يمثل السوق الأسبوعي بالعالم القروي و الشبه الحضري، شريان الحياة بالنسبة لسكان البوادي و القرى على جميع الأصعدة سواء منها الإقتصادية أو الإجتماعية و السياسية و حتى الثقافية نظرا لما يتميز به الفعل الإجتماعي من شمولية، و هو ما يرمز له مفهوم السوق، باعتباره فضاءا إجتماعيا، فرغم أننا في القرن الحادي والعشرين حيث أصبح البيع والشراء أون لاين جراء الطفرة النوعية على مستوى وسائل الإتصال و التواصل عبر الشبكة العنكبوتية/الأنترنيت، و التي صارت تبتكر في أساليب التعارف و حتى التقدم للزواج وعقد القران وتنشيط الأحداث واللقاءات الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا لم يدفع سكان البوادي للإستغناء و التخلي عنه، حيث يقام البيع والشراء على المباشر، فماذا يعني السوق أولا؟ و ما هي أنواعه؟ و ما الدور الذي يضطلع به في حياة أهل البادية و أثار توقف إقامته عليهم؟ يُعرف قاموس المحيط العربي السوق باعتباره مصدر عن فعل ساقَ، و يقال ساقَ الإبلَ وغيرَها يَسُوقها سَوْقاً وسِياقاً،وهو سائقٌ وسَوَّاق، شدِّد للمبالغة، قال الخطم القيسي، ويقال لأبي زغْبة الخارجي: قد لَفَّها الليلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ. و السُّوقُ أيضا هي الموضعُ الذي يُجلبُ إليه المتاعُ والسِّلَعُ للبيع والابتياع تؤنَّث وتذكَّر، وسوقُ القتالِ أو العراكِ أَو الحرب: موضعُ اشتباك المتحاربين. عموما يعتبر السوق مكان عامّ يلتقي فيه البائعون والمشترون لبيع وشراء المنتجات والأوراق المالية والخدمات إمّا مباشرة أو من خلال وسطاء. وقد تكون الأسواق في الهواء الطلق أو داخل مباني، و يختلف وصف السوق من لغة لأخرى حول العالم، إذ يوصف ب”سوق” في اللغة العربية، وب”البازار” في اللغة الفارسية، و ب”الميركادو” في اللغة الإسبانية. و قد وُجدت الأسواق منذ انخراط الإنسان في التجارة، بحيث يُعتقد بأن أولى البزارات كانت قد نشأت في بلاد فارس، ومن هناك انتشرت إلى باقي أجزاء الشرق الأوسط وأوروبا، و تشير مصادر وثائقية إلى أن سياسات تقسيم المناطق حصرت التجارة في مناطق محددة من المدن منذ 3000 سنة قبل الميلاد، خالقةً الأجواء اللازمة لظهور البازار. أما في المغرب فإن السوق يحضر في ثقافة المجتمع بشكل كبير، عبر تاريخ طويل وحتى الآن، و انطلاقا من هذا الحضور الكبير والدال، نفترض أنه يمكن أن يسعفنا كمدخل واستراتيجية لفهم البنية والتركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع على حد تعبير الباحث الإجتماع محمد المستاري في مقاله “السوق كمدخل سوسيولوجي لفهم البنية والتراتبيات الاجتماعية”، سلوكًا وقيمًا وكذلك من حيث إدراك حجم التراتبيات الإجتماعية الراهنة. و ينقسم السوق إلى أنواع كثيرة حيث تقام بعضها بشكل يومي ويُطلق عليها تسمية الأسواق الدائمة، في حين تُقام الأسواق الأخرى مرة واحدة في الأسبوع و تسمى الأسواق الأسبوعية، أو مرة في السنة، في أيام قليلة محددة مثل الأعياد والمناسبات، وتسمى بالأسواق الدورية السنوية، أو ما يسمى بسوق العام، و تعتمد الهيئة التي يتخذها السوق على العدد السكاني للمنطقة والثقافة والأجواء المحيطة والظروف الجغرافية. و هناك الأسواق الممتازة التي اجتاحت المدن في السنوات الأخيرة، و يغطي مصطلح السوق العديد من أنواع التجارة، نتيجة لهذا، يُمكن أن توجد الأسواق في الأماكن المغلقة والمفتوحة. من خلال ما سبق يتضح أن السوق يحضر في فهمنا و إدراكاتنا الجمعية، بصورة نمطية و سطحي و باختزال شديد و بسيط، باعتباره مجرد فضاء وتجمع تجاري كبير للأنشطة والعلاقات التجارية فقط، لكن المقاربات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، تتخذ من هذه الأنشطة والعلاقات التجارية موضوعا للدراسة والبحث، باعتبارها صادرة ومعبرة عن السلوكيات العفوية للأفراد في كل تجلياتها. و قد عرفت هذه المقاربات الاجتماعية لمؤسسة السوق منعرجا كبيرا بعد دراسة الأنتروبولوجي الأمريكي “كليفورد غيرتز” حول سوق مدينة صفرو المغربية من خلال كتاب “تأويل الثقافات”، الذي ترجمه محمد بدوي سنة 2009. و تعتبر تلك المقاربة أولى المقاربات الأنثربولوجية، التي أعتقت السوق من المقاربات الاقتصادية البحتة التي لا ترى في تلك المؤسسة الاجتماعية سوى فضاء للتبادلات المادية، المساومة، الأسعار، العرض و الطلب و غيرها، متناسية كل التبادلات الرمزية المرافقة لها. أما “غيرتز” فيعتبر إلى حد ما أن لكل التصرفات الاجتماعية للأفراد تفسير في “مصفوفة” الثقافة عبر الأنثروبولوجيا التأويلية. لذلك فإني ساحوال في هذا المقال المتواضع أن أعرج على ما يمثله السوق الأسبوعي بالقرى و المداشر المغربية من أهمية على المستوى الأنتروبولوجي و السيوسيولويجي دون أن أغفل اهيميته الإقتصادية التي ظهرت بجلاء في ظل فرض حالة الطوارىء الصحية و التباعد الإجتماعي الذي نتج عنه توقيف الأسواق الأسبوعية بالبوادية و القرى المغربية، مما حرم الناس هناك من تسويق منتوجاتهم الفلاحية، في شكل ينم عن عدم تكافؤ الفرص بينهم و بين الفلاحين الكبار أو الإقطاعيين المرتبطين بعقود بيع و تسويق مع الشركات و المصانع الغذائية التي تأخذ عنهم منتوجاتهم الفلاحية بشكل منتظم، بينما الفلاحين الفقراء وجدوا أنفسهم أمام حالة كساد، فلا هم قادرون على بيع منتوجاتهم سواء كانت حيوانية أو نباتية، و لا هم قادرين على شراء المستلزمات الأخرى نظرا لعدم توفرهم على إمكانيات مادية لكون مصدر دخلهم مُجَمَدٌ إلى حين، طبعا هذا الجانب له أهمية كبرى يمكن أن أعود إليه في مناسبة لاحقة، لكن ما يهمني الآن هو كيف يحضر السوق الأسبوعي في الحياة الإجتماعية و الثقافية للأهالي بالقرى؟ لا شك أن لكل منطقة أو قبيلة أو حتى مجموعة من القبائل يوما في الأسبوع حيث يقام السوق، و غالبا ما يسمى هذا السوق باسم أحد أيام الأسبوع كسوق الأحد أو سوق السبت أو الأربعاء أو غيرها من أيام الأسبوع، مع استثناء يوم الجمعة إلا ناذرا، بحيث يعتبر يوم راحة للتجار المنتقلن إليه. و يشكل يوم السوق حلقة مفصلية في حياة الأسبوع للقرويين، فهو يحدد طبيعته و ملامح عيشه من خلال ما تم اقتناؤه من منتوجات، مؤشرا على حالة نفسية للمتسوق، سواء إيجابا أو سلبا، و يشكل عبئا على الفقراء، الذين يتأففون كلما اقترب موعده نظرا لضيق ذات اليد، و في نفس الوقت يتحول السوق إلى دورة تنظيمية/تقويمية لأيام الأسبوع، فعادة ما تختلط هذه الأيام و أسماؤها عندما يتوقف، و هو ما يحدث الآن جراء الحجر الصحي الذي فرض منع إقامة الأسواق الأسبوعية، و لهذا السوق طقوس و عادات، بحيث يعتبر يوم عطلة و راحة أسبوعية بالنسبة للمتسوقين، إذ تتوقف جميع أنشطتهم الفلاحية خاصة، ماعدا الرعي، ليفسح المجال للتسوق، الذي يستعد له هؤلاء بارتداء أجمل الملابس و كأنه عيد، و حلق الذقون من قبل الرجال، و تَحَلُق الأطفال حول الكبار في مسعى لإرضاء رغبتهم في التسوق، بعدما قضوا أسبوعا في تنفيذ أوامرهم خاصة على مستوى المساعدة في إنجاز المهام المنزلية أو الفلاحية، حيث يشكل السماح بالذهاب للسوق بالنسبة للأطفال جزاء لا يمكن أن يحصل عليه إلا القلة القليلة، و من لم ينل هذا الجزاء فقد يظطر إلى التسلل خلسة للسوق ليباغت أهله بين الخيام المنصوبة، و هو يعرف مسبقا أنه لن يتلقى أية عقوبة على الأقل آنية، نظرا لأن العقاب ضربا في السوق نذير شؤم، أو على الأقل هذا ما ترسخ في المخيال الشعبي، الذي يحكي عن قصص لأشخاص كُثُر غضبوا و بكوا بالسوق فمسهم الجن أو شيء من هذا القبيل، و هنا تحضر قدسية السوق في اللاوعي الجمعي، لذلك فالمحظوظ وحده من الأبناء/الأطفال الطيعين من سيظفر بالتسوق ليحصل على بعض البقشيش من أفراد العائلة، و قد يلجأ رب الأسرة إلى إعمال مبدأ المداورة او التناوب على التسوق إزاء أطفاله. كما يشكل السوق مناسبة إجتماعية مواتية و عائلية/أسرية حيث يلتقي أفراد العائلة خاصة الأصهار و أزواجهم المتواجدون بدواوير متباعدة نوعا ما و التي تحول ظروف العمل الأسبوعية دون لقائهم، فيصبح السوق مناسبة ينتظرها الجميع بفارغ الصبر للإلتقاء بهم و الإطمئنان عليهم، لذلك ينتاب الأهل القلق تجاه من لم يحضر للتسوق من العائلة أو حتى من الأصدقاء، على اعتبار أن ذلك نذير شؤم يوحي باحتمال حصول المرض أو مكروه ما حال دون التسوق، ناهيك عن كون السوق و التسوق كعادة من شأنها زيادة عمر/سن المتسوق كما رسخ في الذاكرة الشعبية للبدويين. كما أن السوق الأسبوعي مكانا للتقاضي أيضا عبر اللجوء إلى ما يسمى القاضي العرفي، الذي يحكم وفق ما تنص عليه أعراف و تقاليد و عادات المنطقة، للفصل في النزاعات و الخلافات التي تنشب بين الفينة و الأخرى بين أبناء القرى حول قضايا الزرع و الرعي و غيرها. ناهيك عن أن السوق الأسبوعي مناسبة لوضع ترتيبات حفلات الزواج بعدما ما يتم توثيق عقوده لدى العدول الذين يصعب الإتصال و التواصل معهم إذا ما تم تفويت فرصة السوق. و لهذا السوق أيضا بعد اجتماعي تضامني، يتجلى لدى حصول سرقة داخله، إذ يتعبأ الجميع من أجل إلقاء القبض على السارق/اللص، و تطبيق شرع القبيلة فيه، إذا لم يتدخل أعوان السلطة في الوقت المناسب، و يبقى للسوق طابع إحتفالي فرجوي ترفيهي من خلال الإستمتاع و متابعة (الحْلاَيْقِيَة) في إطار عرض إبداعاتهم الفنية داخل حلقة ينتظرها عشاقها بفارغ من الصبر كل أسبوع، و مناسبة لتذوق مأكولات المقاهي الشعبية، كما لا يجب أن تغيب عن أذهاننا كون السوق الأسبوعي يمكن أن يمثل مكانا للقاء بين العشاق، و فرصة لتلقي و نشر و تبادل الأخبار. لذلك توقيف السوق و منعه لم يحرم القرويين فقط من موردهم الإقتصادي و إنما حرمهم من تحقيق تلك الغايات المذكورة و غيرها ربما غاب عني، لا تقل أهمية عنها رغم كوننا نعيش زمن الإنفجار المعلوماتي. ذ.شفيق العبودي