أحمد رباص بناء الذات، عند نيتشه كما عند مونطيني، هو مشروع فردي بشكل أساسي. لا يترك الفرصة لأن نقلد، بالمعنى الأساسي للكلمة، المثال الذي قدمه شخص آخر. لأنه بدلا من أن نبدع ذواتنا، فإننا نقوم بتقليد ذلك الشخص الآخر. ومع ذلك، لا يتم تهديد الفردية فقط عندما نقلد شخصا آخر، ولكن أيضا، بطريقة أكثر قتامة، وأكثر خطورة ، عندما تتم محاكاتنا من قبل الآخرين. يتميّز نيتشه عن الفلاسفة الآخرين الذين فكروا في فن العيش من خلال الوعي الحاد الذي حصل له بهذا الخطر والقلق الذي تسبب له فيهما هذا التهديد. النجاح في خلق الذات يمكن أن يؤدي إلى فشل هذه المهمة نفسها. لأنه إذا تم تقليدنا بالفعل من قبل الآخرين، إذا كان أسلوب الحياة الذي وقع عليه اختيارنا يكفي لباقي العالم ليصبح نموذجًا للطريقة التي يجب أن تعاش بها الحياة بشكل عام، عندئذ فان ما يميز في الأصل الفرد عن العالم الذي يعيش فيه يبدأ يشكل جزءًا من هذا العالم. انه ليس هو؛ هذا الشخص يصير، لاستخدام كلمات نيتشه، واقعة: ” المقلدون. – أ …: “كيف؟ لا تريد أن يكون لك مقلدون؟ – ب …: “لا أريد تقليدهم لشيء ما من عنديتي ، أريد أن يكون كل واحد نموذجًا لنفسه: هذا ما أفعله. ” – إذن… ؟ ” ” تفترض الفردانية، مثل الأسلوب ، التعددية والمعارضة. إذا كان الجميع يتبنى النمط نفسه، فإن الأسلوب يختفي: لا يعود سوى طريقة عادية للتصرّف، أي درجة الصفر في الحياة. يتعرض تاريخنا الفردي لخطر تقليد النموذج الذي يقدمه شخص آخر وخطر أن يصبح هو ( التاريخ ) ذاته نموذجًا يحتذي به الآخرون بدورهم. إن الجمع بين هذين الخطرين هو أحد الأسباب التي تجعل موقف نيتشه تجاه سقراط معقدًا للغاية، في نهاية التحليل، كما سنرى. يدرك نيتشه تمامًا أنه ليس من الضروري أومن الممكن أو من المرغوب فيه، دونما شك، أن تكون الحياة التي قام ببنائها مثالاً يحتذى به. هذا واحد من مظاهر نزعته “المنظورية”. ويعتقد، مثل مونطيني، أن حياة كل فرد تتكون من مجموعة فريدة من الأحداث. لا وجود لطريقة شاملة يصنع بها الانسان تاريخه الخاص – إلى الحد الذي يكون في الواقع تاريخه وليس التاريخ التي تمليه المعايير المقبولة من لدن العالم بشكل عام. يجب أن يكون الأفراد ، على الأقل جزئيا ، مستقلين عن المعايير التي تحكم العالم الذي يحيط بهم. لكن نيتشه يعتقد أن هذه المعايير تحدد، بشكل عام، ما هو حسن وما هو ليس بحسن. ويقول إن البشر ” حيوانات اجتماعية “، لأنه يعتقد أن الانسان يكون صالحا يعني أنه في تناغم مع العالم الذي يعيش فيه، ألا يثير اهتمام الناس، ألا يهدد أو يقلب الحياة التي يكون معظم الناس قادرين على عيشها. تفرض معايير الخير على الجميع القيام بما يفعله الآخرون. بل إنها استعملت لإقناع عدد كبير من أولئك الذين ربما تصرفوا بشكل مختلف بالتنكر لاختلافهم، بالانضمام الى القطيع. هذا هو الجانب الثاني من لاأخلاقية نيتشه. فالأخلاق ، كما يراها ، تحاول منع خلق إمكانيات جديدة ، منع تدمير المعبد: “من الذي يكرهه [الصالحون] أكثر؟ إنه المبدع الذي يكرهونه أكثر من غيره: الشخص الذي يكسر الطاولات والقيم القديمة، هو الكاسر – هو من يسمونه بالمجرم. / لأن الصالحين لا يمكن لهم أن أن يبدعوا: فهم دائما بداية النهاية: – / – انها يصلبون الشخص الذي يكتب قيما جديدة على ألواح جديدة […] “. للحديث عن الأمر بكلمات عامة، تأتي الأخلاق أولاً لتلتصق بالمبادئ التي تمليها احتياجات مجموعة معينة. هذه المبادئ مبنية على رغبة المجموعة في البقاء كما هي: من لا يلتزم بهذه الرغبة لا يجب أن يتقيد بها ( المبادئ). لكن الأخلاق تخفي الأصول المعنية والجزئية لهذه المبادئ المشروطة. هي تفرض أن تحظى مبادؤها بالقبول ليس لأنها نافعة لفئة معينة وعادية من الناس ولهذه الفئة وحدها. هي تدعي أنها مبادئ غير مشروطة، وأنه يجب قبولها لمجرد أنها صالحة بوجه عام، وبالتالي تنطبق على الجميع – أيا كانت آراؤهم واحتياجاتهم ورغباتهم – وليس فقط على فئة معينة بحكم أقدارها الخاصة. مثلا، الأمر الأخلاقي الذي يريد منا ألا نسيء لأحد ” يعني باختصار، اذا ما استمعنا إليه ببرود ودون تحيز: “نحن، الضعفاء، إنا ضعفاء بكل تأكيد ؛ سوف نعمل جيدًا على ألا نفعل أي شيء لسنا عليه أقوياء بما فيه الكفاية.” – لكن هذا الإقرار المرير، هذه الحكمة المتدنية جدا التي تمتلكها حتى الحشرة، ظهرت كواجهة مفخمة لفضيلة تعرف كيف تنتظر، تنبذ وتصمت ، كما لو كان ضعف الضعفاء ذاته – أي ماهيته، نشاطه، واقعه الفريد كله، الحتمي واللايعوض – كان إنجازًا حرًا ، شيئًا مرغوبًا فيه، مختارا، فعلا، استحقاقا. ” الأخلاق تحول الحيطة الى فضيلة والضرورة الى اختيار. سقراط، وفقا لنيتشه، هو الذي أعطى أولا منحى أخلاقيا لأحكام القيمة. في سياقها الأصلي، أي في الثقافة اليونانية المبكرة، تم إصدار أحكام القيمة تلقائيًا من الافتراض الضمني أنها اكتسبت بالثقافة وببقائها. ولذلك توقفت على رفاهية هذه الثقافة بالذات – بعبارات كانطية ، كانت ” افتراضية ” وحذرة. لكن سقراط أكد أن أحكام القيمة يجب أن تكون غير مشروطة. وأصر على أنه، لكي تنطبق عى شخص ما، كان عليها أن تستند إلى أسباب وجيهة لدى الجميع، حتى لو اختلفت احتياجاتهم وأقدارهم. سقراط اذن هو أصل الفكرة القائلة بأن كون نمط حياة يخدم مصالح وأقدار أشخاص أو مجموعات معينة لا يشكل أبداً سبباً أخلاقياً لقبوله. يجب أن نتبنى مسارًا للعمل فقط إذا كان صحيحًا، إذا كان يجسد القيم الحقيقية والأفكار الصحيحة. أن تتبني نمط حياة لأسباب احترازية فذاك نابع من اختيار، من رغبة في أن تكون مثل أولئك الذين يعتقدون أن نمط الحياة هو ما يجعل هذه الحياة جيدة أم لا. اعتماد أسلوب حياة لأسباب أخلاقية نابع من التزام، من الاعتراف بصحته. الخير والحق، مثل الفضيلة والمعرفة، يسيران جنبا إلى جنب. أجاب آرثر دانتو على ذلك بأن وجهات النظر، وفق نيتشه، لا تكون صحيحة الا إذا ” أبرزت قيمة الحياة ويسرتها”. نيتشه، إذا التزمنا بتفسير دانتو المقبول على نطاق واسع، ” اقترح معيارا براغماتيا للحقيقة: ب صادق و ج كاذب إذا كان ب يعمل و ج لا يعمل” . قد تشير بعض المقاطع في عمل نيتشه إلى أنه ربما كان يميل في بعض الأحيان إلى التمسك بمثل هذه النظرية. لكن البعض الآخر يظهر أنه يرفض البراغماتية بطريقة أكثر وضوحا: ” الحياة ليست حجة. – لقد قمنا ببناء عالم يمكننا العيش فيه – مع الاعتراف بوجود أجسام، خطوط، أسطح، أسباب ونتائج، حركة وسكون، شكل ومحتواه: بدون عناصر الإيمان هاته لا يقوى أي أحد على الحياة! لكن ليس ذلك حجة في صالح هذه العناصر. الحياة ليست حجة. ضمن ظروف الحياة يمكن أن يتواجد الخطأ. ” قد تكون الأفكار الأساسية والأحكام التي تضمن البقاء على قيد الحياة، مع كل ما نعرفه عنها، خاطئة على الرغم من كل شيء. يرفض نيتشه مماثلة الحقيقة بالمنفعة التي يدعو إليها البراغماتيون. وبدون اللجوء إلى النص، يجب التأكيد على أن إسناد مثل هذه المماثلة إلى نيتشه هو تعريض فكره لواحد من أهم الاعتراضات التي يوجهها هو نفسه إلى الدوغماتية. لماذا نعتقد أن قيمة الحقيقة غير مشروطة، أن “ليس هناك ما هو أكثر ضرورة من الحقيقة ، وفيما يتعلق بها ، فإن كل الباقي له قيمة من الدرجة الثانية فقط”؟ لا يمكن لأي حساب بمنطق المنفعة أن يقنعنا بذلك: ” ماذا تعرفون في المقام الأول عن طبيعة الوجود حتى تكونوا قادرين على تقرير ما إذا كانت الميزة الأكبر هي إلى جانب الحيطة المطلقة أو إلى جانب الثقة المطلقة؟ لكن في حال كان كلا الأمرين ضروريين، […] من أين يستمد العلم اذن إيمانه المطلق، هذا الاعتقاد الذي يتخذه أساسا له، ( الذي مفاده ) أن الحقيقة أكثر أهمية من أي شيء آخر، وأيضاً أكثر أهمية من أي اعتقاد آخر؟ هذه القناعة، على وجه التحديد، لم يكن من الممكن أن تكون قد تشكلت، إذا كانت الحقيقة واللاحقيقة تؤكدان، في نفس الوقت، منفعتهما، تلك المنفعة التي هي واقعة. ” تنفي الفلسفة البراغماتية هذا التناقض على وجه التحديد بين الحقيقة والقيمة. نيتشه ليس براغماتياً، وهو لا يقبل بتاتا أي نظرية أخرى عن طبيعة الحقيقة. على العكس من ذلك، هو يدافع عن الفكرة الهامة والمثيرة للجدل والتي مفادها أنه لا فائدة ترجى من محاولة تفسير الحقيقة. إنه لا يعتقد أن هناك تعريفا للحقيقة، طريقة مفيدة ووحيدة بها نفسر لماذا تكون جميع أفكارنا صادقة. يعتقد الكثير من الناس أنه في غياب مثل هذا التعريف، لا يمكن لأي فكرة من أفكارنا أن تكون صادقة على الإطلاق ؛ أو أنه إذا كانت الفكرة صادقة ، فقد كانت كذلك بدون سبب. لكن هذا خطأ. يمكننا أن نجد سبباً محدداً، أحياناً معقدا جداً ، لكل ما نعرفه ؛ هذه الأسباب تكون مختلفة باختلاف الحالات؛ بعضها ليس أكثر تعقيدا من اثنين + اثنين = أربعة، والبعض الآخر معقد مثل براهين الفيزياء المعاصرة. تنفي النزعة المنظورية القدرة على أن نستخلص من كل هذا صيغة عامة مفيدة وعادلة في نفس الوقت.