النقابة، سواء كان اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا، مع أننا نقر بالترابط الأكيد بين الإقتصادي و السياسي ترابطا دياليكتيكيا. و بما أن هذه المنظمات النقابية في ظل النظام الرأسمالي تبقى وسائل ضرورية لنضال البروليتاريا من أجل تحسين شروط العبودية الرأسمالية، و في النضال من أجل التحرر من هذه العبودية لا أقل و لا أكثر، و هي مسألة يعيها الرأسماليون، لذلك سعوا و يسعوا بكل جدية ليفرغوا هذه المنظمات من مضمونها، كي لا تضطلع بدورها المنوط، و هنا تتلالقى مصلحة البيروقراطية و الرأسمالي، و بما أن البيروقراطية هي شريحة من الطبقة العمالية أي مجموعة فرعية ضمن البروليتاريا تقوم بدور القيادة، فقد تحولت من خادم للمنظمة النقابية إلى سيد لها. و بالتالي فإن مهمتنا كمناضلين ديمقراطيين جذريين في محاربة البيروقراطية و إعطاء إجابة حقيقية، لا يمكن أن تتم ما لم نستعيد تراث الحركة العمالية العالمية حول هذه المسألة، و كذا تحليل ملموس لسيرورة الحركة العمالية المغربية و علاقتها بالتَبَقْرُط. و أول شيء يجب الإقرار به هو أن التبقرط حتمي في أي منظمة عمالية في صيغته الجنينية كميول، من خلال استحضار الإيديولوجيا السائدة في المجتمع الرأسمالي، لذلك يبقى المهم هو البحث عن السبل و الوسائل المناسبة و الفعالة لكَبْحِه و الحد من مداه الأقصى، و الإسترشاد بالخلاصات التاريخية لنضال البروليتاريا و قادتها العظام. و قبل اقتراح بعض النقاط التي يمكن الإسترشاد بها في مواجهة البيروقراطية النقابية لابد أن أشير باختصار شديد لبعض مظاهر التبقرط في أجهزة المنظمات النقابية العمالية و هي: تحول المتفرغيين و المنتفعيين البرجوازيين الصغار الذين يشكلون قيادة النقابة من خادم لمصالح العمال و الشغيلة، إلى شريحة ذات امتيازات منفصلة عن جماهير العمال و الشغيلة. إغتصاب حق العمال و الشغيلة في تقرير و تسيير شؤون نقابتهم و محاسبة قياداتها. اتخاذ أشكال (نضالية) مهادنة بما لا يهدد مصالحها المادية و الأجتماعية التي حققتها نتيجة تنصيبها كممثلة للعمال داخل النظام الرأسمالي. الحرص على عدم اصطدام نضالها بأسس النظام الرأسمالي و اقتصاد الربح القائم على الإستغلال. تبني في خطها السياسي شعار "الإصلاح و تلطيف الإستغلال الرأسمالي، وكبح كفاح العمال و الشغيلة من أجل التحرر". لذلك فإن مواجهة البيروقراطية النقابية كتشكيل إجتماعي متميز و رجعي في جوهره، هي عملية ذات وجهين، فمن جهة استحضار أن البيروقراطية تقوم بالسيطرة على الأجهزة التنظيمة للمنظمة النقابية و من ثم السيطرة على النضالات العمالية و إعاقة تطورها و نضجها، و في نفس الوقت عدم الدفع في اتجاه جعل النقابة عاجزة أمام أجهزة الدولة و الباطرونا، لتحافظ على إمكانية التفاوض. و قد سبق لكارل ماركس أن نبه إلى ذلك من خلال الملاحظات التي أبداها بخصوص كمونة باريس داعيا في إطار الحيلولة دون ظهور البيروقراطية إلى: النضال ضد الإمتيازات المادية عبر فرض ألا يزيد أجر موظفي البروليتاريا "أي المتفرغين أو ممثلي الموظفين و العمال" عن أجرة عامل متخصص. الحرص على أن يكون هؤلاء الموظفين منتخبين و قابلين للعزل في أي لحظة و في كل المستويات. ضرورة التداول على هذه الوظائف. و نظيف إلى ذلك : ضرورة الإرتباط اليومي بنضالات الطبقة العاملة و الشغيلة و خلق العلاقات الوثيقة مع العمال في معمعان الصراع و نضالهم في مختلف المناطق، و المساهمة في تطوير معاركم النضالية. الرفع من مستوى الوعي النقابي و السياسي لدى العمال و الشغيلة، الذين من شأنهما إعاقة الميولات البيروقراطية على لجم المعارك النضالية، و بالتالي الكشف عن وجهها الثاني ليس للمناضلين الديمقراطيين بل للعمال البسطاء و القادة النقابيين بالمنظمات القاعدية للعمال. و لأن منطق النضال لدى البيروقراطية منطق مقلوب، منطق يلغي الصراع ليعوضه بالتوافق و التعاون و الشراكة من أجل انتزاع بعض الفتات، مما يجعل (المعارك) النضالية التي تقدم عليها إن هي اضطرت تحت ضراوة الإستغلال و البؤس الذين ترزح تحت نيرهما الطبقة العاملة و الشغيلة، لا تخرج عن منطق التوافق و من داخله، و الدليل على ما نقول هو الإضراب الوطني الذي خاضه التنسيق الخماسي(umt وfneو ugtm وfdt وcdt) في قطاع التعليم شهر مارس من سنة 2019،الذي أبانت فيه الشغيلة التعلمية عن انخراط و تلاحم قل نظيرهما، لكن عوض التصعيد و الدفع بهذه النضالات في اتجاهها الحقيقي من اجل الضغط لاسترجاع المكتسبات و تحقيق الحقوق، كما تعلمنا إياه استراتيجية قيادة المعارك النضالية لجأت القيادات البيروقراطية المرتعشة خوفا من هذا النجاح الباهر إلى الإنتكاسة و التخلي عن جيش الشغيلة في ساحة المعركة في خيانة سيسجلها التاريخ، مما يؤكد بالملموس أن أجهزة الدولة هي التي ترسم حدود النضال للبيروقراطية و دائرته، و هو ما عبر عنه وزير التعليم أنذاك بالقول ( تاريخيا لم تجرأ أي نقابة أن تدعو لأكثر من ثلاثة أيام إضراب عن العمل متتالية)، مما يظهر توافقا مفضوحا و مكشوفا، الشيئ الذي أدى إلى كسر معركة بطولية كانت تقودها التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، وقد تكرر الأمر نفسه و ان بشكل مختلف و متفاوت هذه السنة، و هو ما يؤكد بالملموس منطق التعاون الطبقي عوض الصراع، و حتى تكتمل صورة الخيانة تم التوقيع على اتفاق مهزلة للسلم الإجتماعي يرهن مطالب الطبقة العمالية و الشغيلة لمدة ثلاث سنوات قادمة مع بعض المركزيات النقابية. لذلك نقول إن من لا يستطيع حماية المكتسبات القائمة لا يمكنه أبدا أن يضيف مكاسب جديدة، و عليه فإن الضرورة ملحة على: التربية النقابية الديمقراطية والكفاحية في صفوف العمال و الشغيلة. ضرورة إشراك العمال و عموم الشغيلة في تدبير الشأن النقابي بطريقة بيداغوجية تستهدف تفعيل إحساسهم بالثقة في نفسهم و دفعهم ليتعلموا ما كانوا محرومين منه من فكر و سلوك نقابيين. و تبقى من بين أهم الأليات التي يتم عبرها ترسيخ البيروقراطية داخل النقابات التعليمية خصوصا، خلق بؤر و جماعات متفرقة و معزولة عن بعضها البعض، والإيهام بخلق قيادات جديدة و زعامات، والتي تعني في نهاية المطاف قتل الديمقراطية، عن طريق تعويمها عبر فسيفساء مؤسساتي معقد قد يبدو في المظهر عبارة عن صياغة ديمقراطية للقرار، لكن الحقيقة هي أن هذه الأخيرة/البيروقراطية تحتكر نواته الصلبة، و تسهر على التدبير الإستراتيجي الفوقي لشؤون النقابة من خلال "ديمقراطية صورية" قائمة بالدرجة الأولى على الولاءات الحزبية بالخصوص من المركز والهامش و هو ما تكشف عنه تشكيلة اللجان الإدارية. و لأدل على هذه الأزمة الديمقراطية الداخلية للحركة النقابية بالمغرب وانحراف خطها عن طريقه الصحيح هو تنامي النضالات الفؤوية و انتظامها في لجان و تنسيقيات، مع استمرار منطق التحييد السياسي للعمال.