محمد إنفي لا يمكن للمواطن المغربي- خاصة الذي لا تستهويه الفرقعات الإعلامية، ولا يغويه استسهال المواقف والأحكام المسبقة، ولا تخدعه المزايدات السياسية وغير السياسية، ولا ينساق وراء العواطف أو مع الموجة؛ وإنما يُحكِّم عقله اعتمادا على الحجية والبرهان والفرضيات المنطقية، قبل أن يصدر حكما أو يساير رأيا – لا يمكن لمن بهذه الصفات (وشخصيا، لا أزعمها لنفسي) أن لا يطرح سؤال دوافع وأهداف هذه الضجة الإعلامية التي شغلت الرأي العام، في هذا الظرف الوطني الحساس الذي يتميز بوعي وطني كبير وبتلاحم وطني واسع ضد جائحة كورونا وأخطارها المحدقة؛ تلك الضجة المثارة حول مادة واحدة من أصل 25 مادة في مسودة مشروع قانون لم يصبح بعد رسميا باعتراف المنابر الإعلامية المتتبعة للموضوع. فمسودة المشروع المذكور لم تُنشر لا في موقع الأمانة العامة للحكومة ولا في موقع رئاسة الحكومة؛ فأحرى أن تصل إلى المؤسسة التشريعية بغرفتيها المخولة دستوريا بمناقشة المشروع وإدخال التعديلات الضرورية عليه قبل مرحلة المصادقة. فهي إذن قفزة في فراغ بهدف إحداث دوي في الفضاء الوطني العام من أجل إلهاء الناس عن الأهم. الضجة الإعلامية مردها إلى تسريب مادة واحدة مثيرة للجدل (لاحظوا عدم تسريب المسودة كاملة؛ مما يدل على سوء نية)، اقتطعت من المسودة المشار إليها في الفقرة أعلاه وتم تسريبها إلى وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو عمل غير بريء وغير مسؤول، بكل تأكيد. فردود الفعل التي أثارها هذا التسريب خلقت بلبلة، حتى لا أقول فتنة، لدى الرأي العام في هذا الظرف المتميز بالتعبئة الوطنية الشاملة ضد جائحة كوفيد-19. لقد كانت ردود الفعل سريعة وقوية، رغم تباينها من حيث الشكل والمضمون؛ لكنها كانت، في غالبيتها، حتى لا أقول كلها، متفقة على رفض المساس بحرية الرأي والتعبير وحرية الاختيار… وهذه نقطة مضيئة في هذه النازلة لكونها تدل على يقظة الرأي العام؛ لكن هذا الرأي العام، أريد تضليله وتوجيهه وفقا لأهداف مرسومة مسبقا؛ مما يدل على أن الذين يقفون وراء هذه الفعلة، لهم نوايا غير سليمة وأهداف غير نبيلة؛ بل غاية في الخسة والنذالة. وكيفما كان الحال، فالحكومة مسؤولة عما حصل؛ فهي التي تتوفر على مسودة المشروع، وهي التي صادقت عليه في اجتماعها يوم 19 مارس 2020، وهي التي كلفت لجنة تقنية ولجنة وزارية لاستكمال دراسة المشروع وإبداء الملاحظات حوله وتقديم التعديلات اللازمة في شأنه حتى يكتسب طابعه الرسمي؛ ثم بعد ذلك تحيله الحكومة رسميا على البرلمان. وتزداد مسؤولية الحكومة عن الزوبعة – التي أحدثها تسريب مادة من مسودة المشروع المصادق عليه، لكن على أساس أن يتم استكمال دراسته قبل أن يكتسب صبغته الرسمية- بعد أن خرج عضو منها عن الإجماع الذي حصل في اجتماع 19 مارس المشار إليه في الفقرة أعلاه؛ وذلك بإصدار مذكرة ضمَّنها ملاحظاته حول المشروع المذكور، بينما كان من المفروض أن يساهم مع زملائه في اللجنة الوزارية المكلفة بدراسة نص هذا المشروع من أجل تقديم مذكرة باسم اللجنة، تتضمن الملاحظات والتعديلات التي تقدمها لتجويد النص الأصلي للمشروع. إن ما قام به السيد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، المصطفى الرميد، ليطرح أكثر من تساؤل حول أهدافه الآنية والبعيدة من هذه الخرجة الإعلامية المسيئة للإجماع الوطني الذي حصل في المجتمع المغربي حول مؤسسات بلاده. ومما يبعث على الشك والريبة، تسريب المذكرة إياها إلى بعض المواقع الإليكترونية التي نشرتها بعنوان “الرميد يقدم ‘مرافعة' ضد قانون يقيد حرية التعبير…”؛ وهو عنوان ملغوم يوهم القارئ بأن الوزير المكلف بحقوق الإنسان غير موافق على القانون المذكور؛ بينما تمت الموافقة عليه بالإجماع في اجتماع 19 مارس الذي أشرت إليه آنفا. أمام هذه النازلة، أجد نفسي مضطرا لتصديق كل الكتابات التي تُحمِّل مسؤولية تسريب المادة (أو المواد) المثيرة للجدل- في مسودة مشروع القانون المتعلق بتنظيم المواقع الإليكترونية وما يدخل في حكمها- إلى وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان. ومذكرته خارج اللجنة الوزارية المكلفة بدراسة نص المسودة، تقوم دليلا على ذلك. وتفضح نواياه محاولة ظهوره بمظهر المدافع الصلب عن حقوق الإنسان؛ بينما يعلم الحقوقيون موقفه الحقيقي وموقف حزبه وموقف حركة التوحيد والإصلاح من موضوع حقوق الإنسان في بعدها الكوني. وبالتالي، فمذكرته تكشف نفاقه وتثير الشك في نواياه الحقيقية من وراء هذه الزوبعة. ويبقى السؤال، بل الأسئلة، عن الهدف المباشر من هذا السلوك غير المسؤول. فهل للأمر علاقة بصراع المواقع داخل حزب العدالة والتنمية، كما ذهب إلى ذلك البعض؟ أم أن الأمر مرتبط بالصراع داخل الأغلبية الحكومية وبمسألة ميزان القوى السياسي الذي مال نحو الكفاءة والفعالية، فانكشفت عورة الحزب الأغلبي من خلال الحضور الباهت لوزرائه وأدائهم الفاشل، كما ذهب إلى ذلك البعض الآخر؟ وإذا كان الأمر كما طرحه السؤال الثاني، وهذا ما أميل إلى تصديقه، فهو في غاية الخطورة؛ فمعنى ذلك أن هناك نية لكسر، أو على الأقل للتأثير سلبا على اللحمة الوطنية التي تحققت في مواجهة كورونا؛ وذلك، لأهداف سياسية ضيقة تضع مصلحة الحزب ومصلحة الجماعة فوق مصلحة الوطن. شخصيا، لا أستغرب هذا الأمر من إخوان بنكيران الذي كان يصر على لعب دور المسؤول الأول عن الحكومة ودور زعيم المعارضة في نفس الوقت. ويعرف كل المتتبعين أن حزب العدالة والتنمية في حملة انتخابية دائمة وبكل الطرق السرية والعلنية. ويبدو، من خلال مذكرة السيد مصطفى الرميد والحملة المسعورة على وزير العدل، الأخ محمد بنعبد القادر، أن حزب العدالة والتنمية يريد استعمال كل الأسلحة وكل الأساليب والوسائل، بما فيها الأكثر دناءة وخسة، من أجل استرداد بعضا من حضوره على حساب حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ويتجلى ذلك في الهجمة الشرسة على الوزير الاتحادي وإظهاره كمن يريد أن يكمم الأفواه ويعيدنا إلى سنوات الجمر والرصاص في تنكر تام لتاريخ حزبه وتضحياته من أجل الحرية بمفهومها الواسع (حرية الصحافة، حرية الرأي، حرية التعبير، حرية الضمير، الحرية الفردية، الحرية الجماعية…)؛ والحال أن أية اتحادية أو أي اتحادي، في القاعدة كما في القيادة، لن يرض بالتضحية بالمكتسبات الحقوقية التي استرخص الحزب من أجلها الغالي والنفيس. وكيفما كان الحال، فإن التركيز على وزير العدل مقصود من أجل دفع المسؤولية عن رئيس الحكومة وعن حزبه الأغلبي وإلصاق التهمة بالوزير الاتحادي، وبالتالي بالاتحاد؛ بينما المسؤولية تعود، دستوريا وعرفيا وقانونيا، إلى رئيس الحكومة؛ حتى لو افترضنا أن وزير العدل ارتكب، بالفعل، خطأ في تقديره للأشياء عند تقديمه لمشروع القانون المذكور. وإذا كان غيرنا ليست له أخلاق سياسية، فنحن من مدرسة الأخلاق السياسية؛ مدرسة عبد الرحيم بوعبيد وكل القادة الاتحاديين التاريخيين منهم وورثتهم في النضال وفي الدفاع عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومؤسسات الدولة من أجل تمنيع بنائنا الديمقراطي وتطويره خدمة للمصلحة العليا للوطن. وباسم هذه الأخلاق، رفض الأخ محمد بنعبد القادر الانخراط في الحملة الإعلامية الحالية، معتذرا للمنابر الإعلامية التي اتصلت به، ومنها الصحافة الاتحادية، طلبا للتوضيح أو إبداء رأي أو إعلان عن موقف، مع إعطائهم وعدا بتنظيم ندوة صحفية بعد خروج بلادنا من وضع الحجر الصحي. ومع ذلك، يصر البعض على حشر الاتحاد الاشتراكي في الموضوع؛ وهو ما يطرح أكثر من سؤال؛ خاصة وأن هذا الإقحام يتخذ، أحيانا، أشكالا هجومية تتجاوز حرية الرأي وحرية التعبير. لن أتفاعل مع الذباب الإليكتروني لنجاسته؛ خاصة وأننا في شهر الصيام، وأترك الزمان يلعب دوره كمبيد ومطهر من التفاهات والسخافات التي يروجونها هذا الذباب. ولن أناقش المتحاملين على الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سواء منهم الذين يعانون من عقدة مستحكمة تجاه تاريخ ونضالية وكفاءات هذا الحزب، أو الذين هم أعداؤه وخصومه السياسيون المتربصون به في كل منعطف أو منعرج. لكن، لن أترك الفرصة تمر دون أن أعبر عما أشعر به من ألم ومن اشمئزاز مما أصبحت عليه الثقافة السياسية لدى البعض من ضحالة ومن ترد مريع، وأنا أسجل تهافتا غير مفهوم عند بعض من يُحسبون على الاتحاد، ولا يتورعون عن مسايرة وترويج افتراءات صادرة عن جهات تناصب العداء للاتحاد، بدون حتى أن يعطوا لأنفسهم فرصة الاطلاع على ما يقوله الاتحاديون أنفسهم حول هذا الموضوع، سواء في صحافة الحزب أو في مواقعهم الخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي. فلم ينتظروا أن يكونوا فكرة ولو بشكل جزئي عن الموضوع؛ بل انساقوا وراء الأقلام المأجورة والأصوات الحقودة، فأصبحوا أكثر ضررا لحزبهم من أعدائه الحقيقيين. خلاصة القول، شتان بين من يناضل من أجل تحقيق مكسب آني، شخصي كان أو حزبي، وبين من يعمل من أجل المصلحة العامة، والحزب بالنسبة إليه ليس إلا وسيلة لتحقيق هذه المصلحة العامة. ونحن في الاتحاد، يكفينا أن حزبنا “قد أدى.. من وحدته، ومن جسمه ومن استمراره ثمنا كبيرا، من أجل أن يظل الترابط بين المعارك الوطنية الكبرى والحرية، قائما، وأحيانا ألزمه ذلك تمزقات أليمة لا مجال لذكرها..” (عبد الحميد جماهري، جريدة “الاتحاد الاشتراكي”).